في الأول من نيسان أعلنت جريدة بريطانية عن افتتاح معرض هام للحمير، ولما حضر القوم صباحا لم يجدوا أحدا هناك، ولما انتظروا لم يفتتح المعرض، فوضع كل يده على أذنيه وقال من هم الحمير إذن غيرنا؟ فكانت نكتة أول نيسان المشهورة.
ذكر هذا علام مهدي في كتابه الرائع حول فلسفة الكذب ولماذا يكذب الناس وما هي دوافعه، وقام بتفكيك هذه الظاهرة النفسية.
وفي المغرب اتصل رجل بصديقه فجر الأول من نيسان قال له خيرا في هذا الصباح؟ قال أنا آسف لقد علمت بأن والدك عمل حادث؟ ابتلع الرجل ريقه وقال ثم؟ قال: مات بكل أسف!
سقطت السماعة من يد المتلقي ووقع على الأرض مغشيا عليه، صاح الأول من جانب الخط لقد كانت كذبة نيسان؟
الحقيقة هذه مصيبة نيسان بكل تواطؤ!
ولذا كان علينا اتباع قواعد مفيدة في حياتنا في حدود عشرين تقول القاعدة الثالثة منها:
لاتتطوع بنقل الأخبار المنفرة والمقبضة والمزعجة الكريهة، مالم يكن فيها نجاة روح والخلاص من مصيبة عظيمة، كما في قصة الراهبة في نجاة جان فالجان في قصة البؤساء لفيكتور هوجو، فكذبت ونجا عمدة البلد مادلين من قبضة الشرطي جافير، وكما فعل ذلك الذي حذر موسى بالخروج ممن يأتمرون به ليقتلوه فقال اخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب؟ فودع مصر عشر سنين عددا.
خرج من مصر رجلا عاديا مجرما مطلوبا للعدالة، ورجع نبيا هاديا للعدالة والفضيلة. فقد ولد ولادة جديدة وتنظف في صحراء مدين.
وورد عن النبي العدنان (ص) تدريب من حوله أن لايكذبوا قط ولو في المزح، وفي يوم جاءته امرأة فداعبها أليس زوجك الذي في عينه بياض؟ صاحت لا لا !! رد عليها وهل منا احد ليس في عينه بياض؟
وما زلت حتى هذه الساعة متألما في حياتي من ثلاث؛ الأول في ألمانيا كان زميل عمل سوري من بيت الريس اجتمعت به في مدينة باينه الألمانية ضحك من محمد (ص) أنه يعمل دعاية لساعات رولكس فتحملت منه ولم أرد ولعله يقرأ كلماتي اليوم، وهو لايعلم أن السخرية من نبي تعني السخرية من كل الأنبياء، وأعظم الم للإنسان احتقاره وما يحمل؟
والثاني حموي طبيب أطفال جاء لفترة قصيرة إلى المملكة شيوعي كان يتحدث بطريقة يقينية، أن محمدا (ص) كان يكتب القرآن حسب نشاطه الجنسي، وبلغ من حماسته لهذه الفكرة، أن قال افتحوا أي مكان في القرآن لتجدوا صدق ما أقول؟
قلت له ولكن لاتنكر أن هذا الرجل (ص) كان ناجحا في كل شيء؟
والثالث كذاب أشر اجتمعت به في جنوب المملكة كان موسوعة في الكذب لم يمر علي مثله قط في حياتي، شكله حشاش يلبس معطفا أبيضا بشوارب ستالينية، ويحمل في جعبته من ألوان الحيل والخداع ما ينوء بحمله العصبة أولي القوة من الكذابين وكان يكرر أنا مدرسة في الكذب؟.
لقد حركت عندي هذه الظواهر الثلاث البحث في أصل الكذب وفلسفته ولماذا يكذب الإنسان؟ بل لماذا اعتبر الإسلام أن الكاذب يخرج من الملة! إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون. والمؤمن لايكذب. ووصى الله عباده فقال اتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
وفي قناعتي ان أي ذنب قابل للإصلاح إلا الكذب، فهو مفتاح كل الخطايا، ورأس كل الذنوب والانحرافات، مثل الجهاز الذي يعطي الإشارة الخطأ، من ساعة وجهاز مقياس حرارة وضغط وآلة حاسبة، فإما أصلح أو رمي، وكذلك الكذابون فهم حصب جهنم هم لها واردون.
ولكن ماهو الكذب تحديدا قبل كل شيء؟
الكذب عشرة أنواع
يقول فرانسيس بيكون: (إن خلط الكذب بالصدق مثل خلط الذهب بالفضة قد يسهل استعماله ولكنه يحط من قيمته. لأن هذه السبل الملتوية تشبه سير الأفعى فتسير سفلا على بطنها وليست سوية على أقدامها).
