ستيفن لم يكن يتصور مصارع الوزن الثقيل أن نهاية زيارته لقريب له في ضاحية ويسكونسين ستنتهي به إلى السجن لمدة 15 عاما، ذلك أن الشرطي تعرض له، وأراد تفتيشه؛ فاستولت عليه نوبة من الغضب، قام بعدها بضرب الشرطي ضربا مبرحا، كاد أن يصل به إلى الموت، فأطلق على ستيفن النار في بطنه، وحين أخذ ستيفن المسدس منه ليجهز عليه، كان المسدس لسبب مجهول قد انعقل؛ فبدأ بضرب أخمصه على رأس الشرطي، وخلال فترى قصيرة جاءت شرطة الدعم؛ فأمسكت بستيفن وحكم عليه بالسجن عقدا ونصفا من السنين!!.
فما الذي يحدث حين يصاب الإنسان بنوبة جنون على نحو غير متوقع!!

أمراض البدن وأمراض الروح:
يقول علم النفس أن البدن يمرض والنفس كذلك تمرض. فأما مظاهر المرض العضوي فتعبر عنها أجهزة البدن المختلفة مثل ارتفاع الحرارة والألم والسعال، وأما تظاهرات الاضطرابات النفسية فتتجلى باضطراب الروح.
شكوى البدن الخارجية واضحة، وأحياناً تتظاهر بشكل صاعق؛ مثل نفث الدم والصدمة (SHOCK)(1) أما شكوى النفس من قلق واكتئاب وحزن وغضب فهمس داخلي وفوضى في السلوك.
يتألم صاحب المرض العضوي في الغالب؛ فيسعى لطلب الطب والعلاج، أما صاحب المرض النفسي فلا ينتبه إلى إصابته في الغالب؛ بل يتمادى في اتجاه الخلل بدون آليات تصحيح داخلية، كما هو الحال في نوبات الغضب التي تتأجج مثل لهب النيران في غابة جافة يوم صيف قائظ اشتدت به الريح!!
وحين إصابة المريض بقولنج الكلية والحالب والمرارة والتهاب البانكرياس الحاد بسبب حصوة صغيرة فهي تهدد بحالة إسعافية إلى المستشفى، أما حالات الإحباط النفسي والكآبة والحزن فتجعل مريضها يهرب من الناس جميعاً، ويهرب من نفسه فضلاً عن الأطباء، والقليل من ينتبه الى أنه أيضاً مريض بنوعية مختلفة من الأمراض!! هذا إذا هرب ولم ينزلق إلى حرب مدمرة!!
وفي العادة يتقبل المجتمع الإصابات العضوية ولا تهز مركز صاحبها الاجتماعي، إلا في أمراض محددة جدا، وفي مجتمعات محددة جدا مثل مرض الإيدز، ويصاب بها معظم الناس إن لم يكن كلهم في وقت من الأوقات؛ فليس من انسان لم يتعرض لصداع أو إسهال أو ترفع حروري أو التهاب بشكل من الأشكال.
أما مريض المرض النفسي فينظر إليه المجتمع بعين الريبة، وتلطخ سمعة صاحبها اجتماعياً بتهمة الجنون، ولا تظهر الإصابة بها الى سطح المجتمع، إلا حين تطورها واستفحالها؛ لذا يظن الناس أن قلة نادرة هي التي تصاب بها، ولا يستطيعون تصور أن كل انسان يصاب بها في وقت من الأوقات، في تظاهرات نوعية خاصة بها، تماماً مثل الرشح والسعال، وتستغرق أياماً، ثم تعود الروح الى حالة الصفاء والاتزان، كما في حالات الأمراض العضوية.
إن الروح في حالة ديناميكية وسباحة لا تعرف التوقف بين المرض والصحة، بين الاضطراب والتوازن، بين الانحراف والسواء..
لقد تعارف المجتمع على العطف والمساعدة لمريض كسرت ساقه؛ فلم يعد يطأ بقدمه، ولكن المجتمع ينظر بعين الريبة إلى من يصاب بالعدوانية والانحراف الجنسي والاضطراب العاطفي على أنه مجرم ومجنون يجب معاقبته والحذر منه.

