كنتُ في المقالات السابقة قد جمعت مادتي وحللتها واستنتجت على ضوئها وعلقت، فسُرّ بعضٌ وامتعض آخر. حتى وصل الأمر إلى اتهامي بأن ما أكتبه quot;مدفوع الثمنquot;، رغم إشارتي الواضحة لمرات عديدة في متن المقالات وهوامشها على أن ما أقوم به يعتمد على استقلالية تامة غرضها(قدر المستطاع) هو تشخيص واقع الحال، في سبيل خدمة مصالح البلاد العليا. لم أفكر ذات يوم بمصلحة فرد بحد ذاته، أو حزب، أو طائفة أو قومية ما. بالمناسبة، أنا أنتمي إلى تلك الشرائح العراقية العريضة المعذبة التي ظلمها الحكّامُ السابقون ولم ينصفها الحاليون. وفي واقع الحال لا أدري من دفع لي وإلى أي مصرف ذهبتْ تلك المبالغ؟!
على أنّ كل ذلك لا يمنعني من تدوين ما يلي: نحن العراقيين حواضن لنظرية المؤامرة، والاستعجال في إلقاء تُهَمquot;الخيانةquot; وquot;العمالةquot; وquot;الطائفيةquot; وquot;أذناب البعثquot; وquot;الصفويونquot; وquot;حواضن الإرهابquot;- وما شابه ذلك- جزافا/على وجه حق أو بدونه/. كما ونحن شعب (أمة) تنفعل بسرعة وترد بنفس الوتيرة على الطرف الآخر بدون تمحيص من قبيل إعمال الفطنة والبصيرة، وبدون أخذ العواقب بنظر الاعتبار. في الدول المتحضرة ذات القوانين المرعية يحاسب الأفراد قانونيا على أخطائهم وتعديهم على الآخرين.
نلمس هذه الطبيعة والمزاجية المتقلبة والازدواجية منعكسة في حياتنا الإجتماعية والسياسية، وفي علاقاتنا بعضنا بالبعض الآخر.. في أعماقنا طيبة هائلة(تصل في رأي الغرباء حدّ السذاجة ndash; يعني quot;شَيْمَه وَخُذْ عَبَاتَهquot;) مقرونة بقلة التسامح والتواضع. وطنيتنا عالية، لكننا- بنسبة ليست قليلة- نفور ونغضب بسرعة ونهدأ بسرعة. كل واحد منا يملؤه طموح عارم، فيريد أن يصير أميرا ولو على ابنه أو زوجته. لذلك، غابتْ أو اختفتْ في ظلال وتفاصيل ذلكم الطموح- في لحظات مفصلية كثيرة من حياتنا وتاريخنا الجماعي- مفاهيم وأهداف ومشاعر ذات قيم عليا تخص البلاد ومصالح الشعب الأساسية. هذه الحالة تكررت بعد إعلان نتائج انتخابات مارس/آذار الماضي. لكن لماذا حصل ما حصل؟
من بين أهم الأسباب والعراقيل التي جعلت الأوضاع كما هي عليه الآن، نذكر، أولا: عدم دقة ووضوح الدستور في قسم من مواده وفقراته القانونية التي تَمّتْ صياغتها (عن قصد أو غير قصد) بطريقة تتلاءم وفكرة المفخخات والمطبات الجوية. من بين تلك المواد نذكر المادة رقم (73) الفقرة الأولى التي تنصّ على ما يلي: quot;يكلّفُ رئيسُ الجمهورية، مُرَشّحَّ الكتلةِ النيابية الأكثر عددا، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهوريةquot;. ومن المتعارف عليه ديموقراطيا هو تكليف الكتلة الفائزة في الانتخابات بتشكيل الحكومة، وعادة ما تدخل هذه الكتلة البرلمان وهي الكتلة الأكبر. وفي حالة واحدة يُسْحب منها حق تشكيل الحكومة وهي: إن كانت قد حصلت على عدد أقل من النصف زائد واحد من الأصوات المطلوبة ولم تجد لها حليفا يسعفها في تشكيل الحكومة في الفترة المقررة دستوريا وهي عادة ما تكون بحدود الشهر. بعد الشهر يكلف رئيسُ الجمهورية الكتلة التي تليها عددا وفق نتائج الانتخابات وهكذا على التوالي وإن لم يتمكن البرلمان من تشكيل الحكومة في المواعيد التي يحددها الدستور، يجري حله وتعاد الانتخابات العامة مرة ثانية.