والقرآن نعى هذا الأسلوب على أهل الكتاب أنهم (يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون) وهو من أشد أساليب الكذب خفاءً.
والكذب ليس واحداً بل عشرة. ويعرف باختصار أنه إخبار متعمد بخلاف الواقع. لذلك تعددت صوره على عشرة أشكال:
بين من يتزلف للأقوياء فيمدحهم (1) بما ليس فيهم ولذلك جاء الحديث: حثوا في وجوه المداحين التراب. وهذا لون من الكذب و99% من سكان العالم العربي يتزلفون ويكذبون لأسيادهم الحكام في صحافة مرتزقة جدا.
وهناك الخفيف (2) وهو كثير الانتشار بين الناس عندما يدعي البعض ماليس فيهم، وهو المبالغة ولذلك ربط القرآن بين الكذب والمبالغة بلفظ إن الله لايهدي من هو مسرف كذاب.
ويروى في هذا قصة جحا عندما زعم أنه بنى مسجدا طوله 20 كم وكان قد حذره صديقه من ذلك؛ فقال اسعل أو اعطس إذا سمعت مبالغاتي، فلما ذكر الرقم اعترت صاحبه نوبة حساسية رهيبة وعطاس متلاحق، وبدأ في السعال حتى كاد أن يختنق، فالتفت القوم الى جحا وقالوا له وكم عرضه؟ قال متر واحد، صاح الجمهور بصوت واحد لقد ضيَّقته ياجحا؟
التفت جحا الى صديقه الذي كان يلملم بقية سعاله، وقال الله يضيق على من ضيق علي؟
ونفس الشيء فعلته مع الزميل المنفاخ، الذي ألح علي في تقديمه للناس في عسير، حين قلت له عندما نجتمع بالناس، اضغط على يدي حتى اعرف القوم بالطبيب الذي لم يلحق غباره أحد؟
وهناك الكذب السياسي (3) وهو الذي نعرفه عن الاذاعات الغربية فهي صادقة تماماً، ولكن مثل الأعور أو شبه الأعمى، بمعنى أنها تذكر التافه وتخفي المهم، وتعظم الصغير، وتصغر الكبير، وهو ماسماه المفكر الأمريكي (نعوم تشومسكي) فبركة الاعلام؛ فيكفي أن يذكروا خبرا صغيرا يكررونه، حتى يتحول الى طوفان نوح.
ومن هذا النوع تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان الذي اتفق معظم علماء الامة أنه لايصب في النهاية مع مصلحة المسلمين تحت الآية (ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم).
والناس لاتستوعب لعبة الصراع الفكري التي كتب عنها مالك بن نبي مطولاً، وهكذا هرع الإعلام الغربي في غير نزاهة أوموضوعية أو حياد فكرر الخبر وضخم، بحيث أصبحت صورتنا في العالم لاترضي، فزادت قباحو فوق القباحة، فهذا كذب متعمد، ولكن لايفوح منها رائحة الكذب. ويروى عن عمر ر أنه كان يقول اللهم أشكو اليك ضعف التقي وقوة الفاجر.
و(4) هناك المزح الخبيث بين الحقيقة والكذب، والاقتصار على بعض الحقيقة فتظهر نصف الحقيقة وهي ليست حقيقة كما لو استخدم أحدهم نصف آية مثل (لاتقربوا الصلاة) أو ( يد الله مغلولة) أو (إن الله فقير) فلا يمكن معرفة الحقيقة مالم يكمل صاحبها (وأنتم سكارى) أو (غلت أيديهم بما قالوا) أو (ونحن أغنياء سنكتب ماقالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق).
وهناك لون خطير من الكذب(5) عندما يتلَّون الناس في أخلاقهم فيظهرون خلاف مايبطنون وهو (النفاق) وهم عناصر خطيرة مدمرة مثل الجراثيم في الجسم ولذا كان مصيرهم في الدرك الأسفل من النار.
وهناك (6) عادة إخلاف الوعد وهو النفاق العملي وهي أخلاق سيئة وكثيرة الانتشار بيننا وبكل أسف فالألمان أفضل منا بكثير في هذه الأخلاقية.
وهناك التكتم (7) على الأخبار والكذب للتعمية عليها وهو ديدن السياسيون وووصف أحدهم السفير أنه رجل شريف يكذب لمصلحة بلاده، ولعن الرب من يتكتم على الحقيقة فيكون من الملعونين على لسان الله والملائكة والناس اجمعين لأن ضرره على الناس أجمعين.
