اختفت الديناصورات من وجه البسيطة قبل 65 مليون سنة، فليس من كائن محصن ضد الفناء، وضربت أمريكا صاعقة اقتصادية مثل صاعقة عاد وثمود في خريف 2008م، مما ذكر بنبوءة الكاتب الفرنسي (إيمانويل تود) الذي كتب عن انهيار الاتحاد السوفيتي أنه مؤشر نهاية أمريكا؟ وأن أمريكا بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي ليست محصنة ضد الزوال. بل ستمشي إلى نفس القبر بنفس العلة من الروح الإمبراطورية. وهو تنبؤ باول كيندي في كتابه سقوط وصعود القوى العظمة فتنبأ لبلده بنفس سوء المصير؟
وهذا يذكرني بنبوءة (الخميني) و(هنري سيلارد) الهنغاري، فأما الأول فقد تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي في عشر سنين عجافا... وكان..
أما الثاني فقد توقع بعد انهيار الاتحاد السوفيتي انهيار أمريكا لتساند النظامين بشكل خفي.
وهو نفس رأي توينبي عن زوال روما بعد زوال قرطاج، وكان هناك من العقلاء من الرمان من رأى الإبقاء على قرطاجنة كمعدل ومفرمل للنهم الاستعماري، ولكن هنيبال كان له دور في خلق الوحش الروماني، الذي التهم قرطاج وروما معا، فزالت الجمهورية وولدت الإمبراطورية الاستعمارية التوسعية..
وأرسل لي غاضب من القصيم في السعودية حزين على زوال أمريكا، فقال إنه هراء وأنها آراء تدعو للتقزز، وكان جوابي إن التاريخ هو الذي سيحكم على الآراء فيمحي أو يثبت..
وروى توماس فريدمان أن في عمره مرت عليه أربع أيام نحسات، دفعته للرعب الأكبر؛ حصار كوبا والتهديد بحرب نووية، ومقتل كينيدي، وأحداث سبتمبر، ثم الزلزال الاقتصادي في خريف 2008 بحيث عنون مقالته إن خطة الإنقاذ المزمعة بتريليون دولار تحتاج لإنقاذ؟؟
هذه الروح التوسعية النهمة التي لا تعرف الحدود واحدة، سواء عند العباسيين والأمويين، أو شارون وبوش، أو السلاطين من بني عثمان، أو أباطرة الفاشيين وديكتاتوري جمهوريات الخوف والبطالة..
فمن تاريخنا يروى عن هارون الرشيد أن غمامة مرت فوق رأسه فخاطبها قائلا اذهبي حيث شئت فخراجك سيأتينني؟!
إنها قصة ممتعة تدخل نشوة فائقة إلى نفوسنا، ولكن لا نسأل من الذي سيدفع الخراج؟
وعندما نكون في صف من سيأخذ (الخراج) لا يخطر في بالنا عذابات الأقوام وذلهم، كي يدفعوا المال للإمبراطور.
وبالمقابل فإن طرق إنفاق المال الإمبراطوري تذكرها كتب تاريخنا أنها مفخرة، فعندما تزوج ابن هارون الرشيد (المأمون) من (بوران) أنفق من خزائن أبيه (هارون) كل الخراج الذي سحت به مياه السحابة التي رآها أبوه يوماً.
وكان هذا الاحتفال الإمبراطوري للمأمون بعد أن خرَّب بغداد في حرب أهلية دامت 14 شهرا ثم احتزت رقبة أخيه الأمين بالبلطة وجئ بالرأس المقطوع على طبق لصاحب (دار الحكمة)، ودشن اضطهادا عقليا بفرض فكر المعتزلة بقوة السلاح, فكان العلماء يحملون إليه أذلاء معتقلين؛ فمن قبل بفكرة خلق القرآن خلوا سبيله، ومن رفض كان مصيره النطع والجلاد.
ومن قوانين التاريخ أن كل فكر فرض بالإكراه كان مصيره الفناء.
هكذا اختفى فكر المعتزلة واندثر تراثهم، بسبب حماقة المأمون، ولم يكن بحاجة للخناجر، وهو المشهور بحلمه وعقله، ولكن كما يقول ديكارت إن أعظم النفوس عنها استعداد لارتكاب أفظع الرذائل.
