عادة ما يكون عدد الضحايا من كبار الساسة والقادة العسكريين قليلا أثناء أو عقب نشوب الحروب المحلية أوالعالمية، لأن السلطات غالبا ما تسعى للحفاظ على قياداتها بشتى الطرق. لكنما ما حصل صباح يوم السبت العاشر من نيسان 2010 أمر فريد من نوعه إذ لم يحدث وأن لقي مصرعه في حادثة واحدة مثلما حصل لبولندا وفي زمن السلم. لقد فقدت بولندا دفعة واحدة (88) شخصية من كبار قادتها السياسيين والعسكريين والكنسيين وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية إضافة إلى ثمانية يشكلون طاقم الطائرة. لقد غادر الرئيس المنتخب ديموقراطيا من قبل الشعب(ليخ كاتشينسكي) القصر الجمهوري حيا ودخله في التابوت على الساعة الخامسة عصر اليوم حسب التوقيت المحلي لوارسو، وذلك في أكبر كارثة تتعرض إليها الدولة البولندية منذ الحرب العالمية الثانية. لم أسمع ولم أرَ مثل هذه الحشود البولندية التي ملأت الشوارع وأحاطت بالقصر الجمهوري تلقائيا إلا في حالتين كنت شاهدا عليهما وهما: في الثمانينيات من القرن الماضي أثناء مظاهرات وإضرابات حركة التضامن التي أطاحت في 1989 بالنظام الاشتراكي وبالتبعية للدولة السوفيتية، وأثناء زيارة البابا الراحل يوحنا بولص الثاني لبلاده في النصف الثاني من الثمانينيات والتسعينيات كذلك.

ما الذي جرى؟
في الساعة الثامنة وست وخمسين دقيقة صباح السبت تحطمت طائرة الرئيس البولندي (ليخ كاتشينسكي) ولقي مصرعهم جميع من كانوا في داخلها. كان على متنها حسبما ذكرت وزارة الخارجية البولندية وأكدته السلطات الروسية( 96) راكبا من ضمنهم طاقمها المكون من(8)أفراد. كان من المقرر أن يشارك الوفد في احتفالات الذكرى السبعين على المذابح التي تعرض لها البولنديون على أيدي السلطات الستالينية آنذاك في الأربعينيات من القرن الماضي في منطقة كاتين. وقد عدّ بعض المعلقين البولنديين هذه الكارثة بمثابة (كاتين) ثانية، وأن ما حصل عبارة عن quot;إشارة نحسةquot; وأن quot;هذا المكان نحس وملعونquot;- على حد تعبير الرئيس البولندي الأسبق ألكسندر كفاشينفسكي.
أقلعت طائرة الرئيس البولندي من وارسو في الساعة السادسة وخمسين دقيقة صباح يوم السبت العاشر من نيسان 2010 حسب توقيت وارسو وبعد محاولتين للهبوط المفترض على الساعة الثامنة وست وخمسين دقيقة حسب توقيت منطقة سمولينسك في روسيا الإتحادية، اصطدمت بإحدى أشجار غابة كانت مغطاة بضباب كثيف على مبعدة (كيلومتر ونصف) من مطار سمولنسك المحلي العسكري. كانت الرؤية بحدود 500م في الوقت الذي كان ينبغي أن تكون 800 مترا على أقل تقدير لكي تتمكن الطائرة من الهبوط. وبناء على آخر التقارير الرسمية البولندية أن الطيار قد حاول مرتين الهبوط لكنه لم يفلح، وقالت المصادر في بيلوروسيا وروسيا إن قائد الطائرة لم يستمع لنصائح مسئولي برج المراقبة لتجنب الهبوط نظرا لسوء الأحوال الجوية المتمثلة بكثافة الضباب والغيوم، غير أن السبب-الأسباب الرئيسة للكارثة لم تعرف حتى الآن. من المؤكد أن المطار الروسي صغير وبدائي ويفتقد إلى أنظمة السيطرة الحديثة.