وهناك الافتخار والانتفاج(8) والله لايحب كل مختال فخور.
ولعل أشنع صور الكذب هي شهادة الزور (9) التي قرنت بالشرك بالله. والافتراء (10) التي هي اختراع قصة لا أصل لها. كلها تركيب وأذكر في هذا صديقي ابن الخطيب الذي كان يروي لي قصة الملك زعان التي لاتنتهي وكان كذابا محببا أشتهي سماع قصصه ولا أدري إن كان يقرأ أبحاثي اليوم؟
وإن الله لايحب كل مسرف كذاب.
وأعظم مسرف كذاب هم السياسيون المارقون الأفاقون الخراصون فوجب وضعهم في قائمة خاصة للتعريف بهم؟
كذب السياسيون ولو صدقوا؟
ذهب المثل بالقول: كذب المنجمون ولو صدقوا. ومنجمو الوقت الحاضر هم السياسيون. فهم يقربون البعيد ويبعدون القريب فلا يعول عليهم. ومن صدق سياسيا فلا يلومنّ إلا نفسه. ومن عاش في ظل نظام شمولي فلم يهرب منه فلا يلومنّ إلا نفسه. ومن وقع في مشكلة فلا يلومنّ إلا نفسه. وهذا ينطبق على العرب الذين يفشلون في كل اجتماع سواء اجتماع تونس في ربيع 2004 أو في ربيع 2010م أو بعد خمسين سنة أخرى؟ فاللوم عليهم وعليهم أن لا يلوموا أمريكا وإسرائيل.
فهذه ثلاث قواعد ذهبية ومريحة في الحياة.
وفي يوم طلب جار لجحا استعارة حماره لقضاء حوائج له قال إنه ليس في الزريبة ولم يكد جحا ينتهي من كلامه حتى ارتج المكان بنهيق منكر للحمار؟ التفت الجار إلى جحا وقال ماذا تقول؟ قال جحا أتكذبني وتصدق حمار؟ فهذه القصة تروي دجل السياسيين.
وجحا أصبح مثلاً شعبياً رائجا لأنه يعبر بصدق وعفوية عن الواقع.
ومن مدينة القامشلي حيث لعلع النار ودلف العشرات إلى القبور والمئات إلى المشافي في كارثة الانفجار الكردي أذكر قصة حسن مصروع والرجل لم يكن مصروعا ولكن الناس اتفقوا على إعطائه هذا اللقب ومات الرجل رحمه الله فقد دخل يوماً على القاضي لمظلمة له فأشعل عود ثقاب ثم بدأ يبحث تحت أقدام القاضي قال له عم تبحث عمو حسن؟ قال أبحث عن العدالة؟
وعندما يخرج المسئول السياسي في بلد عربي أو غير عربي يجهز نفسه أولاً للكذب، ولكن الصحافة في الغرب تحرجه، وفي العالم العربي تصدقه وتزكيه وتنشر كذبه ولو بحجم جبل قاف؟
ومجلة در شبيجل الألمانية وصفت القذافي أنه تحول من شقي إلى مثالي؟ لأنه دفع الجزية عن يد وكان من الصاغرين، فرضي عنه زيوس رب الآلهة، وحج إليه أرباب أوربا من بلير وبلرسكوني، بل وطلب منه كما جاء في مقالة نشرتها مجلة الشبيجل مئات من الحسناوات الإيطاليات بطول لايقل عن 175سم؟ فتعجب الإيطالي الفاسد من الطلب؟ لماذا؟ قال لتعليمهم الإسلام؟
وفي هذا المقالة مع ربيع 2010م جاء العنوان (عائلة غير معقولة Unmoegliche Familie) لسبع عجاف من البنين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فبعد إعلان الجهاد على سويسرا وطلب حلها والتهامها من ثلاث دول مجاورة مثل فطيرة محشوة بالزبيب من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، رفع الجبار مقدار التعامل التجاري مع سوسيرا سرا بمقدار الضعف.
وامتدحه كاتب عربي مرموق في جريدة مرموقة فوصفه أنه سيد الفنانين بالقدرة على البقاء على ظهر العباد إلى يوم الدين؟
وصرح ابنه ولي العهد يوما وهم عائلة تحمل أسماء السيوف المهندة من سيف الإسلام وسيف العرب وهانيبعل، أنه سيحل مشكلة اختفاء موسى الصدر والديموقراطية معاً؟ فلم يحل شيء سوى إطلاق سراح البلغاريات المسكينات بعد لوكربي مقلوبة اتقاء شر السفيه، فهذا هو فن البقاء؟ فمن نصدق؟
وقرأت عن مسئول في بلد عربي ارتجت الأرض عنده بمظاهرات وقتلى فخرج على الناس يقول ليس عندنا مشكلة. وهو يعرف أنه يكذب. وهو يعرف أن الناس تعرف أنه يكذب.
