بعد رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات اعترى نهجَ السلطة تغيراتٌ لا تخطئها العين، ولعل أبرزها ذاك الذي وصل إلى أشكال النضال؛ إذ عمل الرئيس محمود عباس على استبعاد أية مظاهر عسكرية، حدث هذا قبل أن تكتمل عملية التحرر والاستقلال، وترتب على ذلك تطورٌ إيجابي في علاقات السلطة الفلسطينية، مع الولايات المتحدة، وإسرائيل، على نحو خاص، وكان الدعم المالي، والإشراف الأمني الأمريكي أوضح تجلياته.

التزمت السلطة بخطة خارطة الطريق، ولا سيما في شقها الأمني؛ فمنعت مظاهر التسلح، وحظرت أية نشاطات فصائلية عسكرية، أو شبه عسكرية، ولم تكن حركة فتح التي عُدَّت في عهد عرفات quot;حزب السلطةquot; بمعزل عن تلك الضوابط.

كانت الإخفاقات والتراجعات التي منيت بها quot;فتحquot; من بين الأسباب التي هيأت للحدِّ من نفوذ الحركة على الساحة الفلسطينية، وإنهاء تفردها بالقرار والمؤسسات، وعلى المستوى الأمني خضعت العناصر الأمنية لمقاييس مهنية غير تنظيمية، وأصبح سلام فياض، رئيس حكومة تصريف الأعمال، يحظى في أوساطها باحترام ظاهر، وانتقل ولاؤها من التنظيم إلى السلطة. والمحصلة لما سبق، وغيره، انحسارُ الحضور الفتحاوي في السلطة والحكومة، ووفقا لمعلومات صحفية، اشتكى أعضاء في المجلس الثوري للحركة في اجتماعه الأخير من إقصاء فتح عن المراكز الحساسة في الحكومة التي يترأسها فياض.

ويطالب المجلس الثوري باستعادة الوزارات quot;السياديةquot; إلى فتح، وهي المالية التي يشرف عليها فياض، والخارجية التي يتولاها رياض المالكي، كما يطالبون باستعادة أمانة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مرجعية السلطة الفلسطينية، من ياسر عبد ربه، فضلا عن استعادة الإشراف على التلفزيون الرسمي الفلسطيني منه، والثلاثة الذين يهيمنون على أهم المراكز الحساسة- باستثناء وزارة الداخلية التي احتفظت بها فتح- هم من خارج الحركة؛ ما يعزز بحسب أعضاء في المجلس الثوري وجود quot;حالة تهميشquot; طالت التنظيم الذي يهيمن على الضفة الغربية، منذ الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة.وعلى خلفية هذه المطالب التي تستبطن مخاوف التهميش، أسئلةٌ عن الدوافع: هل هي سياسية؟ أم هو على خلفية الصراع على النفوذ والمصالح؟ هل ثمة اختلاف، بين الحركة والسلطة، في الأهداف والرؤى؟ أم ثمة تباين في الخيارات الواجب انتهاجها في مواجهة هذا التعنت الإسرائيلي، وتعثر المشروع الوطني الذي ترى فتح أنها حارسته، وقائدته؟

بالرغم من التوافق العام على مشروع الدولة الفلسطينية، فإن بعض المتابعين يرى أن استعادة فتح لمكانتها السابقة في السلطة من شأنه أن يؤثر على مساعي الأخيرة في استبقاء الرضا الأمريكي، والوفاء بمتطلبات خارطة الطريق، ولا سيما أن في فتح أصواتا لا تخفي امتعاضها من الدور الذي يمارسه الجنرال الأمريكي كيث دايتون على أجهزة السلطة الأمنية. فضلا عن مخاوف من تراجع الانضباط المالي والإداري الذي عرفته السلطة برئاسة فياض للحكومة، وإشرافه على ماليتها.

ومن الواضح أن الكفة راجحة -من الناحية العملية- لصالح النهج الذي يتبناه عباس وفياض؛ إذ بات واضحا بعد حصار عرفات في المقاطعة، وعزله سياسيا الثمنُ الباهظ الذي يترتب على الفلسطينيين دفعه؛ إذا اختاروا إدارة الظهر، أو خفض التعاون، مع الإدارة الأمريكية. ولعل مَنْشأ التباين بين فتح والسلطة في اختلاف وظيفة كل منهما، فالأولى حركة تحرر وطني، والثانية سلطة رسمية تسعى لاستكمال الاستقلال وفق التزامات دولية محددة. وتدرك قيادة فتح، وأطرُها التنظيمية أن تماهيها مع السلطة قد جرَّ عليها الكثير من الخسائر؛ فتحملت نتائج إخفاقات السلطة السياسية، والفساد المالي والإداري الذي اعتراها.