عام العجائب والخرائط الانقلابية الثلاث في الأرض والسماء والجسد:
وكما يوجد وسائل لتعريف وتشخيص الأمراض العضوية؛ فإن نفس الشيء يصدق على الأمراض النفسية، مع الفارق النوعي.
استطاع العلماء والمفكرون منذ قرابة خمسة قرون أن يخترقوا (تابو) الجسد فيشرحوه، كما فعل فيساليوس في القرن السادس عشر، حينما خرج في عام 1543 م الذي عرف بــ (عام العجائب) بكتابه (تشريح الجسم) الذي اعتمد في كثير من معلوماته على كتاب (المنصوري) ذو المجلدات العشر للطبيب المسلم الرازي.
لقد أخذ عام 1543 م اسم (عام العجائب) لأن ثلاث خرائط انقلابية جديدة، من مستوى نوعي جديد، طُرحت للرأي العام الأوربي؛ فأحدثت فيه صدمة مزلزلة مازالت بصماتها حتى هذه الساعة في الخريطة الذهنية للعقلية الأوربية (2):
فأما الخريطة الأولى فكانت في الأرض، وكانت الثانية في السماء، وشقت الثالثة طريقها في جسد الإنسان!
فأما خريطة الأرض فكانت مع كشوفات الجغرافيا، حيث ضُمت ثلاث قارات جديدة، وأعيد رسم خارطة العالم من جديد، وكتبت الحضارة منذ ذلك الوقت من الشمال الى اليمين، بعد أن كانت تكتب بالعكس.
أما خارطة السماء فأعيد هندستها على نحو متباين، فلم تعد الشمس تدور حول الكرة الأرضية بل العكس، ومعها انهارت مركزية الأرض وسقط معها تاج الانسان.
وكان ذلك في كتاب كوبرنيكوس الذي طبع سرا في مدينة نورمبرغ، واكتحلت عينا مؤلفه برؤية كتابه في سكرات الموت فقط.
بعدها انقلبت مفاهيم الانسان حول السماء التي تظله، والأرض التي تقله !! فانتقل هذا الزلزال الى نفس جسد الانسان؛ فشق الانسان جسده بيده، وكان التشريح حجرا محجورا، وجسد ابن آدم حراماً قدسيا في أوربا، ومن يومها تم تعريف جسم الإنسان أنه آلة مثل كل الآلات مع التعقيد النوعي.
ومع فتح بوابة التشريح انهارت عقيدة الأقدمين القديمة حول الانسان، وعرف أن جسد الإنسان آلة مرضها منها وفي داخلها مثل جير السارة وفحمات الفرامل!
وأن البحث عن الأمراض ليس في المريخ، بل في الجسد العاري، المعرى للأجهزة والأدوات والفحوصات من دم وبلغم وعرق وهرمون وسائل دماغي شوكي.
واكتشف رواد النهضة الكثير من السخف والخطأ العلمي، الذي أعمى بصيرة الناس مدة ألفي سنة، من وراء خرافات وترهات أسماء رجال كبار لبسوا عباءة القدسية من أمثال جالينوس وأبوقراط وأرسطو، الذين لم يعرفوا التشريح، ولم ينزلوا الى أرض الواقع، ليعرفوا طبيعة الجسم.
وكانت عقلية ابن رشد الجبارة القرآنية باعتماد (الواقع) مصدراً للمعرفة هي التي فَجَّرت العقل الأوربي.

القرآن اعتمد الواقع مصدراً للمعرفة (ينابيع المعرفة الثلاثة):
لم يكن لمسيرة العقل الانسانية أن تنطلق لولا الاضافات الجديدة، التي حررَّها العقل المسلم، من خلال تشبعه بالروح القرآنية، فالقرآن اعتمد الواقع والتاريخ مصدرين أساسيين للمعرفة؛ فالإبل والسماء والجبال والأرض أمكنة ومواضع يجب أن يتأملها العقل بروية ليكتشفها من جديد (3) والقرآن هنا يأمرنا بالسير في الأرض، والالتفات الى الواقع؛ فهو كتاب الله المفتوح للقراءة، وينطبق هذا على التاريخ كما يصدق على التجربة الباطنية أو الرياضة الروحية.