وهذا هو السبب أن الناس عندنا تفتح محطة لندن لاستماع الأخبار. ولا تصدق إذاعتنا ولو عن درجات الحرارة.
وليس معنى هذا أن إذاعة لندن لا تكذب، ولكنها أدهى في ترويج الكذب بطريقة مدروسة.
ونحن نعلم من الكاريكاتور أنه نفس الشخص مع تحوير في القياسات بحيث تبرز معالم الشخصية على نحو مضحك من تكبير للذقن أو الأنف. وإذاعة لندن وسواها تفعل مثل هذا فهي تروي الخبر ولكنه بحجم كاريكاتور حسبما يخدم غرض الإذاعة.
والميديا خطيرة فهي تمط الأقزام فيصبحوا عمالقة. ويظن من يدير الحوارات في الفضائيات أنه أفهم ممن استقدم من المفكرين وهو تافه. وينقل عن كاترين ديميدتشي الإيطالية التي حكم أولادها عرش فرنسا أنها كانت توجه من حولها إلى الكذب بدقة وحرص وإصرار إلى درجة أن يصدق المرء نفسه؟ فمن يكذب وهو مرتج لا يصدقه أحد، وينكشف كذبه، ولكن من يكذب بإصرار وعزيمة يصدقه الكثير.
وهي قصة تذكر بقصة أشعب الأحمق مع الأطفال حينما أراد صرفهم عنه فكانوا إذا تحرشوا به قال لهم هناك وليمة فيسرع الأطفال باتجاه الوليمة وعندما كرر هذا الأمر خبط رأسه بيده وقال مخاطباً نفسه يا أشعب وما يدريك فلعل وليمة موجودة حقاً ثم انطلق لا يلوي على شيء باتجاه الوليمة.
وفي كتاب القوة لروبرت غرين تحدث عن علم كامل اسمه التدجيل وكيف يخلق الإنسان طقوسا بخمس درجات بالحيلة والمكر والكذب.
وفي قناة الديسكفري أكدوا هذه الحقيقة وهي أن السياسيين من أكذب خلق الله، وعندما حوكم كلينتون لم يحاكم لأن لوينسكي مارست معه الجنس بالفم، بطريقة شاذة أو غير شاذة، بل لأنه كذب فجمع الفسوق فوق الكذب. ولكنه ضيف شرف في كثير من الأمكنة في العالم هذه الأيام مع أنه رسب في الامتحان الأخلاقي. ويأخذ على كل خطبة في الكذب مائة ألف دولار؟
ولكن يبدو أن الوسط يساعد على نمو أمثال هذه الطفيليات. ومن يكشف هذه الجراثيم هو الوسط المعقم.
ونحن نعرف في الطب أن الدوران الداخلي نظيف فلا يوجد جرثومة واحدة في مجرى الدم، ويعلن الجسم عن وجوده باختلاجات خطيرة وارتفاع الحرارة، أما جراثيم البراز فهي بالملايين ولكن حيل بينها وبين الوسط الداخلي المعقم بجدار فإذا انثقبت الزائدة الدودية هددت الحياة.
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.
لعبة الكذب
كلنا يكذب بقدر وأكثر من مرة في اليوم الواحد ولأكثر من إنسان. وكثير منها بسبب اللغة فنبالغ ونجامل ونكذب ونحن نظن أننا لا نكذب.
هذا ما كشفته الدراسات النفسية الحديثة. وهو أمر معروف ومكرر وخاصة على لسان القيادين والسياسيين.
وقامت عالمة النفس بيلا ديبولا بتجربة مثيرة في عرض لوحتين الأولى سريالية والثانية بيضاء ولكن أرضيتها من نقوش نجمات. ثم عرضت اللوحتين على العديد من الناس لترى التعليقات فكانت مشبعة بالمرارة والتهكم. ثم فاجأت الحضور بأن دخلت سيدة على ظهرها حقيبة وأدعت أنها من رسمت اللوحة السريالية. كما دخل شاب يدعى جاك فأخبر أن اللوحة البيضاء هي من صنع يديه وهو يريد بحرص أن يسمع تعليقاتهم على ما أنجزته يداه في أسابيع طويلة من العمل. فانقلب القوم على رؤوسهم وقالوا ما أجملها ولقد أبدعت فيها وللمرأة قالوا إنها لوحة تأخذ بالألباب وأنها ساحرة ومسيطرة ومؤثرة.