لقد جرى تفسير هذه الفقرة بشكل يجعل الفائز في الانتخابات بعد دخول البرلمان وليس قبله فقامتْ المحكمة الاتحادية العليا بناء على الماة(90) بتفسير هذا النص وأصبح quot;تفسيرهاquot; ملزما وفق المادة اللاحقة (91). ومن مطبات المادة(91) أن الفقرة(ثانيا) قد وردت كالآتي: quot;تفسير نصوص الدستورquot; ولم يُضَفْ إلى الجملة quot;وإصدار القرارات بشأنهاquot;. لأن المادة(91) تذكر حرفيا: quot;قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافةquot;. هذه الصياغة يمكن أن تُوَلّدَ التباسا ومن ثم تُعطي انطباعا بأن الملزم هو القرار(ات) وليس التفسير(ات)! وهذا هو الذي سمح للقائمة العراقية بأن ترفض مثل هذا التفسير باعتباره - حسب تصريحات ممثليها وقادتها- quot; التفافا على حق العراقية الدستوري بتشكيل الحكومةquot;. وهو باعتقادنا، وإلى حد كبير، منطقي ومعقول، لكنه أصبح فيما بعد يتعارض وما أعلنته المحكمة الإتحادية العليا التي علينا حتى فيما لو أخطأت أن نلتزم بقراراتها. لأنه بدون احترام القانون والدستور لن تقوم للنظام الجديد قائمة.
لقد تم خرق الدستور أكثر من مرة - بعد إعلان نتائج الانتخابات النهائية، سواء على صعيد موعد انعقاد مجلس النواب أوانتخاب رئيس الجمهورية(وفق المادة 69) أو انتخاب رئيس مجلس الوزراء(المادة 73). بهذه التجاوزات أضيف عبء آخر على quot;التباس قسم من مواد وفقرات الدستورquot; متمثلا بخرقه. لقد خرق المتنافسون على السلطة الدستورَ لأسباب تتعلق بكسب الوقت ومحاولة الحصول على أكبر قدر من المنافع السلطوية والشخصية التي أهانتْ وركنتْ مصير البلاد والتجربة الديموقراطية الوليدة ومصالح الشعب جانبا.
السبب الثاني: عدم خبرة ونضج القسم الأكبر من quot;السياسيين العراقيين وخطبائهم وممثليهمquot;، وصراعهم - ذو الطابع القبلي والشخصي الأناني- على السلطة، خاصة على منصب رئيس مجلس الوزراء الذي تخوله المادة(75) من الدستور صلاحيات كبيرة نقتبسها كما وردت: quot;رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، يقوم بإدارة مجلس الوزراء، ويترأس اجتماعاته، وله الحق بإقالة الوزراء، بموافقة مجلس النوابquot;. إضافة إلى صلاحيات واسعة تنص عليها المادة(77).
السبب الثالث: التدخل السافر واللاأخلاقي لدول الجوار في الشأن العراقي، بحيث لم ينجً من سمومها السرطانية كيان واحد من الكيانات السياسية والدينية كل حسب موقعه وحجمه. والذنب يبقى في عهدة ساسة العراق. لاحظنا أن قسما من هذه الأجندات تشجع على الانقسام الطائفي والأثني داخل المجتمع العراقي. بعضها يدفع، مثلا، بالطائفة الشيعية إلى أن تكون بمثابة دين وليس طائفة، والبعض الآخر يدفع بأهل السنة إلى أن يكونوا quot;متطرفينquot; و quot;تكفيريينquot; خلافا لما هو متعارف عليه، على أمل أن يصلوا إلى حافة التقاطع مع إخوانهم وأهلهم من أهل الشيعة والطوائف الأخرى. والقسم الآخر راح يدفع القوى الكردية إلى اعتبارها مختلفة عن هذا وذاك من مكونات المجتمع العراقي.
السبب الرابع: غياب قانون واضح المعالم ومصادق عليه نيابيا للانتخابات والأحزاب.