كان على متن الطائرة إضافة إلى رئيس الجمهورية وزوجته وكبار معاونيه ومسئولي ديوان الرئاسة، نخبة من السياسيين من ضمنهم السيد كاتشوروفسكي ndash; آخر رئيس لجمهورية بولندا في المهجر بعد الحرب العالمية الثانية و(أعضاء في الحكومة وفي رئاسة البرلمان ونواب برلمانيون من كافة الاتجاهات السياسية) وقادة عسكريون من بينهم: وزير الدفاع الأسبق - رئيس مكتب الأمن القومي، ورئيس أركان الجيش البولندي وقائد القوات الجوية وقائد القوات البرية وقائد القوات البحرية والجنرال كفياتكوفسكي قائد العمليات الحربية في الجيش البولندي الذي سبق وأن خدم في العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003 وضباط آخرون كبار، . لقد لقي مصرعه عشرة جنرالات على الأقل!!

عن الطائرة
في السنوات الأخيرة أصبحت قضية طائرة الرئاسة نوع توبولوف( 154 م ) موضوع نقاش وسط المختصين ووسائل الإعلام البولندية، خاصة بعد كارثة الطائرة (CAS) في الثاني من كانون الثاني 2008 التي تحطمت في منطقة (ميروسوافيتس) البولندية وراح ضحيتها نخبة من قيادة القوة الجوية البولندية. لقد تم إنتاج (1015) طائرة من توبولوف 145، سقط منها حتى الآن (57)، تحطم معظمها بسبب سوء الأحوال الجوية وسوء أجهزة التوجيه في تلك المطارات وراح ضحيتها (2725) ألف شخص. تم إنتاج الطائرة التي استقلها الراحل كاتشينسكي في العام 1990 وتحمل الرقم (101) وباستطاعتها الطيران (30)ألف ساعة. قطعت لحد الآن (5) آلاف و141 ساعة. خضعت للتصليح آخر مرة في روسيا في 21 ديسمبر عام 2009، وللفحص الدقيق في بولندا قبل طيرانها الأخير. هل هذا يعني أن علينا أن ننحّي جانبا الأسباب التقنية من حسابات أسباب تحطمها؟ لنتوقف قليلا عند ما يلي: في آب 2008 أثناء رحلة الرئيس الراحل كاتشينسكي إلى أذربيجان قام مساعدو الرئيس وفيما بعد الرئيس نفسه بالطلب من قائد الطائرة إلى تغيير مسار الرحلة، لكن القبطان لم ينفذ طلب الرئيس لأسباب أمنية الأمر الذي دفع فيما بعد وزير الدفاع البولندي إلى منح القبطان وسام الوزارة تقديرا لشجاعته وتقديرا لشعوره العالي بالمسئولية واحترامه للقوانين الخاصة بسلامة الطيران. كما وحصل أربعة من قباطنة طائرة رئاسة الجمهورية على أوسمة رفيعة تقديرا لجهودهم في إدارة وإنجاح نقل مجموعة الإنقاذ البولندية إلى هايتي في الرابع من شباط 2010. هل هذه المعلومات الموثقة تستبعد مسئولية قبطان الطائرة الماهر عن الكارثة، وهل أن الرئيس الراحل أو أحد معاونيه قد تدخل-حرصا على الوقت- وطلب من القبطان أن يهبط رغم سوء الأحوال الجوية؟ من الجدير بالذكر أن المطار العسكري في منطقة سمولينسك الروسية يفتقد إلى أنظمة السيطرة والهبوط المتطور(ILS) المتوفرة في مطار هيثرو مثلا والذي يسمح للطيار بالهبوط حتى في أسوأ الظروف الجوية. الجانب الروسي يبعد الأسباب التقنية جانبا ويحمل الطيار مسئولية ما حصل. قد يكون وراء الكارثة سبب أو عدة أسباب لا نعرفها بعد.

كاتين؟!
ظلت قضية كاتين مدار جدل ومماحكات واختلاف وصراع بين روسيا وبولندا على مدار سبعين عاما، أدت إلى خلق نوع من سوء الفهم والكراهية بين الطرفين. إذ يعتبر البولنديون أن ما جرى عبارة عن مذبحة تدخل في مجال الانتقام والتصفية لخيرة القادة البولنديين قد تعرض إليها الشعب البولندي مع سبق الإصرار والترصد وهذا ما كانت تنفيه دائما السلطات الروسية المتعاقبة خوفا من عواقب الاعتراف بهذه المأساة.