وهكذا فنحن في موجة المجاملة ننافق ونكذب ولا نقول الحقيقة في وجه صاحبها.
والحقيقة مؤلمة في العادة. والأعور لا يقال له أيها الأعور بل يشار له أن عينه كريمة!
وقام بول أكمن بدراسة أقنعة الوجه وتفاعل العضلات مع التعبيرات فوجد أن أجرأ الناس على الكذب من يتمالك فيمسك تعبيرات وجهه عن الظهور. وكثير من حكام العالم القساة مثل ستالين وحافظ الأسد وصفت وجوههم أنه قناع جامد مثل التمثال أو أبو الهول ربما لكثرة الدماء وقسوة القلب. وقامت مدرسة في حضانة الأطفال باكتشاف عالم الأطفال ومتى يتعلمون الكذب فعرفت أن الطفل في سن الثالثة لا يفرق كثيرا بين نفسه والآخرين وفي السن الرابعة يبدأ في التمييز بأن فلان أفضل من فلان ولكنه يحتاج لتمييز الخداع والكذب إلى الوصول إلى السن السادسة والسابعة.
وفي تجارب عالم النفس السويسري جان بياجييه اكتشف أن الطفل قبل سنة السابعة لا يربط بين كمية الماء ومستواه فكمية الماء في أنبوب طولاني مثل كمية الماء في حوجل كبير طالما كان مستوى الماء واحداً. ويبدو أن الكذب مفيد أحياناً لأنه يقوم على الخدعة لإنقاذ الحياة.
وفي قصة فيكتور هوجو عن البؤساء كذبت الراهبة التي لم تكذب في حياتها قط لأنها عرفت أن صدقها للبوليس سيخدم قضية غير صادقة.
وفي رواية أن إبراهيم عليه السلام كذب على فرعون فادعى أن سارة ليست زوجته حتى لا يقتله الجبار.
ومن أعجب ما كشفت عنه قناة الديسكفري كيف أن كلينتون كرر مرتين أنه لم يمارس الجنس الفموي مع لونسكي وأنه لا يكذب فكذب مرتين. ونقلوا عن نيكسون وهو يقول إنها الحقيقة ولم تكن الحقيقة بل كان يكذب. وقالت القناة بكل أسف يبدو أن المخادعين الكذابين هم الذين يتسنمون مقاعد قيادية ويؤثرون في الناس ويقررون مصائر العباد.
ولكن سبينوزا الفيلسوف الهولندي قرر في كتاب كامل أن الأخلاق هي حصيلة خبرة الجنس البشري، وأن الصدق ينبع من مصدر نفعي بحت أنه الأفضل للبشر. وأنه يمكن البرهنة على الأخلاق كما نبرهن على السطوح والخطوط في الرياضيات. فكتب كتابه الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي.
ويا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ومن الصادقين.
ويبدو أن الكذب ينشأ مع الطفولة لذا كان ضروريا دراسته عند الأطفال
فلماذا يكذب الأطفال؟
إن الطفل يكذب لثلاثة أسباب (الخوف الخيال والرغبة) فهو يعشق ويغرق في الخيال كنوع من عمليات النضج العقلي حيث يسمح للعقل بالتحرر إلى مدى غير محدود.
وعلينا أن نلاحظ أن هذا النوع من الكذب هو من ألعاب الطفل العقلية.
أما كذب الخوف فهو أشد خطراً وأسوأ عاقبة ولكن مشكلة الهروب من العقوبة إلى الكذب هو هروب من خطيئة إلى ما هو أبشع منها.
وهذا الخلق قد يتطور فيصبح خلق الناس الكذب لأنهم يخشون الحاكم مثلاً أو من يقودهم ويسوسهم.
ولكن حل الخوف بالكذب يفاقم المشكلة، ولذا كان من الضروري خلق الجرأة الأدبية في قلب الطفل، كي يواجه الموقف بالصدق والصراحة.
أما خوف الرغبة فهو أخبث الأنواع الثلاثة وهو يفترق عن كذب الخوف أنه مبني على تخطيط ودراسة وطول تأمل، وهي حالة نفسية خطيرة يغلب فيها الذكاء الأخلاق.
ويقول في هذا ابن المقفع: ( رأس الذنوب الكذب هو يؤسسها وهو يتفقدها ويثبتها. ويتلون بثلاثة ألوان بالأمنية والجحود والجدل. يبدو لصاحبه بالأمنية الكاذبة فيما يزين له من الشهوات. فيشجعه عليها بأن ذلك سيخفي فإذا ظهر عليه قابله بالجحود والمكابرة فإن أعياه ذلك ختم بالجدل فخاصم عن الباطل ووضع له الحجج والتمس به التثبت وكابر به الحق حتى يكون مسارعا للضلالة ومكابرا للفواحش).