يقول الفيلسوف محمد إقبال في كتابه الموسوم (تجديد التفكير الديني):
(غير أن رياضة الباطن ليست الا مصدرا واحدا من مصادر العلم، والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ، وهذه الدعوة الى عالم الحس والاستشهاد به، وما اقترن بها من إدراك، لما يراه القرآن من أن الكون متغير في أصله متناه قابل للازدياد، كل ذلك انتهى بمفكري الاسلام الى مناقضة الفكر اليوناني، بعد أن أقبلوا في باكورة حياتهم العقلية على دراسة آثاره في شغف شديد، ذلك أنهم لم يفطنوا أول الأمر الى أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع هذه النظريات الفلسفية القديمة، وبما أنهم كانوا قد وثقوا بفلاسفة اليونان، أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية.
وكان لابد من إخفاقهم في هذا السبيل، لأن روح القرآن تتجلى فيها النظرة الواقعية، على حين انحازت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرد وإغفال الواقع المحسوس)(4)

جدلية الاستقراء والاستنباط (INDUCTION)(DEDUCTION):
الفلسفة اليونانية كانت استنباطية (DEDUCTIVE) أو كما عرفت بالقياس الارسطاطالي أو المنطق الصوري.
والانقلاب العقلي الذي دشنته العقلية الاسلامية في التاريخ، بتطوير قراءة الواقع بالفكر الاستقرائي (INDUCTIVE)(5) أي اعتماد الواقع مصدراً للمعرفة، والواقع يضم الطبيعة والنفس وأحداث التاريخ.
الفكر الاستنباطي يضع القاعدة الكبيرة ليقيس عليها، ومن هنا أخذت اسمها القياس، في حين أن طريقة الاستقراء نمت من الجيب الاسلامي الاندلسي على يد ابن رشد والمدرسة الاسلامية التحررية لتنتشر في أوربا بدءً من ايطاليا في بادوا وليتشكل التيار الرشدي هناك.
أما الاستقراء فهو قراءة الواقع، وجمع الملاحظات المشتركة، لاستخراج قانون عام، ينتظم هذه الملاحظات المبعثرة.
الاستنباط هو إذن عملية التحليل العقلي من فوق لتحت، والاستقراء عملية معكوسة من تحت لفوق؛ فهي العملية المنطلقة من الواقع الى بناء القوانين العليا الشاملة، التي تضم أكبر قدر من الملاحظات (6).
ويبقى هذا قانوناً يصمد، حتى يأتي قانون أعلى منه ـ بآلية الحذف والإضافة ـ فيضم مجموعة أضخم من الملاحظات؛ فيأخذ القانون صفة شمولية أكبر.
والعلماء اليوم يحاولون توحيد قوانين الكون في أقل عدد ممكن، كما هي في محاولة آينشتاين وستيفن هوكينغ في دمج قوى الوجود الأساسية الأربعة (الكهرطيسية والجاذبية وقوى النواة القوية والضعيفة) في قانون واحد أساسي، كما كان الوجود في مرحلة ولادته الأولى بعد الانفجار العظيم.

جدلية النفس والبدن:
وإذا كانت تضاريس قارة البدن قد تم اختراقها تشريحياً، وكشف عن الأعضاء فيها نزولاً، حتى التشكيل النسجي الخلوي، في مستوى تركيب الخلايا وتراكب الأنسجة وتفاعلاتها الداخلية؛ فإن الفتح الجديد اليوم هو في فك تعقيد التركيب النفسي وكيف يعمل الدماغ؟ وآليات التفكير وأين الإرادة؟ وماهو الوعي؟ وما دلالة الحرية الإنسانية؟
هذه الأسئلة تعمل عليها مجموعة ضخمة من العلوم اليوم، مثل فسيولوجيا الأعصاب والابحاث العصبية وتشريحها، والفلسفة وعلوم النفس بمدارسها المختلفة (التحليلية والسلوكية والجشتالت وعلم النفس الارتقائي وعلم النفس الانساني الحديث).
وكل هذه العلوم تريد فهم الانسان (الداخلي) أو تشريح النفس، بعد أن شرحت البدن على يد فيساليوس منفرداً، أما تشريح النفس فيحتاج مجموعات ضخمة من العلماء المتعاونين، كما كان الحال في لقاء نوفمبر من عام 1995 م في مدينة (سان دييغو)(SAN DIEGO) في كاليفورنيا، بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيس (جمعية العلوم العصبية)(NEUROSCIENCES FOR SOCIETY) حيث اجتمع قرابة عشرين ألف عالم، شكلت عناوين الأبحاث فقط ثلاث مجلدات سميكة.