تقع بلدة (كاتين) على مقربة من منطقة سمولينسك ndash; مكان تحطم الطائرة. بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في أيلول/سبتمبر 1939 قامت السلطات الروسية باعتقال مجموعة كبيرة من البولنديين وإرسالهم إلى عمق روسيا وفي 5 مارس/آذار 1940 قامت السلطات السرية الروسية الستالينية بإضافة مجموعة كبيرة من الأسرى البولنديين وتم (بناء على قرار من المفتش العام ndash; مسئول اللجان الشعبية السوفيتية التابعة لوزارة الداخلية التي يطلق عليها آنذاك - NKWD) قتل أكثر من عشرين ألف بولندي شكل العسكريون والمثقفون البولنديون غالبيتهم العظمى وجرى دفنهم في مقابر جماعية. لم تعترف السلطات الروسية المتعاقبة بهذهquot;الجريمةquot; لكن البولنديين، خاصة قوى الكنيسة واليمين البولندي اعتبرها أحد المجازر التي تعرض لها الشعب البولندي على أيدي الروس. على ضوء ذلك قام الجانب البولندي بتوثيق ما حصل ونشر الكثير من الدراسات والوثائق حول القضية، حتى أن عملاق السينما البولندية(أنجي فايدا) قام في عام 2007 بإخراج فيلم بعنوان(كاتين) واحتفت به الأوساط البولندية وتم ترشيحه إلى جائزة الأوسكار التي لم ينلها.

هل تعيش بولندا حاليا فراغا في السلطة؟
لقد شكل موت الرئيس البولندي (ليخ كاتشينسكي) وعديد من القادة والمسئولين السياسيين والمختصين والعسكريين كارثة وخسارة لبولندا لا يمكن تعويضها بسرعة. ظاهريا وبفضل الممارسات والأنظمة الديموقراطية السائدة في بولندا فإن ما يمكن أن يحصل من فوضى ومؤامرات في مثل هذه الحالة في الكثير من الدول غير الديموقراطية لم يحصل في بولندا. إذ سرعان ما قام رئيس البرلمان البولندي الحالي(برونيسواف كوموروفسكي- مرشح الحزب الحاكم لخوض الانتخابات المقبلة) بشغله مؤقتا وفقا إلى الدستور البولندي إلى حين إجراء الانتخابات التي سيجري تقديمها على موعدها السابق المقرر في الخريف المقبل. يقوم رئيس البرلمان البولندي الحالي استنادا إلى الدستور البولندي بالقيام بمهام رئيس الجمهورية الراحل لمدة أسبوعين يجري في غضونها تحديد موعد الانتخابات المقبلة لرئاسة الجمهورية التي عليها أن تتم خلال (60) يوما بدءا من إعلانها وهذا يعني النصف الثاني من حزيران/يونيو القادم.
من المفارقات، كان يتوقع للانتخابات المقبلة أن تجري في أجواء تنافسية ساخنة وشرسة حاولت جميع القوى المتنافسة على منصب الرئاسة أن تعتبره أمرا لا مفر منه. إلا أن مصرع الرئيس كاتشينسكي الذي كان ينوي خوضها، قد يضطر المتنافسين إلى تخفيف نبرة وأسلوب لهجتهم وحملاتهم الانتخابية. أدت هذه الكارثة إلى تعرض الحزب المعارض(حزب كاتشينسكي) إلى خسارة فادحة أفقدته مرشحه الوحيد الرئيس الراحل ليخ كاتشينسكي ومعظم معاونيه ومسئولي رئاسة الجمهورية وطبيبه الخاص والكثير من قيادات حزب القانون والعدالة من الصف الثاني، ناهيكم عن عدد معتبر من نوابهم في البرلمان. كما ومنيت قوى اليسار المعارض إلى خسارة كبيرة متمثلة بمرشحهم المحتمل إلى خوض الانتخابات المقبلة (شمايجينسكي). كما ولقي مصرعه مدير البنك المركزي البولندي- مسئول السياسة النقدية المالية لبولندا الأمر الذي quot;سيشل إلى حين عمل هيئة السياسة النقدية البولنديةquot;- حسب رأي المتابعين من المختصين البولنديين. على أن أكثر التصريحات البولندية غير الرسمية جرأة هو ما قاله أحد المحللين الإعلاميين البولنديين في صحيفة quot;كازيتا فيبورتشاquot; البارحة من أن هذه المأساةquot; ستزعزع الدولة البولندية؟.