وهو مانبه القرآن نبيه فقال ولا تكن للخائنين خصيما في قصة اليهودي والصحابي الأنصاري السارق التي نزلت فيها عشر آيات في سورة النساء فنزل القرآن يدافع عن اليهودي المظلوم.
ويعالج هذا المرض بعدم السكوت عليه واحتقاره، ومن المهم أن لا يكون الاحتقار للإنسان، ولكن لكذبته والطبيب يكره المرض ويحاربه ولا يكره المريض.
والكذاب من هذا النوع هو مريض يجب معالجته وتخليصه من الداء حتى يعود إلى شاطيء السلامة والصحة النفسية. وحذار من معالجة الطفل المصاب بالكذب من أمرين التساهل أو المعاندة فكلاً منهما لا يحل المشكلة؛ ففي الحالة الأولى نحن نشجع الطفل أن يشتد في مرضه ويتحول الى كذاب ربما مدى الحياة عندما يشعر أن خدعته انطلت على القوم فيعزز عنده هذا الاتجاه كما يقول علماء النفس السلوكي.
وأما الأمر الثاني فهو عدم تصديقه مهما قال فهذا أيضاً خطر وينطبق عليه قصة الراعي الكذاب حينما لم يصدق مطلقاً حتى جاء الذئب يوما فأكل الغنم.
وإنما يجب أن نضعه تحت الاختبار المتواصل فإذا قال عن أمر قد حدث تريثنا حتى يصلنا فإذا تبين صدقه سلمنا له وهكذا حتى يعتاد الصدق ويكتب في صفيحة الأبرار.
وإذا لم ننتبه لهذا فقد يصاب الأطفال بالعناد ويتلذذون بعدها في ممارسة الكذب.
ويروى عن ابن الخطاب ر أنه كان يوما في السوق فرأى مجموعة من الغلمان وكانت له هيبة ففر الغلمان إلا واحدا وكان عبد الله بن الزبير فلما رآه الفاروق لوحده سأله لقد فر أصحابك فما بالك أنت قال: يا أمير المؤمنين لم أكن مذنبا حتى أخافك ولم يكن الطريق ضيقا حتى أوسع لك فتعجب ابن الخطاب ر من ذلك.
وهو مؤشر على ثقة هذا الغلام بنفسه وأنه قد تخرج من مدرسة تربية متميزة علمته الجرأة في الخطاب وصدق اللهجة وقوة الشخصية وعفوية الإجابة ولا غرابة فهو ابن (اسماء بنت أبي بكر ) المكناة بذات النطاقين فعندما حملت الطعام لأبيها ورسول الله ص ثاني اثنين إذ هما في الغار شقت نطاقها قطعتين كي تحمل أكثر من الزاد لهما فسميت بذات النطاقين. وابنها هو الذي قام بالثورة على ظلم الحجاج لاحقا.
وينقل صاحب كتاب (فلسفة الكذب) محمد مهدي علام عن مربي فاضل قوله للطفل إذا كذب عليه وهو يعلم بذلك: ( أي بني أنا في حيرة مما تقول ولكن لا مندوحة لي عن تصديقك) وقد خلقت هذه الطريقة عند طلابه أن لا يخدعوا هذا الطيب المستقيم وهو كان كذلك طيبا ولكنه لم يكن ساذجاً وقد خلقت طريقته هذه أثرا طيبا من الاعتداد بالكرامة وأن لا يخدع الإنسان الآخرين.
هل يجوز الكذب؟
بقدر ما يعتبر الكذب ضارا وحراماً بشكل عام بقدر ما يعتبر واجباً في بعض المناسبات. فالأساس هو الصدق ولكن الكذب ينفع في بعض المواقف بأفضل من الصدق. وهذا تناقض في الظاهر وتحريض على ممارسة موقف لا أخلاقي.
ولكن إنقاذ إنسان بريء من يد ظالم، أو إطفاء غضب قاتل في ساعة ضاع فيها العقل لتهدئة الموقف، أو إصلاح بين الناس في وقت استطار فيه شرر الشر واحتدمت نوازع البغضاء والعنف يصبح الكذب فيه مقبولاً.
ومن الطبيعي أن الإنسان يجب أن لا يلجأ إلى الكذب في الوقت الذي يمكن حل الإشكال فيه بالصدق أو بما يقربه من التعريض والتلميح بدون التصريح الكامل والمحدد.