وكان اللقاء يريد فك لغز جملة واحدة:
(من يكون أنا؟)( WHO IS I)(WER IST ICH )(7)

سباحة النفس بين قطاعات (الطبيعي) و(العصاب) و (النفاس):
النفس تسبح في العادة بين ثلاث قطاعات، أو إذا شئنا للتبسيط فإنها تنتقل من دائرة الى أخرى، بشكل متداخل ارتدادي سفلي هابط، أو علوي صاعد كما سنشرح بعد قليل.
منحى الارتداد للأسفل هو بين دائرة الوضع الطبيعي والعصاب (NEUROSIS) والنفاس أو الذهان ـ ما يطلق عليه الناس بالجنون ـ (PSYCHOSIS)، وهناك قطاع مشترك بين كل حقلين متقاربين؛ فإذا تحركت النفس وتزحزحت أكثر باتجاه الحلقة الجديدة، انخلعت من تأثير الحلقة الأولى، ودخلت تحت السيطرة المطلقة للدائرة الجديدة.
ولتوضيح السباحة في هذه الحلقات، يمكن استخدام مثال طاقة الغضب أو الخوف أو الحزن، والعاطفتان الأخيرتان هي من أشد العواطف تأثيراً وزعزعة لكيان النفس الداخلي؛ ولذلك اعتمدهما القرآن كعينات اختبارية في مدى أهمية الإيمان وجدواه لحقن الروح بالثبات والاستقرار (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
الحزن عاطفة تستولي على الانسان في شيء مرَّ عليه وانقضى (لكيلا تأسوا على مافاتكم)(8) والخوف عاطفة مدمرة مربكة معيقة للتفكير السليم، مما سيحدث ويأتي مع لحظات الزمن الزاحفة باتجاهنا (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)(9)

ضرورة العواطف في حفظ البيولوجيا وخطرها عندما تطوق الروح:
الانسان يخاف وهو شيء طبيعي وضروري، إذا لم تسيطر عليه هذه العاطفة وتطوقه بحصار محكم.
الخوف ضروري لأنه يحافظ على العضوية؛ فالخوف من النار والثعابين والعقارب ورجال المخابرات في البلاد الثورية، والسقوط من الأعالي تقي من الموت حرقاً أو تحطيماً وتعذيبا، وهي ضرورية مفهومة، ولكن زحف الروح باتجاه الخوف كثافة يجعلها تدخل الحالة المرضية، كما في صورة (الكوبي) عندما تتعرض الصفحة للتصوير باتجاه التغميق فلاتعود صالحة للقراءة.
وهكذا فكثافة الشعور خوفاً أو حزناً أو غضباً يربك الآليات العقلية، ويسد منافذ الفهم، ويدخل النفس دوامة الانفعال والاضطراب، وعدم الوصول الى الحكم السديد، ولكن انزلاق الروح باتجاه هذا المزاج السوداوي، يدخلها حالة العصاب (Neurosis)!
إلا أنها لحسن الحظ حالة عكوسة ارتدادية؛ بمعنى إمكانية الانسحاب من مخطط الانحدار الى الحالة السوية، وانتشال الروح من قبضة التردي الروحي؛ فإذا عجزت آليات الإنقاذ، سقطت الروح بما يشبه الارتطام في قعر النفاس أو الذهان (PSYCHOIS) أو ما تعارف عليه الناس بالجنون!! الذي هو انفكاك كامل عن الواقع.
ولا يعرف أو يتصور الواقع الجديد الا من رآه.
يستطيع الانسان أن يخسر كل شيء، المركز والمال وحتى الصحة البيولوجية. والشيء الوحيد الذي لا يتحمل خسارته هو: الصحة النفسية والتوازن العقلي، لأنه مع اختلال هذه البوصلة الحساسة، يكون قد تخرب معها كامل القيادة المركزية لكل شيء في الانسان.
ومازلت ذكرى تلك المرأة التي وقع نظري عليها في تجربتي الأولى محفورة في ذاكرتي، لرؤية مرضى العالم النفسي السفلي، في قدر مطوق حزين للإنسان، وكأنها أمام عيني حتى هذه اللحظة.