السبب الخامس: رغم شجاعة الناخبين العراقيين وتطلعهم للتغيير من أجل حريتهم وتحسين شروط حياتهم، إلا أنهم فشلوا في اختيار ممثليهم الحقيقيين فجاءت نسبة معتبرة من الأصوات مشتتة لا تعبر عن تطلعات العراقيين في انبثاق حكومة وطنية بعيدة عن المحاصصة والتوافقية البغيضة التي عرقلت مسيرة البلاد. وعليه، لم يبتعد الناخب العراقي-للأسف- كثيرا عن ولاءاته العشائرية والطائفية والأثنية. وأحمّل كافة القوى السياسية العراقية مسئولية ما يجري.
عمليا، حياتنا وأجسادنا وأرواحنا مريضة، لذلك نحتاج اليوم(السياسيون على وجه الخصوص) إلى عملية تطهير ذاتي شاملة على الطريقة الإغريقية، يُحاسب فيها من يُحاسب وفقا للقانون ومن ثم تفتح صفحة جديدة من المصارحة والمصالحة الحقيقية من أجل خدمة البلاد وشعبها.
السبب السادس: انعدام الممارسة الديموقراطية لدى السياسيين العراقيين، إذ كان ينبغي عليهم أن يهنيء بعضُهم بعضا، وأن يقوم الخاسرُ منهم بتهنئة الفائز في الانتخابات، كما تقتضي ذلك الجنتلمنية والأعراف الديموقراطية. إن الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات لحد الآن هو الشعب العراقي الذي يئنّ تحت ساطور التخلف والفقر والفساد وانعدام أبسط الخدمات ناهيكم عن دمار البلاد، والخاسر الأكبر أيضا هو العراق ومستقبله.
على أن السؤال المحوري في هذا المقام يبقى هو: لماذا قامت الكيانات السياسية الأخرى من غير القائمة العراقية بإعاقة الأخيرة في تشكيل الحكومة؟ وأسمح لنفسي بإعفائها من استخدام العبارات الصادمة، لأن صراع الإرادت (الداخلية والخارجية) المختلفة على السلطة قد وضعنا جميعا في محنة.
يبدو لي أن ما خلفه النظام السابق من إرث مرير من العسف والطغيان والاستئثار بالسلطة قد نجم عنه انعدام الثقة بين مكونات الشعب العراقي. كما وأن وقوع بعض المناطق العراقية فريسة لإرهاب القاعدة وسواها وما أعقبها من عمليات انتقام وردة فعل مسلحة حدثت هنا وهناك جراء ذلك، ثم التدخل الإقليمي السافر في العملية السياسية العراقية، ساهم إلى حد كبير، في تغذية هذا الشعور بحيث دفع البعض(سنة وشيعة وأكرادا وسواهم) إلى التخندق الطائفي والأثني والتخوف من الآخر.
على أن الشيء الخطير هو استغلال هذا الشعور وتوظيفه من قبل بعض الكيانات السياسية المتنافسة للكسب الانتخابي. وحاولت وتحاول الأجندات الخارجية خفية وعلنا أن تدفع بهذا الاتجاه.
في ظل الصراع المرير على السلطة تم نقل الإرث الآنف الذكر على عواهنه إلى رصيد القائمة العراقية التي ساهم سلوك وتصريحات قسم من ممثليها (لقلة الخبرة والتعجل في إطلاق الأحكام على ما يبدو) في إبقاء الشعور quot;بانعدام الثقةquot; على حاله الشيء الذي وفّرَ للخصوم السياسيين فرصة الانقضاض وفي أحيان أخرى القيام بتشويه هذه القائمة. ناهيك عن أن غياب ndash; لنقلْ بصراحة- quot;المكون السنّيquot; عن الانتخابات السابقة قد ساهم هو الآخر في تأخر تجسير الهوة بين أبناء البلد الواحد. لذلك آمل ألا ترتكب القائمة العراقية نفس الخطأ وتنسحب من العملية السياسية لأي سبب كان. بالمناسبة، نعتقد بأن برنامج القائمة العراقية الانتخابي هو من بين أفضل البرامج الوطنية المطروحة في الساحة وأكثرها تنويرية، ونرى كذلك أن القائمة العراقية تمثل قطاعات مهمة وأساسية للغاية في المجتمع العراقي لابد من حضورها في المشهد السياسي بغية خلق توازن على كافة الأصعدة.