من المتوقع بعد تضميد الجراح ولو جزئيا أن تقوم كافة القوى السياسية البولندية بالتفكير جديا بملأ الفراغ الذي حصل فجأة في الدولة والاستعداد لتقديم مرشحيهم لخوض الانتخابات المقبلة. المرشح الوحيد المعروف حاليا لخوض تلك الانتخابات هو مرشح الحزب الحاكم (برونيسواف كوموروفسكي)- رئيس البرلمان الحالي والقائم مؤقتا بمهام رئيس الجمهورية الراحل.
قبل مصرع الرئيس كا تشينسكي كان من المفترض أن تجري منافسة حامية الوطيس بينهما والكثير من المصادر المطلعة كانت تتوقع فوز رئيس البرلمان الحالي في الانتخابات المقبلة. لكن هل سيحصل العكس خلافا لتلك التوقعات بعد ما حصل يوم السبت وجراء تعاطف البولنديين مع مأساة الرئيس الراحل، أقول: هل سيعوض الناخب البولندي حزب الرئيس الراحلquot;القانون والعدالةquot; ما خسره في يوم السبت بفقدان مرشحها الوحيد؟
يمثل حزب القانون والعدالة اليمين البولندي مدعوما من قبل غالبية الأوساط الكنيسية البولندية، لكنه وبسبب سياسة الأخوين quot;المشاكسةquot;: الرئيس الراحل ورئيس الحزب(ياروسواف كاتشينسكي)الحالي، في اتهام أو مخاصمة أو تخوين الكثير من المعارضين جعل من ممارستهما في الحزب والرئاسة هدفا سهلا لخصومهما السياسيين. يبدو أن الآتي مفتوح على كافة الاحتمالات ما عدا العنف والانقلابات العسكرية المتوقعة في مثل هذه الحالات في الدول ذات الأنظمة غير الديموقراطية.

لقد أصيب الشعب البولندي وحكومته اليوم بصدمة هائلة بسبب الكارثة الهائلة التي حلت بهم وأدت إلى فقدان الكثير من الشخصيات الرسمية والسياسية والدينية وعدد من الإعلاميين والمثقفين وممثلي ذوي الضحايا. لم يحدث أن شغل رئيس البرلمان البولندي مهام رئيس الدولة إلا مرتين في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية: بعد مقتل الرئيس(غابرييل ناروتوفيتش) ومحاولة اغتيال ستانيسواف فويتشخوفسكي مما اضطره إلى ترك المنصب.
ولم يستطع البولنديون أن يفهموا مصرع هذا العدد الكبير من كبار ممثلي السلطات السياسية والمدنية والعسكرية والدينية لأنه كان من المفروض ألا يجتمع هذا العدد على متن طائرة طائرة واحدة. وبمناسبة هذه الحادثة الأليمة أعلن الحداد الرسمي لمدة أسبوع في عموم بولندا. لكن حجم الكارثة ومن مفارقات القدر المأساوية أنه قد ساهم بتعريف العالم بكاتين وبما يحيط بها من ملابسات وصمت على مدى السنوات السبعين المنصرمة. حتى أن راديو quot;صدى موسكوquot; قال في محضر متابعته للحدث: quot;اعذرونا- لم نكن نريد ذلك- أيها البولنديون لأننا سببنا لكم الألم واعذرونا لأن روسيا جلبت لكم مأساة أخرىquot;. لكن أحد كبار المحللين الروس قال إن ما حصل قد يؤدي إلى تدهور العلاقات بين البلدين لأن قسما من البولنديين سيظن أننا وراء ما حصل. ولكي يعطي الجانب الروسي حجما أكبر لتعاطفه مع الحكومة والشعب البولندي ويقطع دابر التكهنات في إطار نظرية المؤامرة، قرر التلفزيون الرسمي الروسي أن يعرض مساء اليوم فيلم quot;كاتينquot; لأنجي فايدا الذي ينتمي إلى صنف الدراما الحربية ويعالج quot;جريمة كاتينquot; كما يصفها البولنديون.
لقد حصدت الكارثة دفعة واحدة عددا كبيرا وهاما من القيادات البولندية ومن الخط الثاني كذلك ما لم تتمكن أية حرب من أن تحصده.