ولا يخفى أن مكانة السلطة ما لبثت تقوى، وتمتد، على حساب منظمة التحرير، وحركة فتح، وحتى مؤتمر الحركة السادس حقق للسلطة أكثر مما حقق لفتح؛ إذ تمكن أبو مازن من احتواء الحركة، وَفْق برنامجه، وتحت قيادته، حين عقد المؤتمر في الضفة الغربية، بعد أن نجح في استمالة بعض المخالفين، مثل أبو ماهر غنيم، المفوَّض العام للتعبئة والتنظيم، وأحد المؤسسين، ونجح في إسكات آخرين، وأبرزهم اللواء محمد جهاد، عضو اللجنة المركزية، والمسؤول العسكري الأول في الحركة الذي سبق أن هاجم فياض، واتهمه أنه ينفذ مخططا لعدم عودة فتح لتسلم الحكم. وفي المؤتمر السادس للحركة أشرك أبو مازن 1200عضو، معظمهم من الضفة الغربية، ثم غزة، وأقلُّهم من الخارج، وفي المؤتمر تضاعف عدد الأعضاء لينتهي بـ 2250 عضوا، وهذا يعني تغييرا كبيرا في البِنْية.. لم يكن عديمَ الأثر على مواقف الحركة، وبرنامجها؛ فقدمت الخيار التفاوضي على خيارات المقاومة، وهي وإن أبقت على المقاومة المسلحة، إلا أنه بقيت بلا تفعيل، ولا ينفك الرئيس عباس يستبعدها، ويحذر منها.

وكذلك، نجح عباس في تجاوز فاروق القدومي، وتهميشه؛ إذ صرح نبيل شعث عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، مفوض العلاقات الخارجية فيها، لـ'القدس العربي' في السادس والعشرين من يناير( كانون الثاني) بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتولى حاليا المسؤولية عن الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن فاروق القدومي لم يعد له أي علاقة بتلك الدائرة. ولم تفلح حملة القدومي على عباس، واتهامه بالتواطؤ على قتل عرفات، في إفراز نتائج عملية؛ إذ لم يصادف quot;أبو اللطفquot;، في دعاويه، أية قيادات داخلية، تناصره، أو تتساوق مع أهدافه. ومن قبل تم عزل، عضو اللجنة المركزية للحركة، هاني الحسن، وتهميشه بعد أن اصطدم بتيار محمد دحلان، متهما إياه بالعمل تحت قيادة دايتون. وما زال الإفراج عن القيادي الكاريزمي في الحركة، مروان البرغوثي، وعضو لجنتها المركزية، غيرَ متحقق، ولا مؤشرات على قرب حدوثه، وهو الذي صرح من سجنه بمخالفته لنهج عباس المقتصر على النضال الشعبي السلمي.

وفي ضوء هذه التعديلات التي شهدتها حركة فتح، يطرح السؤال عن مصيرها: هل يُسار بها نحو التهميش، والإقصاء، أم نحو الاحتواء وquot;التهذيبquot;؟ لا يبدو أن السلطة، بصفتها الاعتبارية، والحكومة برئيسها سلام فياض، قادرة على تجاوز حركة فتح، أو الاستغناء عنها، ولا سيما في هذا الطور الانتقالي الذي يواجه فيه النهج التفاوضي المعوِّل بنسبة عظمى على الدعم الأمريكي، والدولي، تعثرا واضحا. وتتوقف العلاقة بين السلطة وفتح على توفر ظروف تسمح بالتوافق على الخيارات المعتمدة في مواجهة هذا الاستعصاء السياسي.

وعلى المدى القريب يسهم الطرفان في منع الفراغ؛ فالسلطة تنشغل ببناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، والحشد الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران. مع محاولات تقوم بها قيادة فتح المتنفذة، والمتوافقة مع عباس، لاحتواء quot;الزعلانينquot; من الحركة بوساطة quot;المجلس الاستشاريquot; الذي أقره المجلس الثوري في دورته الأخيرة، مشيرا إلى أنه سيتكون من أعضاء اللجنة المركزية السابقين وعدد من أعضاء المجلس الثوري السابق.

لكن هذا التقاطع بين السلطة وفتح سيكون أكثر تعرضا للانفكاك، كلما طال الوقت، ومضت إسرائيل في سياستها التوسعية، وستكون الحركة أكثر استحقاقا لتجاوز الأشكال السلمية للنضال، إذا لم ترَها كافية لردع السياسة العدوانية التي تبدو إسرائيل، حكومةً، وجيشا، ومستوطنين، أكثر انخراطا فيها.

[email protected]