لو أردنا أن نضع مواقف المكونات السياسية الأساسية في البلاد إزاء quot;القائمة العراقيةquot; في مختبر البحث والتدقيق الموضوعيين لألفينا ما يلي:
على الصعيد الكردي
القوى الكردية، ودون أدنى شك، مكون من مكونات المجتمع العراقي الأساسية، وليس لأحد فضل أو منة عليهم، حينما يأخذون دورهم في العملية السياسية وإدارة البلاد. ويلعبون اليوم دور الوسيط بين القوى السياسية الأخرى في عملية تشكيل الحكومة. لكنْ، لهم تطلعات ورؤى ليس بالضرورة عليها أنْ تنطبق مع رؤى وبرامج الآخرين، ومنهم المنضوين في القائمة العراقية. تقف في مقدمة تلك التطلعات مسألة كركوك وquot;الأراضي المختلف عليهاquot; التي يسعون بشتى السبل لكي تكون ضمن quot;إقليم كردستان العراقquot;. على أن الهاجسquot;القوميquot; يبقى أكبر من مثيله الوطني، وسط بعض القيادات الكردية التي عبرت عنه في أكثر من مناسبة. وبما أن الثقل الإنتخابي للقائمة العراقية يتركز في مناطق، يقع بعضها في تماس مع quot;جغرافية الإقليمquot; وشهدت لحظات ساخنة من الصراع وسوء الفهم، فإن وزر ذلك وقع على كاهل العراقية دون سواها. إذا ما أخذنا في الحسبان دائما (ونحن نبحث هذه المسألة المعقدة) أن القائمة العراقية تتألف من مكونات في غالبيتها عربية ذات خلفية وطنية- قومية- ليبرالية- إسلامية لها مواقف واضحة في ما يخص البلاد ووحدتها نكون قد أدركنا أنّ أيّ تنازل محتمل يمكن أن تقدمه هذه القائمة لكسب تأييد الأكراد لدعم كونها ذات الأحقية في تشكيل الحكومة، سيطيح بها. وهذا ما عرفه الأكراد وأدركوا أن القوى الأخرى(في الائتلاف الوطني- الجديد) لها مواقف قد تكون أقرب إليها.
دون شك، للقوى الإقليمية والدولية(خصوصا إيران- تركيا والولايات المتحدة الأميركية) تأثير على القوى الكردية وقراراتها والتجاذبات فيما بينها. يبدو للمراقب أن الجانب الكردي يحاول ظاهريا أن يبقى بعيدا عن الصراع المحتدم حول: مَنْ له الحق في تشكيل الحكومة. على أنني لن أجانب الصواب إن قلت: إن الجانب الكردي مستعد لدعم quot;القائمة العراقيةquot; في سعيها المذكور، بل وحتى للقبول بدور رمزي بسيط تماما في العملية السياسية على الصعيد العراقي، مقابل quot;تنفيذ مطاليبهمquot; المعروفة. إن quot;حذر وتوجسquot; الأكراد المشار إليه دفعهم للبحث عن شركاء آخرين للتحالف معهم يطمئنون إليهم أكثر وقد يكونون أكثر quot;مطواعية ومرونةquot; من القائمة العراقية في النظر إلى quot;المسائل الشائكةquot;. وباعتقادي، فإن قوى من ضمن quot;الشركاء الآخرينquot; قد استغلت ذلك لخلق أرضية تمكنهم من سحب البساط من تحت العراقية في توقها لترؤس الحكومة. وهذا أمر طبيعي وسط الكيانات السياسية المتنافسة على السلطة بشرط عدم التفريط بمصالح الشعب والبلاد والتصرف بجنتلمنية.
على صعيد التحالف الوطني العراقي وائتلاف دولة القانون
ينبغي أن نضع في الحسبان أن غالبية سكان الوسط والجنوب ما تزال تعيش حالة من الريبة والخوف من الآخر، لأسباب منها حقيقية ذات صلة بممارسات النظام السابق القمعية، والأخرى مفتعلة بغرض الكسب السياسي أو قد جرى تسويقها من قبل أجندات خارجية... وكل ذلك ينبغي أخذه بالحسبان. بعض العراقيين يعتقد أن الظلم قد لحق بهم دون سواهم، خلافا لواقع الحال الذي يقول لنا: إن الشعب العراقي في غالبيته قد تعرض بعد 2003 لحملة شنيعة من الدمار وتشويه الحقائق.
