دفعنتني للاهتمام بهذا الموضوع الأسباب التالية: أولها، لعلاقته بمحنة العراق، ثانيها، الجانب الإنساني، ثالثها، الإنجاز الطبي الذي يرقى إلى مصافي الإعجاز، رابعها، ملابسات العملية. مازال العراق يلاحق الجميع بأحداثه وفوضاه وعواقب الحرب عليه. ويا ليت الذي جرى ويجري في بلاد الرافدين قد تمت معالجته بمستوى النجاح الذي حققه الجراحون البولنديون في هذا الشهر!
بعد الاطاحة بنظام صدام حسين في(9 نيسان 2003) واحتلال العراق سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى خلق غطاء دولي لوجودها العسكري في العراق، فقامت بتشكيل quot;قوات التحالفquot; بهدف ما أطلق عليه آنذاك بعملية quot;إعادة الاستقرار في العراقquot; التي شاركت فيها قوات من دول عديدة حليفة أو مقربة من الولايات المتحدة ومن ضمنها قوات عسكرية بولندية. أعدت وزارة الدفاع البولندية حينئذ دورات لتدريب أعضاء قواتها المسلحة المزمع توجهها إلى العر

أثناء العملية
اق، بحيث شملت محاضرات حول كيفية التعامل مع المجتمع العراقي المختلف حضاريا وثقافيا عبر احترام عاداته وتقاليده لذلك كانت مهمة البولنديين فيما بعد أسهل من سواها ولم تتعد الخسائر العشرين قتيلا.
كان للقوات الخاصة البولندية دور ملحوظ (لوجستيا وعملياتيا)في المهمات الخطيرة هناك باعتبارها مدربة ومعدة سلفا للقيام بمثل هذه العمليات بما في ذلك خارج حدود بلادها.
قبل ثلاث سنوات فقد أحدُ أفراد القوات الخاصة الآنفة الذكر كلتا يديه بسبب محاولته نجدة زميله الأقل خبرة منه بالتقاط عبوة ناسفة من بين يديه ظنا منه بأنه سيتخلص منها، لكنه وجد نفسه في وضع لا تحمد عقباه بعد أن أنقذ زميله، إذ انفجرت تلك العبوة فأفقدته كلتا يديه! عمل بطولي دون شك وقبل أن يكون ذا طابع تضامني فهو إنساني جملة وتفصيلا. بالمناسبة سبق وأن قام هذا العسكري بإنقاذ حياة عدد من الأميركيين وبالتالي فبقاؤه دون يدين يعد quot;أمرا لا يُطاق نفسيا وحياتياquot; على حد تعبير قائد القوات البولندية الخاصة الأسبق.
منذ ذلك الوقت أخذ الأطباء البولنديون في التفكير بمساعدة هذا العسكري وكان احتمال مساعدته متوقفا على معجزة ذات شقين: يتمثل الأول في إيجاد يدين له من جسم غريب، والثاني في نجاح عملية زرع اليدين وهي نادرة الحدوث والنجاح على الصعيد العالمي. قبل فترة ماتت سيدة بولندية في متوسط العمر في إحدى المستشفيات البولندية فوافق ذووها على التبرع بيديها لهذا العسكري. انتقل الجراحون البولنديون إلى حيثيات العملية فخططوا لها بدقة. وشرعوا بتنفيذها في مطلع حزيران الجاري وأعلنوا عنها قبل أيام بعد أن تيقنوا من نجاحها وتحسن وضع المتضرر. كان عليهم أن يوفروا (25)لترا من الدم الذي تبرع به عدد لا بأس به من أفراد البوليس والجيش وحرس الحدود. استغرقت العملية (17) ساعة!
كان على الأطباء الجراحين أن يوصلوا اليدين بأخريين سالمتين(من جسد ميت!): اليسرى أعلى من الرسغ بخمسة سنتيمترات واليمنى أعلاه بقليل. جرت الخطوة الأولى بوصل كل يد بما يلائمها، من ثم جرى وصل الأعصاب ببعضها، ثم الأوردة والشرايين. بعد ذلك قاموا بإعادة الدورة الدموية لليدين، وانتظروا ساع
بعد العملية
ة قبل أن يسدوا الأغشية لكي يتأكدوا من أن كل شيء سار على ما يرام. وبعد ذلك قاموا بإجراء عملية تجميل لليدين. لقد حصلت بعض المخاطر في لحظات العملية المعقدة الأخيرة، إذ حصل نزف في اليد اليسرى الأمر الذي أدى إلى فتحها من جديد بغرض معالجة الحالة الطارئة. لم يكنquot;ذلك بالنسبة إلينا شيئا مفاجئا في مثل هذه الحالاتquot; قال أحد الجراحين الدكتور يابْوَيتْسْكي.