كانت جميلة رائعة شابة، وأجمل ما فيها صوتها وكأنه تغريد البلابل، ولكن في عالم آخر لاصلة له بعالم الأحياء.
كان انهيارها بالكامل وانفكاكها عن الواقع مأساة كاملة، بعد صدمة نفسية مروعة بعد أن اعتدى عليها خالها جنسياً، أو هكذا زعموا، لأن التربة النفسية تلعب الدور الأساسي لكل انحراف مروع.
ولكن الروح لها مسار آخر باتجاه مخالف تماماً للمخطط الأول، وهو المسار الطبيعي الانساني وليس المرضي.
أي رحلة الاكتمال الروحي باتجاه المقدس، والدين جاء لتحريض هذه الآلية عند الانسان، أي استنهاض واستنفار الانسان للصعود الروحي وتجاوز ذاته، وهي تعبيرات قرآنية في الاتجاه المخالف تماماً للعصاب والنفاس؛ فهي صعود النفس من مستوى النفس (الأماَّرة بالسوء) الى مستوى النفس (اللوَّامة) وانتهاءً بالنفس (المطمئنة) وهو دمج سنحاوله بعد قليل بين مفاهيم علم النفس وظلال القرآن الفكرية.
ويرى عالم النفس البريطاني أن هناك قانون ينتظم حركة النفس الانسانية باتجاه تطورها الى الاكتمال.

قانون الاكتمال عند عالم النفس هادفيلد:
عرض عالم النفس هادفيلد نظريته في هذا الصدد على الشكل التالي:
(لابد لكل كائن حي من أن يتحرك صوب اكتماله الخاص، فكمال الحياة هو هدف الحياة؛ والحافز الى الاكتمال هو أقوى محرك ملزم فيها. ـ ومفهوم الآخرة عند المؤمنين يصب في نفس الاتجاه عن عالم آخر مكتمل فيه كل الخير ولا ينقضي وبتعبير القرآن والآخرة خير وأبقى!! ـ وليس في الحياة محرك أشد ألحافاً من هذا النهم الى الاكتمال، سواء أكان متعلقاً بحاجات أجسامنا، أم بأعمق إشباع روحي لنفوسنا.
وإنا لنجد قانون الاكتمال فعالاً في علم وظائف الأعضاء، وفي علم النفس، وفي علم الأخلاق وفي الدين.
ونحن نطلق على هذا الاكتمال في علم وظائف الأعضاء كلمة (الصحة) ونطلق عليه في علم الأخلاق كلمة (الكمال) وفي الدين (القداسة) وسوف نطلق عليه في علم النفس (تحقق الذات).
ما أقوى هذا القانون وما أشد إلزامه إنه لايريح الكائن الحي أياً كان الا إذا أشبع نهمه بالظفر بذاته الكاملة)(10)
وأمام ما يذكره هادفيلد، وما يعرضه الإمام أبو حامد الغزالي الفيلسوف والمتصوف المسلم من القرن الخامس الهجري، يمكن الخروج بشيء من التماسك في شرح الديناميكية الداخلية للنفس.

الحلقات الخمس لحركة النفس:
في الوضع الطبيعي للنفس تمر سحب من الخوف والكراهية على الروح، وتزمجر أعاصير الغضب والحقد، وتصفر رياح العنف والعدوانية، وتهطل أمطار الدموع في مواسم الحزن، وتجلل النفس بغسق الاحباط والسلبية، ولكن الجو سرعان ما يصفو، فترجع النفس الى صفاءها، وتشرق شمس الأمل، وتتفتح ورود الانسانية والتعامل بالحسنى، وتتضوع رائحة رياحين الحب.
عندما تمرض النفس تتزحلق الى الاسفل باتجاه العصاب والنفاس (الجنون) ولكن عملية التسامي، هي تصعيد الطاقة باتجاه رفع النفس، من مستوى أعاصير وعواصف الانفعالات، باتجاه دخول أوقيانوس الهدوء الروحي، وهي الحالة المؤهبة لدخول الجنة، التي وصفها القرآن بالنفس المطمئنة.