يبدو أن القوى خصوصا quot;الشيعيةquot; منها المنضوية في هذين الائتلافين، تخاف فعلا من عواقب تشكيل الحكومة من قبل القائمة العراقية لأسباب هي الأخرى ذات علاقة بإرث الماضي البغيض من جهة، والخوف من فقدان السلطة ثانيا، ولدي شعور بأن البعض منهم يعتقد بأن استلام السلطة في هذه المرحلة من قبل العراقية قد يسمح لها quot;بتصفية خصومها السياسيينquot;، وquot;باحتكار السلطةquot; لفترة غير معلومة والدليل على ذلك ما يدور بهذا الشأن في الشارع(الشيعي خاصة)، وما أشيع مرارا عن قرب موعد quot;تنفيذ انقلاب عسكريquot; مما دعا الجانب الأميركي للقول: quot;نعم، يمكن القيام بانقلاب عسكري لمدة ساعة أو ساعتينquot;!
لقد دخل على خط إثارة النعرات، عامل مهم آخر يتمثل بالأجندات الخارجية التي ترى أن بإمكانها- في تصفية حساباتها مع أعدائها وخصومها - أن تستغل الحالة العراقية. وهذا يعني (من سوء حظ القائمة العراقية) أن عليها ليس فقط إعداد برنامج انتخابي وطني شامل والفوز في الانتخابات، وإنما عليها أيضا أنْ تدافع عن نفسها وتعمل على إزالة ما من شأنه أن يربطها بإرث الماضي البغيض الذي ألصق بها من قبل منافسيها السياسيين. وهذا يعني أنها قد تحتاج إلى بعض الوقت قد يستغرق فترة أو فترتين برلمانيتين مقبلتين لتتخلص من هذه quot;التهمةquot; ولربما تتمكن بعدها من تصحيح مسار الأحداث. لكن، هل يتمتع السياسيون العراقيون بكافة أطيافهم بالنفس الطويل الذي يؤهلهم لتحقيق النجاح؟
من خلال متابعتي وقراءتي الشخصية لهذه المسألة أرى، بصراحة وللأسف، بأن خطاب بعض ممثلي ورموز القائمة العراقية لم يكنْ (حتى وقت قريب) سياسيا وحذرا ومطمئنا للآخرين. كانت هناك تصريحات(قبل الانتخابات وبعدها) متناقضة، متشنجة متوترة وطنانة لا مسوغ لها على الإطلاق. علاوة على ذلك، لقد ساهم هذا quot;الخطابquot; في أحد أوجهه في إعطاء الكيانات السياسية الأخرى مبررات لخلق انطباع مفاده أن quot;القائمة العراقية تنفذ أجندات إقليميةquot; وتريد quot;اغتصاب السلطة بدعم الآخرينquot; وquot;قسم من أعضائها كانت لهم صلات بالنظام السابقquot; وهلم جرّا. بحيث اختلطت شعارات ونوايا الدعاية الانتخابية فامتزجت الحقيقة بالخيال، وارتبط كل ذلك بمحاولة إضافية لخلق حساسية لدى شرائح من الشارع العراقي(بهدف تحييده وكسبه)، مفادها quot;أن الانتخابات قد زُوّرتْ لصالح العراقية من قبل القوى الخارجيةquot;. بناء على ذلك فإنه quot;ليس من حق القائمة العراقية أن تُشكل الحكومةquot;. وحتى فيما لو افترضنا جدلا بأن تفسير المحكمة الاتحادية العليا quot;ليس ملزماquot;- حسب رأي العراقية، فإن الناخب الموالي لدولة القانون وللتحالف الوطني العراقي يرى العكس. حتى كاد هذا الناخب أن يصدق بنظرية المؤامرة إلى حد بعيد، ويعتبر المطالبة بإعادة فرز الأصوات من جديد أمرا مشروعا، وراح يوطن نفسه على تجرع مرارة تأخر تشكيل الحكومة لشهرين أو ثلاثة. في واقع الحال، أخذ المزاج العام بالتبدل نوعا ما في الشهرين الأخيرين ليصب جام غضبه على كافة القوى السياسية في البلاد.