قسّمَ الأطباء العمل فيما بينهم، بعضهم ذهب إلى المستشفى لأخذ اليدين من المتبرعة(الميتة)، وبعد نقلهما إلى (مستشفى تشيبْنيتسا) الواقعة في جنوب غرب بولندا، ألفوا فريقي عمل: كانت مهمة الأول منهما هي تهيئة كافة مستلزمات العملية: الاستعدادات الضرورية وملاءمة الأيدي لبعضها البعض. أراد الأطباء في باديء الأمر أن يحتفظوا للجندي بإصبع واحدة من يده اليمنى وهو كل ما تبقى له بعد الإنفجار إلا أنهم عزفوا عن الفكرة لأن درجة الدمار كانت كبيرة في كلتا يديه ولتخوفهم من أن يرفض الجسم العناصر الغريبة الطارئة عليه.. كان عدد فريق العمل (20) شخصا. من بينهم عدة أطباء مختصين في التخدير. كان على فريق التخدير أن يفعل ما بوسعه لكي لا يتجمد المريض وألا يتاثر بسبب طرحه على طاولة صلبة أثناء العملية. كان الجو متوترا نظرا لصغر المستشفى من جهة ولوجوب القيام بعملية زرع كلتا اليدين في آن واحد، خاصة وأن نجاح مثل هذه العمليات نادرة الحدوث على الصعيد العالمي. على أن عملية زرع الأعضاء عموما في هذه المستشفى بدأت منذ عشر سنوات. حتى أنه تم شفاء مصاب بمرض(هاينه مدينه). مدينة صغيرة إلا أن خبرة وجرأة أطبائها كبيرة.
انتظر الأطباء أسبوعين قبل أن يقرروا نشر الخبر على الملأ حيث تلقفته وسائل الإعلام البولندية بسرعة وقامت بتغطية وقائع المؤتمر الصحفي للفريق الطبي الذي استعان بعرض فيلم لم يفصحوا فيه لا عن اسم المريض ولا عن اسم المتبرعة. فالأول رفض الإفصاح عن اسمه وفعل ذوو المتبرعة (الميتة) نفس الشيء. شاهد الجميع العسكري بنظارتيه وهو يحرك أصابع كلتا يديه!
على
بعد العملية
أن نجاح العملية لا يعني نهاية القصة، فمن الأمور المترتبة عليها هي أن يأخذ العسكري المذكور، طالما بقي على قيد الحياة، الأدوية اللازمة لدرء خطر رفض الجسم لعملية الزرع الآنفة الذكر. من العواقب الأخرى المتوقعة هي إمكانية أن يتعرض هذا الإنسان للإصابة بمرض السكري بسبب زرع اليدين.
لقد وصف رئيس جمعية زرع الأعضاء في أميركا الدكتور (ستفان شنيبيرغر) هذه العملية بأنها quot;من بين أكثر عمليات زرع الأعضاء نجاحا في العالمquot;. من المعلوم أن أول عملية زرع كلتا اليدين قام بها لأول مرة قبل عشر سنوات البروفسور الفرنسي(جاك ndash; مارك دوبرنارد) في مدينة ليون الفرنسية. وهذا النجاح يذكرنا بالنجاحات المتكررة التي حققهها الأطباء في السعودية في مجال فصل التوائم السيامية بحيث اكتسبوا خبرة وشهرة على الصعيد العالمي.
حتى هذه اللحظة لا أحد يمكنه أن يتكهن بنسبة جاهزية اليدين في المستقبل، إلا أنه من المتوقع فيما لو سارت الأمور على ما يرام، أن تقوم اليدان(الجديدتان) بمهامهما بنسبة تصل إلى (90%) مقارنة باليدين العاديتين! وهذا بحد ذاته عمل جبار. بقي أمام فريق الجراحين البولنديين المذكورين إنقاذ يدي فتاة (18 سنة) سبق وأن فقدتهما. وهم بانتظار متبرع لها.