تلك النفس التي تتصل بمركز منبع الطاقة في الوجود فتشحن شحنا ً روحياً عميقاً، يبدد نوازع الكراهية ونزعات الغضب وسورات الخوف وانهيارات الحزن ودوامات القلق والكآبة.
ومن المدهش في النفس، أن الصعود يحتاج الى طاقة، أما الهبوط فلايحتاج الى طاقة، والآلية التي يبدأ منها الانسان رحلة التكامل الروحي عنده هي في تنشيط آليات النقد الذاتي، وهي من أصعب الآليات على الإطلاق ومراجعة الذات ومحاسبة النفس وتفقد المواقع والمواقف، لأن الإنسان عنده استعداد أن يلوم جميع من حوله ويلقي بتبعة فشله في النهاية على إرادة الله، وليس عنده استعداد ولا للحظة واحدة أن يضع ولو مجرد (احتمال) تافه، أنه قد يكون قد ساهم في هذا الوضع غير المرضي المهتز.

رحلة الصعود من النقد الذاتي الى النفس المطمئنة:
في اللحظة التي يروض الانسان نفسه لتصبع (لوَّامة) فإنها تكون مستعدة لدخول امتحان الآخرة، عند قيام الناس لرب العالمين يوم القيامة (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة).
وهكذا فرحلة الحياة بين طرفين مهولين وحافتين عجيبتين، فيمكن للإنسان أن يصبح أتفه من التفاهة، ولكنه يمكن أن يصعد بدون حدود؛ فيصبح أفضل من الفضيلة.
وهو سر سجود الملائكة له، وعصيان الشيطان فقال لاحتنكن ذريته إلا قليلا.
ذلك أن الإنسان هو الكون على شكل ترانزستور فيه ميكروشيبس الهي، وهو السر خلف منحه الله وكالة عامة عنه، بشهادة الملائكة في حفل توقيع كوني.
وهو السر خلف الأبدية؛ فالأبدية لله، ولكنه وضع فينا ميكروشيبس للخلود؛ فشقي وسعيد..
الانسان إذا قاس نفسه الى العدم فهو كل شيء، وإذا قاس نفسه الى اللانهاية فهو العدم بعينه؛ فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين حافتي العدم واللانهاية، العدم الذي جاء منه، واللانهاية التي تغمره وسيدخل فيها بعد حين (11)
وهذا المزيج بين علمي الأخلاق وعلم النفس عرضته مدرسة علم الانساني الجديدة تحت صياغة نظرية (حاجيات الانسان) للوصول الى التوازن والصحة النفسية، فانتقلت من الحاجات البيولوجية مروراً بحاجة الأمن وانتهاءً بحاجة تحقيق الذات.

وجود النوع وترقية النوع:
يذهب صاحب مدرسة علم النفس الانساني (أبراهام ماسلو) أن حاجيات الانسان ليست فقط (بيولوجية) كما زعمت مدرسة علم النفس التحليلي، التي كانت (موضة) قوية متفشية في أوربا مع بداية القرن العشرين، بل يمكن بناء هرم متدرج لحاجيات الانسان، بحيث لا يتم الاستغناء عن الحاجات البيولوجية.
وهكذا يحدد (أبراهام ماسلو) الحاجيات الإنسانية بخمسة، تجلس في قاع الهرم وتشكل قاعدته الحاجات البيولوجية، التي تنبني عليها بقية الحاجيات على التتالي:
أولاً: الحاجات الفسيولوجية (PHYSIOLOGICAL NEEDS)
ثانياً: الأمن (SAFETY NEEDS - SECURITY)
ثالثاً: الانتماء (SOCIAL NEEDS - AFFILATION)
رابعاً: التقدير (SELFSTEEM NEEDS - RECOGNITION)
خامساً: تحقيق الذات (SELF - ACTUALIZATION NEEDS)(12).
والملاحظ أن التقدير هو محاولة كسب احترام الجماعة، التي يعمل في وسطها، في حين أن تحقيق الذات هو إشباع ميوله الداخلية، بما يخلد ذكره، ويثبت تقديره في وسط الجماعة.
* اللهم نمي فينا ملكة النقد الذاتي وارفعنا الى مستوى النفس اللوامة.
* اللهم أرحنا من نار التعصب والحقد والكراهية وألهمنا روح التسامح والغفران ولو للأعداء.