وجاء في السيرة أن الرسول ص سئل في موقف خطر عندما اعترض طريقهم أناس فسألوهم عن قبيلتهم: ممن القوم؟ فكان جواب الرسول ص نحن من بني ماء.
وتعجب الصحابي ليسأل الرسول ص لاحقاً ولكننا لسنا من بني ماء بل من قريش. فكان جوابه صلى الله عليه وسلم ألسنا من ماء أو لم يخلق الله الإنسان من سلالة من ماء مهين.
وفي هذا الموضوع يتفق الإمام الغزالي مع إفلاطون في قاعدة ذهبية لتحرير مناط الخلاف؛ فرأي الإمام الغزالي أن الكلام وسيلة إلى مقصد من المقاصد، وكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب معاً فالكذب فيه قولا واحدا حرام، ولكن إذا كان الوصول إلى هذا المقصد المحمود مغلق في وجهه الباب افتراضاً، ولا يمكن الوصول إليه إلا بالكذب فهو على وجهين مباح إن كان المقصود مباحاً وقد ينقلب إلى واجب إن كان الغرض الذي يجب أن نصل إليه واجباً. عملاً بالقاعدة الفقهية مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وهذا تفسير جميل لميكانيكية الحديث وآلية الكذب والصدق. وهنا حافة خطيرة قد يقع الإنسان فيها في حفرة من حفر النار إن استسهل الأمر. وبالعكس فهناك قوم من الحرفيين الذين يتمسكوا بظاهر الكلمات إلى درجة فقدان المعاني المختبئة خلف الكلمات.
وبالمقابل فإن افلاطون قبل 2400 سنة انتبه إلى جدلية الصدق والكذب فرأى أن الكذب يمكن أن ينقلب من اللاأخلاقية الى المباح ضمن وسط وشروط محددة. فهو يرى أن (الكذب اللفظي نافع في بعض الأحوال وليس بغيضاً ففي الحالة التي يكون فيها أصدقاؤنا وهم في ثورة جنونية أو تحت خطأ الإدراك على وشك القيام بعمل ضار يكون الكذب نافعاً وكأنه نوع من الدواء والوقاية. وكذلك الشأن فيما يتعلق بالقصص الخرافية فلأننا لا نعرف الحقيقة عن العصور السحيقة في القدم نصور الكذب في أقرب صورة ممكنة للصدق).
وكتاب (كليلة ودمنة) أو كتاب نوادر جحا الكبرى، كله من هذا الكذب المباح؛ فلا يعقل أن يتكلم الغيلم؟ وتتحدث الحية؟ وينطق الببر بالحكم؟ أو تصبح الحمامة المطوقة شاعرة فصيحة؟
ويلحق بهذا قصة الهدهد والنملة في القرآن، مع أن النملة تملك 300 نورون فقط؟
ولكنه الكلام يقصد به حكمة بعيدة للفت النظر وإنطاق البهائم والطير حينما يعجز بنو البشر في بعض أوقات عصور الظلمات السياسية عن النطق. كما في عصر الجملوكيات الذي يطوق أفق العالم العربي بالظلمات الكالحات في ليل طويل لانعرف متى فجره؟ فهذه حقيقة ولكن الناس لاتستوعب اقتراب هذا الليل كما وصفه الشاعر وليل أرخى سدوله، وكل الحكومات العربية حاليا في حالة (هيبريد) أو كما سماها كافكا الفيلسوف الدنمركي بالمورفولوجيا، أي التحول وخلال نصف قرن سيكون كل العالم العربي في مراكز ثقله ملكيات أو جملوكيات تكتب في التاريخ أنها حقائق ووقائع؟ وبالطبع فهذا بالنسبة لجيلنا يوجب عليه أمرين: إما تعليق حبل والانتحار أو الهرب من الجبار؟ أو الحبوس بقية العمر خلف الجدار؟ فاختر القرار؟
سيد الكذابين
أعلن ملك في أرمينيا عن جائزة سنية لمن جاء بأفظع كذبة في تاريخ البلاد.
قال الملك من فاز بالجائزة ونجح في تقديم الكذبة كان له تفاحة من الذهب الخالص.
وكان جواسيس الملك ينقلون له أخبار كذب الشعب، أن الكذب أصبح خليقة متوطنة بين الناس، وأن كل من يظهر الحب لا يعني بالضرورة حبا وولاء، وأن الكذب ينتشر مع الرعب، وأن الكذب خليقة تتوطن منذ أن يكونوا أطفالا، حينما يخافون من تقديم الحقائق.
تقدم الناس من كل الطبقات في اختلاق قصصا من الأكاذيب يحتار لها الإنسان.
