تنشط هذه الأيام في فلسطين مساراتٌ متسارعة، متناقضة؛ المسار التفاوضي، بَعْد الموافقة الفلسطينية على استئناف المفاوضات، غير المباشرة، والمسار الاستيطاني، ومسار الدولة الفلسطينية، ولعل ما يخطُّه الاستيطانُ الرسمي، والمستوطنون (المنفلتون) أن يكون الأكثر حفرا في واقع الفلسطينيين، إلى حد التهديد بنسف العملية التفاوضية الهشة، أصلا، لقد بات من المتعذر على المراقب إحصاء اعتداءات المستوطنين، فهي لا تكاد تتوقف!

ولكن ماذا عن الموقف الرسمي لحكومة نتنياهو؟
إنها، والمستوطنين، كالصوت، والصدى، يتوازيان، ويتكاملان؛ فإذا كان المستوطنون يحرقون المساجد، ويخربون المزارع، والممتلكات الفلسطينية؛ فإن الحكومة الإسرائيلية تهدد السلطة؛ إذا ما استمرت في حملة المقاطعة لمنتجات المستوطنات... وهي قبل ذلك اتخذت قرار الإبعاد بحق عشرات الآلاف ممن تعتبرهم laquo;متسللينraquo;، وانخرطت في تنفيذه، ولو بهدوء، فمن الواضح أنَّ تضافرا، وتوافقا، يقع بين المستوطنين المتطرفين، وحكومة اليمين، وإنْ اختلفت الوسائل، شكلا، ووتيرةً، وهذا يترجم تصريحات سابقة كررها نتنياهو عن إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بالمستوطنات الكبرى إلى الأبد، كما سبق وأن اعتبر في خطابه في جامعة بار إيلان أراضي الضفة الغربية، وغزة، جزءا من أرض إسرائيل؛ إذ قال: laquo; إن صلة الشعب اليهودي بأرض إسرائيل مستمر منذ 3500 عام. ويهودا والسامرة، الأماكن التي سار فيها إبراهيم واسحق ويعقوب، سليمان، يشعياهو ويرمياهو، هذه ليست أرض غريبة، إنها أرض آبائنا.raquo;.

ولكنه استدرك، تحت وطأة عيشlaquo; جمهور كبير من الفلسطينيين.[في قلب الوطن اليهودي]... لا نريد أن نحكمهم، لا نريد التحكم في حياتهمraquo;. هذه الرؤية تعكس النظرة اليمينية إلى الأرض الفلسطينية، ولا سيما الضفة الغربية، فهم مصممون على الاحتفاظ بالأرض، والموارد، ولكن دون تحمل أعباء الفلسطينيين، ولا مانع من أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، على أن لا تصل تلك laquo; الحكومةraquo; إلى درجة تحجيم الطموحات الاستيطانية التوسعية.

هذه الاعتقاد الراسخ، والاستراتيجية المُقدَّمة، لا يضره سعيُ نتنياهو إلى استئناف التفاوض، ولا يضعف منه توجُهه إلى شرم الشيخ؛ لـ laquo; يؤكدraquo; للرئيس المصري، حسني مبارك، laquo;رغبتهraquo; في استئناف المفاوضات، مع الجانب الفلسطيني، بل إنه على العكس من ذلك، يوفر لحكومته أجواء مريحة، حين ينقذها من العزلة الدولية، للعمل الدؤوب، وفرض الوقائع، دون ضمانات، أو التزامات واضحة؛ لذا كان من اللافت أن الاجتماع الذي استمر قرابة الساعة والنصف لم يُتلَ بأية تصريحات من الجانبين؛ ما يشعر باستمرار الشكوك، وانخفاض الثقة بجدية نتنياهو، وصدق مساعيه السلمية، ويؤكد هذا ما تناقلته الصحف عن دبلوماسي مصري، ذكر أن الرئيس المصري laquo; أكد لرئيس الوزراء الإسرائيلي الموقف العربي الرافض لأي حلول جزئية، أو مرحلية في عملية السلام، كما حذره من أجواء التوتر بسبب الممارسات الإسرائيلية غير المشروعة في الاراضي الفلسطينية المحتلةraquo;.


فما زال الصراع الدائر على مستوى البنية العميقة يفعل فعله، وما زالت المؤشرات والإجراءات الرسمية الحكومية، والاستيطانية شبه الرسمية تستبطن تناقضا مع مشروع الدولة الفلسطينية التي يجتهد رئيس وزراء السلطة الفلسطينية سلام فياض في بناء مؤسساتها، وما يردده المتظاهرون ضد الاستيطان: لا سلام مع الاستيطان، شعارا، يختزل في الوقت نفسه معضلة الصراع الذي يتجلى أكثر ما يكون في الضفة الغربية، وقد عادت حكومة نتنياهو تسميها laquo; يهودا والسامرةraquo;؛ في دلالة واضحة على البعد الديني، وفي تجاهل للسلطة الفلسطينية التي تتخذ من مناطق الضفة مجالا للتوسع والاكتمال.