* اللهم حررنا من ربقة الجمود والتحنط العقلي وعلمنا ترقية عقولنا وإحكام تفكيرنا وأن لانخاف من العلم.
* اللهم حبب الينا الحوار والبعد عن الصدام، وعلمنا فن الاصغاء للآخرين، والصبر على مخالفينا في الأفكار.
* اللهم علمنا احترام الوقت والثقة بالانسان والرحمة بالناس وتقدير المرأة والشغف بالعلم وعشق الكتاب.
* اللهم امنحنا قدرة ضبط النفس عند شدة الانفعال ونار الغضب وكسرة الحزن وانهيار الخوف وضباب الشهوة.
آميــــــــــن


مراجع وهوامش: (1) الصدمة (SHOCK) هي ذلك التظاهر الخطير حينما ينهار الانسان بانخفاض الضغط وتسرع النبض والتعرق البارد والشحوب وازرقاق وبرودة الأطراف والشعور بالإغماء واقتراب الأجل، ويعرفها الأطباء جيداً ويجب إخراج المريض منها على وجه السرعة، وإلا قضت على المصاب، بفتح الوريد وإغراق المريض بالسوائل، وحقن مادة الكورتيزون الى الدوران، ورافعات الضغط من الأدرينالين، وأسبابها أربعة؛ فإما خسارة سوائل الجسم بالنزف أو الإسهال، أو عصبياً تحت الألم والتعذيب، أو قلبياً بانهيار القلب، أو تأقياً تحسسياً مثل حقن البنسلين وسواها من الأدوية، التي قد تقضي على الانسان خلال لحظات (2) يراجع في هذا مقالتي الانقلاب الكوني ـ جريدة الرياض العدد 9355 تاريخ 23 شعبان 1414هـ الموافق 3 فبراير 1994م حيث استعرضت هذه الظاهرة الكونية بالتفصيل، واستندت في هذا الى كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت ـ يراجع في هذا الجزء 27 الفصل السابع والثلاثين ص 114 (3) تأمل هذه الآيات من سورة الغاشية (أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الأرض كيف سطحت؟) الآية رقم 17 - 20 (4) كتاب (تجديد التفكير الديني) للفيلسوف المسلم الهندي محمد إقبال ص 145 - 146 (5) الموسوعة الفلسفية مترجمة عن الانكليزية فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق وبإشراف الدكتور زكي نجيب محمود ـ دار القلم بيروت ص 562 (6) يراجع في هذا كتاب (منطق ابن خلدون ـ في ضوء حضارته وشخصيته) تأليف الدكتور علي الوردي ـ بحث المنطق الصوري وكيف كان اليونان يبحثون عن عدد أسنان الحصان، ويهدرون الوقت بدون حدود، دون أن يكلفوا خاطرهم ويقوموا بفتح فم الحصان وعدّ أسنانه، والسبب أنهم لم يفعلوا هذا لأن الفلاسفة يبحثون الأمور بشكل عقلي مجرد، ومن هنا نفهم ثورية النظرة الاسلامية بتوجيه الأنظار الى الواقع الذي هو الصورة الأساسية للوجود التي لاتقبل التزوير (7) نشرت التفصيلات الكاملة لهذا اللقاء الهام وذيوله الفلسفية مجلة الشبيجل الألمانية عدد 16 1996 م ص 190- 202 (8) تأمل الآيتان من سورة الحديد رقم 22 - 23(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولافي أنفسكم الا في كتاب من قل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختال فخور) (9) تأمل الآية من سورة آل عمران رقم 172 ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (10)(علم النفس والأخلاق (تحليل نفسي للخلق) ـ تأليف ج. ا. هادفيلد ـ ترجمة محمد عبد الحميد أبو العزم ـ الناشر مكتبة مصر ص 93)(11) يراجع في هذا كتاب الخاطرات لباسكال وقصة الحضارة لديورانت وكتاب باسكال شخصيات حيث أطلق الفيلسوف الفرنسي نفثات روحية في غاية الجمال ولعلها من أعذب ماكتب في النثر الفرنسي (12) يراجع في هذا كتاب الأمة المسلمة ـ تأليف الدكتور ماجد عرسان الكيلاني ـ نشر مكتبة دار الاستقامة ـ ص 136