هذه الأسباب مجتمعة مدعومة بالضغوطات الخارجية الفعلية على هذا الطرف أو ذاك أربك العملية السياسية في العراق وأخّرَ تشكيل الحكومة وأثار حساسيات ونعرات طائفية وعرقية، وبالنتيجة أفقدت هذه الأجواء الملبدة بالمخاوف والشكوك القائمة العراقية المبادرة لأخذ زمام الأمور.
على صعيد آخر، أعتقد أن كافة القوى السياسية العراقية الفائزة في الانتخابات الأخيرة مسئولة بهذا القدر أو ذاك عن تعثر العملية السياسية في البلاد. ولذا تراني ألححتُ سابقا، في أكثر من مناسبة، على ضرورة قراءة الواقع العراقي الحالي اعتمادا على ما أفرزته المستجدات في الساحة العراقية بعد 2003 من تخندق طائفي وأثني وانقسامات في صفوف القوى السياسية. وعليه فلا بد من السعي الحثيث لخلق أجواء وأرضية مناسبة لحوار(ات) وطنية آنية ومستقبلية من شأنها أنْ تخرج البلاد من التشرذم والمحاصصة الطائفية والعرقية بهدف وضع الأمور في نصابها السليم. من جانب آخر أرى بأن كافة القوى والكيانات السياسية العراقية-الفائزة منها وغير الفائزة- قد وقعت ضحية (ولو بنسب متفاوتة قد تكون للبعض غير مؤلمة) للتحولات الجارية في الداخل وللصراع الإقليمي والدولي في المنطقة. فعلى سبيل المثال، أرى بأن quot;المجلس الأعلى الإسلاميquot; قد تأثر إلى حد كبير بسبب الحملات الإعلامية ضده من قبل منافسيه، ونتيجة للتماس بين إيران وأميركا، حيث صُور للرأي العام على أنه تابع لإيرانquot;الصفويةquot;، صحيح أن لهذا التنظيم علاقات واسعة مع إيران باعتراف بعض قادته، لكن حملة المبالغات والتضليل لم تفردْ كيانات بعينها، لأنها وردت بصيغة التعميم، فقُرئَتْ على أنها- في معظمها - جزء من حملة تشهيرquot;بشيعة العراق من العربquot; بإيعاز من أجندات خارجية. كما وأصابت quot;الحزب الشيوعي العراقيquot; ذا التاريخ السياسي الطويل نكسة مهينة لعدم تمكنه من إقناع الرأي العام ببرنامجه الانتخابي فلم يدخل البرلمان، فركنته الأحداث والتحولات ووضعته على الهامش.
على أنني أعتقد بما يشبه الجزم، بأن quot;القائمة العراقيةquot; قد وقعت، أكثر من سواها، ضحية لسوء الفهم والإلتباس في خضم التحولات الجارية في البلاد، شأنها في ذلك شأن الكثير من القوى والمكونات والأحزاب (الاشتراكية واليسارية والتنويرية) بعد سقوط المنظومة الاشتراكية السابقة التي كانت تدور في فلك السوفيت. شمل سوء الفهم والحيف قوى متعددة، سواء تلك التي تأسست بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أو تلك التي خضعت للتحولات فأعادت هيكليتها التنظيمية والبرنامجية وغيرت أسماءها السابقة لتتلاءم وواقع الحال. بعض من تلكم الأحزاب استلمت السلطة بعد دورة أو دورتين انتخابيتين، والبعض الآخر شارك في السلطة. لكنها عموما حاضرة في المشهد السياسي بهذا القدر أو ذاك.
لا يمكن المشاركة في حكومة عراقية محتملة بدون التواضع وتقديم التنازلات من قبل كافة الأطراف الأساسية الفاعلة في الساحة. قد يكون قسط من تلك التنازلات quot;مؤلماquot; لمن يقدمها، لكنه إجراء لا مفرّ منه. ينبغي في هذه المرحلة التاريخية العصيبة المشاركة في العملية السياسية وفي تشكيل الحكومة لكي لا تنحرف عن المسار الوطني الصحيح.
التعليقات