الفرق بين حركة المستوطنين والحكومة هو ما يتبقى من الصفة الرسمية للحكومة والاعتبارات المتعلقة بالتوقيت، وتقدير الموقف الدولي، والأمريكي، حتى هذه تكاد تختفي في بعض الإجراءات الحكومية، كما حصل أثناء زيارة جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي والإعلان عن الاستيطان في محيط القدس، لكن تبقى الحكومة الأحرص على ضبط الصراع، خوفا من انفلاته، وتأجيجه، أو استحالته صراعا دينيا شاملا وخطيرا، وعلى المستوى الميداني لا يوجد مانع، من الناحية النظرية، على الأقل، من أن تترك حكومة نتنياهو للمستوطنين مهمة إفشال مساعي السلطة نحو الدولة الفلسطينية، الخارجة عن المواصفات الإسرائيلية، ولو لم يكن هذا الخروج أمنيا.

ماذا عن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية؟
وعلى مسار العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، ثمة خط بياني مستمر في الضغط على حكومة نتنياهو، بالتوازي، مع التأكيد الضروري على أهمية العلاقة الخاصة مع إسرائيل، وثباتها، هذه النبرة الأمريكية الأكثر حزما، وصراحة، بات لا يجهلها القادة الإسرائيليون، والسياسيون المتابعون، وما امتناع نتنياهو عن المشاركة شخصيا في قمة واشنطن النووية، إلا مؤشرا على درجة استيائه من التعامل الأمريكي معه.

ويكثر في الصحف الإسرائيلية الحديث عن التحول الأمريكي تجاه إسرائيل، ومن أحدث التعليقات في هذا الشأن ما قاله موشيه أرنس وزير الدفاع الأسبق، في laquo;هآرتسraquo; عن السياسة الأمريكية الجديدة التي لم تعد تحرص على سريَّة الخلافات بين الدولتين: يقول: laquo; بُحثت الاختلافات لمدة سنين، في الغرف المغلقة، بسبب التفاهم المشترك على أن النشر يضر بمصالح الدولتين، ويشجع أعداءهما المشتركين. لم يستعمل البيت الأبيض ضغطاً جلياً على إسرائيل منذ طلب دوايت أيزنهاور في 1957 إلى دافيد بن غوريون سحب الجيش الإسرائيلي من شبه جزيرة سيناء ومن قطاع غزة. الوضع الآن يختلف. فالإدارة لا تحجم عن نشر عدم ارتياحها تجاه إسرائيل.raquo;

المسار الفلسطيني المنقسم:
وأما المسار الفلسطيني الفلسطيني، والأبرز فيه الانقسام، فثمة مؤشرات على تقارب واقعي فيه، تَمثَّل في زيارات لقيادات فتحاوية إلى القطاع، واجتماعهم بقادة في حكومة حماس، وهو يترافق مع أزمة مالية تعاني منها تلك الحكومة، واشتداد السيطرة المصرية على الأنفاق، ولا تزال تهيئة حماس للتلاؤم مع laquo; متطلبات السلامraquo; متوقفا في مداه الأبعد، على نضج الظروف الإقليمية للحل الشامل، ونضج إسرائيل للوفاء بـ laquo;استحقاقاتهاraquo; على المسار السوري.

فهل تتغلب فاعلية التفاوض؟
ويبقى السؤال عن فاعلية المسار التفاوضي في ظل النشاط المتناقض لمسارين مختلفين؛ إسرائيلي، استيطاني، وفلسطيني، مدعوم بمساندة أمريكية، ودولية، واضحة، يستهدف laquo; دولة فلسطينيةraquo; قد لا تروق لليمين المتطرف، والأرجح أن تستمر الولايات المتحدة، والدول الفاعلة، في إنضاج ظروف تكون قادرة على استيلاد هذه الدولة؛ لتجعل من وصول المفاوضين إليها تحصيل حاصل، ولكن السؤال الأهم، هل يقوى الرئيس الأمريكي باراك أوباما على النجاة من ردات الفعل الصهيونية، والقوى الأمريكية المتعاطفة معها، ولعل آخر ما طفا على سطح تلك المعركة الدائرة أخبارٌ صحفية عن تورط الرئيس بخيانة جنسية، تذكِّر بفضيحة الرئيس الأسبق بيل كلينتون مع المتدربة، آنذاك في البيت الأبيض، مونيكا لوينسكي.
[email protected]