مقولة مدمرة لكنها رائجة؟
لكن دعنا ننزل الى الجذور.
أكبر نكبة للفكر هي التشدد لأنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على الفعل ورد الفعل.
وعضلات الجسم ليست في حالة توتر بل هي بين الانقباض والانبساط. والفلسفة الصينية تقوم على مبدأ تبادل السلبية والإيجابية ويسمونها الين واليانغ(الفعل والانفعال).
والكهرباء هي في حالة تردد وتدفق للسيالة الإلكترونية بين السالب والموجب.
وقام توازن الذرة بين الإلكترونات والبروتونات في شحنتين متعادلتين. ولا يولد الطفل من رحم أمه بدون التقلص والارتخاء.
ولن يخرج الدين عن هذا القانون الذي هو أسمى شيء في الوجود ويعطي للحياة معنى.
لذا فإن التشدد هو ضد قوانين الحياة، وهو يدمر نفسه ومن حوله.
والفكر الإسلامي المعاصر ابتلي بهذه الآفة، كما يصيب مرض القراد خلايا النحل؛ فيقطع الأجنحة ويقصم الظهر، وإذا لم يبق للنحلة جناح فلن تجمع الرحيق بحال.
التدين إذاً مثل الملح للطعام؛ إن امتزج بالوعي أدخل القدسية والخشوع لمفاصل الإنسان، ومنح دفعة توازن لكل الروح.
ولكن قبضةً من ملح في الحساء، يجعل الطعام غير قابل للتذوق، ولو كتب عليه شوربة ماجي المفضلة؟
إن التشدد؛ وصنوه من التكفير؛ هما أفظع داءين يمكن أن يصيبا العقل المسلم بالتحنط، وتهبط به إلى المدنس.
وبالمقابل فإن التسامح والرحمة والحب مشاعر إيمانية، تصعد بالإنسان علوا نحو المقدس، وتعطيه معنى في الحياة، أنه يحمل شيئا يحتاجه العباد.
يقوم الكون على التوازن. وأفضل شيء يتحقق في المجتمع هو العدل. وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية، بتوازن الغرائز والعواطف في حالة وسطية بين بين.
والشجاعة هي حد الوسط بين الخوف والتهور.
وأفضل حالة للطاقة هي أن لا تجمد ولا تتفجر؛ فالكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد. ولكنها قاتلة إذا نزلت من السماء على شكل صاعقة.
والماء جيد إذا حبس خلف السد؛ فاستفاد منه الناس في سقاية الأرض. وهو مدمر إذا جاء على شكل الطوفان.
ويصدق هذا القانون على التدين، ولذا جاء تعبير القرآن فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا.
فالاستقامة هي الحالة الوسطية بين الطغيان واللامبالاة.
وعندما يذكر القرآن عباده الصالحين في الإنفاق يقول عنهم؛ وإذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما؛ فالقوام أي وضعية الوقوف بدون ترنح وسقوط في أي اتجاه، هو الاعتدال بين الإنفاق والإسراف والتقتير، وهو أفضل بسبب ما ينتج عنه، وفي مكان آخر يقول القرآن أن مسك اليد يقود صاحبها إلى ذم الناس له أنه بخيل.
كما أن بسط اليد بدون تدبير تقود إلى تبخر كل المال؛ فيقع صاحبه في الحسرات، وقد يضطر إلى الاستدانة، وأوجزها القرآن على طريقته بكلمتين:(فتقعد ملوما محسورا).
ومن هذه المعاني وصل الفلاسفة إلى شيء سموه الوسط الذهبي.
وعندما أرادوا تحليل الأخلاق وصلوا في النهاية إلى أن حاصل الأخلاق ينتهي إلى ثلاثة؛ هي العفة والشجاعة والحكمة.
و كل خلق من هذا، هو وسط بين حدين، وبتعبير أرسطو أن كل فضيلة هي وسط بين رذيلتين.
وما أريد أن أقوله في هذا التحليل أننا نواجه بين حين وآخر بتشدد لاعقلاني، قد واجهه الكثيرون، والمشكلة فيه أن المرء إما أن لا يستطيع أن يناقش فيه، أو يشعر بعدم جدوى النقاش فيه.
وذكر لي طبيب جراح قصة عجيبة حدثت معه عندما كانوا في قاعة العمليات، فذكر أحدهم أن الرجل (أفضل) من المرأة، بدليل من سورة آل عمران (وليس الذكر كالأنثى)؟
يقول صديقي أنه شعر أن عليه واجب التدخل في الحديث لإنقاذ الموقف، كما يفعل الجراح لإنقاذ المريض من النزف القاتل؛ فقال له هذه الفقرة من الآية هي خمس فقرات، وردت على لسان امرأة عمران، وهي لا تفيد (الأفضلية) بل (الغيرية)، مثل لو قلت أن التفاح غير البرتقال، أو أن الأرض غير السماء.
والقسم من الآية الذي يقول أن الذكر ليس مثل الأنثى، لم يقل أن الذكر خير من الأنثى؛ فهناك فرق بين الأمرين، وهو فرق خطير مدمر؛ لأن الحكم سيختلف، والقرآن دقيق في تعبيراته.
والمشكلة هي في تفاوت الأفهام في تحصيل عميق معانيه.
والمهم نحن نواجه اليوم مسألتين خطيرتين:
الأولى التشدد كما سمعنا عن مذابح الجزائر والعراق، وكما كان الحال مع تشددات الطالبان في أفغانستان.
والثانية أن هذه المشاكل لا نقترب من فهمها على الوجه الصحيح إلا بفتح باب الحوار.
وهؤلاء المتشددون لا يتحملون الحوار
وبمجرد الاختلاف معهم يبدءون في صب التهم ومن النوع الخطير ضد الآخر لحرق أوراقه عند الرأي العام لأن تأثيرهم كبير وصلاتهم الاجتماعية واسعة.
إنها محنة يخوضها الفكر العربي هذه الأيام.