سؤالٌ يجهر به البعض، مستنكرا، أو متمنيا, ردا على من يرَوْنهم كتّابا، مُحبَطين، بفتح الباء، أو مُحبِطين، بكسرها، سؤالٌ يفترض وقوعَ النص تحت تأثير الانفعال، مع أن الكتابةَ الموضوعية، بخلاف الذاتية، ومنها الأدبية، تزداد قيمتُها بمقدار تجرِّد كاتبِها للحقائق، والمعطيات، دون تضخيم، أو تهوين، ودون انتقاء، أو تزييف.

نحن هنا لا نناقش دور المثقف، ومهمته، بصفة عامة؛ وإنما نتناول جزئية متعلقة بتوصيفه لقضايا محيطه، وأمته، أو شعبه، ولا يلغي هذا أدوارَه الأخرى، ومنها الدفاع عن القضايا الإنسانية العادلة؛ بدافع الضمير، وبمنأى عن المصلحة الذاتية. نناقش هنا دور المثقف العربي، والكاتب في قضايا العالم العربي، ورأيه في وقائع مفصلية، وجدلية، يترتب على الحكم فيها توجُّهٌ جماهيري، بالإيجاب، أو بالسلب.

في واقعنا العربي يخضع الكاتب إلى التصنيفات، ويقع في حمأة الانفعالات، في واقعنا العربي المثخن بالهزائم، والمهدَّد بمزيد من التشرذم، والانحدار، يتطلع العربيُّ إلى أية بارقة أمل؛ فالغريقُ يتعلق - كما يقال- بِقشَّةٍ، لكن الكاتب والمثقف، لا يكون قُصاراه أن يلقي للغرقى القش، أو الزَّبد، بقدر ما ينشغل في الكشف عن مسبِّبات التدهور، أو التحذير من التعلق بحبال الهواء.

إن الكاتب كالطبيب، لا يستعيض بالكلام المشجع، عن تَبْصِرة المريض، بمرضه؛ حتى يحسن التعاطي معه؛ ولكَ أن تتخيل طبيبا، يهوِّن المرض، في نظر المريض، وقد كان قادرا على تنبيهه، من أولِّه؛ حتى يسلك المريض الطرق العلاجية الجادة، والوقائية اللازمة؛ إما للشفاء، وإما للحد من المرض.

والكاتب والمثقف هنا، لا يخاطب متلقين جهلة، أو سُذَّجا، وإنما يفترض فيهم الجدية، والرَّشَد، فلو زرع فيهم أوهاما، وهو يحسب أنه يزرع الأمل؛ فإنه يحول بينهم وبين الانخراط الحقيقي في مسبِّبات الهزائم العسكرية والعلمية والإنسانية، وحتى الرياضية التي ما ننفكُّ نُمْنى بها، في الصباح، وفي المساء, وبدلا من أن تَقْصر فترة الهزائم؛ فإنه يعمل على إطالتها، وإنتاج المزيد من ثمارها المرة.

وبعد أن يسير الناس، خلف هذا المُبشِّر، يصطدمون بالأمل الكاذب؛ فتخيب آمالُهم، ويقعون ضحية إجهاض المشاعر التي طارت، وطالت عِنان السماء؛ ثم ارتطمت بقاع الواقع. وقد كان أولى بالكاتب، أو بالمثقف، أن يصدع بما يراه الحق، والحقيقة؛ ولو أدى إلى الصدمة؛ فالصدمة، هي الكفيلة بهز التفكير الراكد، والقناعات الزائفة، أو السائدة.

فالكاتب الذي يسهم في البناء، والخلق -على حد تعبير أدونيس- هو الذي يكون أكثر ميلا إلى الاختراق منه، إلى الاتساق، ولا سيما عندما يكون الاتساق مع حالة عاطفية لا تستند إلى أية دراسة علمية معقولة.

تركيا ووهم المخلِّص:
ولنأخذ على هذه القضية، أعني زرع الأمل، أمثلة ما انفكت محلَّ انقسام، وجدل، بين مهوّلٍ، ومهوِّن، ولنبدأ بالدور التركي، وتطلعاته في ظل حزب العدالة والتنمية؛ فقد غالى الكثيرون في أهمية هذا الدور للعرب؛ حتى أضفى البعض على رجب طيب أردوغان هالة المخلِّص، والمنتَظر، في الوقت الذي لم يعلن هو نفسُه، شيئا من هذا، ولم تعلن حكومته، ولا دولته، تجرَّدَها للعرب، ولا حتى للشرق، بل ظلت حريصة على استبقاء انتمائها إلى أوروبا؛ والرغبة في الوفاء بتبعات هذا الانتماء، ومستحقاته.