وهرع إليه أناس كثيرون، أغنياء وفقراء، عساكر ومدنيين، طوال وقصار، سمان وعجاف، نساء ورجال من كل صنف زوجان، ومن كل فاكهة من الكذب لونان؟
كل يختلق من الكذب، ما يتعجب منه المرء على جدل ودجل الإنسان. وكيف يبرع الإنسان في الحرام أكثر منه في الحلال، وكيف يوقع الإنسان ويضر ويفتك بأشد من الذئاب بأخيه الإنسان.
كان الملك يصغي ويتعجب صبورا يملك غضبه ويطفيء ناره بحلمه، ولكنه كان يعرف كذب الناس، فكانت الجواسيس تنقل له أخبار الناس على مدار الساعة، في أحاديثهم الخاصة، وما تخفي صدورهم؛ فللحيطان آذان أكبر مما يتصور الإنسان.
ولم يكن هناك نقص في عدد الكذابين بين الناس.
ان الملك بعد أن يسمع قصة كل واحد، يقول له ليست الكذبة المناسبة وهي كذبة مفضوحة.
وخسر الناس الرهان باستمرار.
وفي النهاية ملّ الملك من هذه اللعبة، وقرر عدم منح الجائزة لأحد؛ فكله كذب مدسوس رخيص.
وفي اليوم التالي جاء رجل فقير الحال، تعلوه أسمال ليست بالنظيفة، وتفوح منه رائحة ليست بالطيبة، وتحت إبطه جرة من الفخار، طلب الدخول على الملك؛ فلما تقدم إليه ظهرت على وجهه علامات الحيرة والتردد، ثم قال: يا سيدي الملك لا أعرف ماذا أقول لك؟ ولكنني متأكد أنك تذكر أنك مدين لي.
قال الملك وبماذا أدين لك؟ وماذا أستطيع أن أفعل لك؟
قال سيدي الملك إن لي في ذمتك تفاحة من الذهب الخاص، هي أمانة عندك، أرجو أن تعيدها لي.
نظر الملك في وجهه، لا يصدق، ثم صاح به حقاً أنك رجل وقح عجيب، لا بل أنت كذاب أشر لم أسمع أفظع منها؟، فكيف تدعي مثل هذا الادعاء الكاذب، الذي تنشق منه السماء؟؟
قال الفقير ذو الأسمال: إذاً مد يد يدك وأعطني الجائزة.
انفعل الملك أكثر، وقال لا.. لا.. لست كذابا ولن تنال الجائزة.
قال إذا أنت تعترف أنني صادق، ولي في حوزتك تفاحة الذهب.
أسقط في يد الملك فإن اعتبره كذابا منحه الجائزة ففاز بتفاحة الذهب، وإن اعترف بصدقه منحه تفاحة الذهب، فقد كسب هذا الرجل الفقير قصب السبق بدون أن يكذب.
إن هذه القصة تحكي قانوناً نفسياً، عندما يدفع الخصم إلى خيارات، تنتهي في المصيدة التي ننصبها له، وهو باختياره أي خيار لن يختار إلا ما حددناه له؟!!
وهو قانون يسميه (جان جاك روسو) في التربية بقانون (القابلة القانونية) أو الداية، أي أن المرأة الحامل تضع طفلها، حسب رغبة القابلة ولكن بإرادة الأم.
وهي براعة نفسية كبيرة في فهم الآخرين، ودفعهم أن ينفذوا ما يحلوا لهم، بدون أن يشعروا أنهم ينفذوا إرادة المخططين. وهو ما تحدث عنه سكينر من مدرسة علم النفس السلوكي..
إنهم يعملون وفق أرادتهم، ولكن وفق الخطة التي نصبتها إرادتنا، والسياسيون المحنكون يفعلون بخصومهم هذا أحياناً، فيختار الخصم شيئا، وهو يظن أن يحسن الصنع، ولكنه ينفذ إرادة الخصم من حيث لا يشعر.
ويروى عن حافظ الأسد أنه فتك برئيس الاستخبارات عبد الكريم الجندي بهذه الآلية؛ فقال سوف أضعك في طريق مسدود، أينما ضربت رأسك ضربته في الصخر؟ فقال له لن أسلم هذه الرقبة للأمريكيين، ثم ضرب رأسه بمسدس من عيار 9 مليمتر!! والآن الاثنان عند ربهم يختصمون!!
وفي القرآن عرض للأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والعالم العربي اليوم بؤرة موبوءة، ومستنقع قميء، وعين حمئة، لكذب لا نهاية له، صعدت ريحها إلى طباق المزن ألوانا، فلوثت كل شيء وقتلت الإنسان قتلا..