ومن ينظر إلى تركيا اليوم من جانبيها، يلحظ- في أخف الأوصاف- ازدواجا، فهي تنخرط في المنطقة العربية، بذكاء وهدوء، وتبدي رغبة بالتعاون الإيجابي، وتتفاعل مع قضايا مهمة للعرب، كفلسطين، كما يحب كثير من العرب، عاطفيا، وخطابيا.
وفي نفس الوقت، تبدو شديدة الحرص على انتمائها الغربي الأوروبي؛ إذ يرى حزب العدالة والتنمية في تركيا دولةً أوروبية، ويعلن رئيس الدولة التركية عبد الله غول التزام دولته بالمبادىء الغربية من الديمقراطية إلى حقوق الإنسان والسوق الحرة، والمساواة بين الجنسين، والشفافية والمحاسبة، وعزمها على تعزيز تلك المبادىء.
وينظر غول إلى العالم العربي نظرة تبعية، حين يقارن بين تعامل تركيا مع الشرق الأوسط، وتعامل بريطانيا مع دول الكومنولث، وتعامل إسبانيا مع دول أمريكا اللاتينية.

حماس، وحرب 2008م:
ولنأخذ مثلا آخر: حماس، التي يُضخَّم شأنُها، ويبالغ بعض الناس في التعويل عليها، فما زالت في حالة ازدواج، كذلك, في المواقف الجوهرية؛ فهي معتدلة، وواقعية؛ إذا أزفت الحلول، أو رغبت في الاعتراف الدولي، والعربي الرسمي. وهي راديكالية، وعَقَديِّة؛ إذا شاءت الحفاظ على قاعدتها، أو تَمثُّل دورها في الحلف الإيراني السوري الذي تنتمي إليه.

وحماس في الحالة الأولى تقبل بالديمقراطية، وتداول السلطة، وتسعى إلى المشاركة السياسية، وتقبل بأية نتيجة يقررها الشعب الفلسطيني، في استفتاء عام، ولو تمخض عن اعتراف بإسرائيل, ولكنها في الحالة الثانية، تعتبر فلسطين أرضا إسلامية، يحرم التنازل عن ذرة منها، ولا تقبل بالعلمانية، ولا تقبل الاستفتاء على الثوابت الفلسطينية.

فهل نطمس الجوانب المشرقة؟
الذي يريد زرع الأمل، بالاعتماد على تركيا وحماس، مثلا، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات، ولا يروِّج لصورة مجتزأة، وخادعة. وهذا التوازن يملي علينا، كذلك أن لا نطمس الجوانب المشرقة، فحرب 2006م بين إسرائيل وحزب الله أثبتت وهْمَ المقولة التي راجت فترةً: أن جيش إسرائيل لا يُقهر؛ فهو، وإن لم يُهزم بالمعنى العسكري؛ إلا أن فشله في تحقيق أهدافه، الآنية، والاستراتيجية شكك كثيرا بكفاءته، وقدرات جنوده وضباطه. هذا صحيح، والأمر المقابل، أيضا صحيح: أنها حربٌ لم تسفر عن نصر لحزب الله على إسرائيل، وقد دُمِّرت بيروت، وحلت قوات اليونيفيل في جنوب لبنان محل الحزب الذي اضطر إلى التراجع إلى حدود الليطاني ....


وحماس التي اشتبكت مع جيش الاحتلال في أواخر 2008م استطاعت أن تعيق تقدمه، برغم إفراطه في استخدام القوة، حتى تورط في جرائم حرب، بحق المدنيين، بالرغم من كون تلك الحرب ردعت حماس، وجعلتها أكثر إصرارا على ضبط الفصائل المقاتلة في قطاع غزة، ونجحت في توفير الهدوء؛ بغية سحب الذرائع، من أية نوايا إسرائيلية عدوانية.

وتركيا المنتمية فعليا إلى أوروبا، والعضو في حلف الأطلسي، وغير القادرة، أو الراغبة في القطع مع هذه الصفة، ما زالت تتوفر على هامش من القرار السياسي الخارجي، وما زال حكامها يحسبون للرأي العام التركي حسابا؛ ليتدخل أحيانا في صياغة مواقف سياسية، ولو لم تكن جوهرية، أو جادة، كانسحاب أردوغان من مؤتمر دافوس الذي كان يضم الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز؛ احتجاجا على منعه من التعليق على مداخلة مطولة لبيريز بشأن الهجوم الإسرائيلي على غزة!

ولكن هل معنى هذا أن الكاتب يقتصر دورُه على وصف الأحداث، وتحليلها، بمقدار عالٍ من الحياد، دون طموح للتغير، بالطبع، لا، وماركس محقٌ حين رأى أن مهمة الفلاسفة لـم تعد تفسير العالـم بل تغييره.
ولكن الحاصل أن كثيرا من القضايا التي تثير الخلاف بين العرب اليوم، تثيره في الأغلب بسبب تفسيرها، وتحديد دوافع أطرافها، ومدى صدقيتهم، أو صدقهم، وبعد الوصول إلى مقاربة معقولة للموضوعات محل الجدل؛ فإن مسببات الخلاف تنحصر، حينها، في المرجعيات الفكرية، والسياسية الكلية، لكل إنسان، وتلك مسألة ربما احتاجت إلى ما هو أكثر من الكتابة لتغييرها.
[email protected]