وتم اغتيال العقل على نحو منظم على يد الاتجاه النقلي تحت عيون جواسيس السلطان، لينتهي بثلاث كوارث متتابعة: الاستبداد الديني الذي قاد إلى الاستبداد السياسي، والذي قضى بدوره على جهاز المناعة في جسم الأمة؛ فانسحبت من التاريخ، وانقلبت محاور الأرض، وحبس العرب في زنزانة البحر المتوسط، وظهرت حضارة الأطلنطي، وهي تملك الديمقراطية ومؤسسات البحث العلمي ومصارف المال والقوة الحربية.
إن قصة هارون الرشيد ليست الوحيدة، بل هي قانون متتابع للقوى العظمى، حينما تسكر بخمر القوة، قبل أن تفاجئ بالسقوط بغير استعداد. وعندما كان السلطان العثماني ينبه أن هناك تطورات هامة تحدث في الغرب كان جوابه: سلطان المسلمين لا يزور بلاد الكفار إلا فاتحا!!
في الوقت الذي كان اسحق نيوتن يكتشف قانون الجاذبية.
ونفس هذا المنطق ظهر في الرسالة التي وجهها سفير الملكة فيكتوريا لسيدته، وهو يصف الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
واليوم تقلصت الإمبراطورية العثمانية إلى تركيا صغيرة.
وانحجبت كل أشعة الشمس عن بريطانيا العظمى؛ فهي تعيش في الضباب في حرب داخلية بين الكاثوليك والبروتستانت.
وهذا المرض إنساني ويمكن أن يصيب أي طاغية.
تعرض لهذا الوباء (نابليون) فحمل مدفعيته بنصف مليون جندي، ولم يرجع منهم سوى 5% ومات هو في النهاية مسموما بالزرنيخ في جزيرة تذكر بجهنم.
وأصيب به (هتلر) فهلكت عساكره على ضفاف الفولجا عند ستالينغراد، ومات هو وعشيقته في النهاية منتحرا بالرصاص والسيانيد.
واستولى هذا الحلم (الإمبراطوري) على مخيلة جندي ألباني مغامر، وضع يده على مقدرات مصر بالخناجر والاغتيالات عرف في التاريخ بـ (محمد علي) الذي تلقب (بالباشا)؟!! بكل جدارة بعد مذبحة المماليك؟
ثم حمل جنوده حتى الجزيرة العربية؛ فدفن الحركة الوهابية، ثم زحف حتى حافة الأستانة فخاب وندم لأن بريطانيا كانت له بالمرصاد..
وحلم بهذا (شارون) ملك إسبارطة الجديد، في دولة ترفض أن يكون لها حدود إلا حيث امتدت قوة السلاح.
ووقف (بوش) مترنحا بخمر للقوة لا يقاوم إغراءه، وهو يستعرض 65 قاعدة عسكرية له في العالم مثل روما، ويتأمل جهنم أرضية في (جنين) وقودها الناس والحجارة بدون أن يطرف له جفن، مذكرا بمذبحة الماسادا اليهودية التي نفذها تيطس عام 71 م.
إنها سخرية التاريخ مع القوى العظمى، كيف تقوم؟ وكيف تنهار؟ وهي في أوج قوتها وعظيم عسكرها وتسلحها.
يقول توينبي المؤرخ البريطاني عن علة انهيار الحضارات؛ إن دولة آشور quot;ماتت مختنقة في الدرعquot; فلم يكن ينقصها سلاح، وكانت تطور آلتها الحربية باستمرار وإتقان، وأخضعت شعوب المنطقة بذراع عسكرية بطّاشة، وسوت العديد من المدن بالأرض، وعندما استنزفت بما فيه الكفاية تحولت إلى جثة في درع ميت.
ثم دفنها التاريخ.
وبعد قرنين من اختفاءها مر (كسينوفون) المؤرخ اليوناني مع فرقة عسكرية فهالته فخامة التحصينات، ولم يكن هناك شيء اسمه آشور؟! والذي نبش هذه الدولة الرهيبة من مرقدها للمرة الأولى في التاريخ كان (هنري لايارد) في منتصف القرن التاسع عشر.
إن علة اختفاء هذه الإمبراطوريات من التاريخ هي نفس علة اختفاء الديناصورات، التي حكمها عقل قاصر مع جبروت مذهل من قوة العضلات، فاختفت من وجه البسيطة، وبقيت عظامها العملاقة تدل على مرورها في الزمن السحيق قبل 65 مليون سنة.
وهذا الاصطدام مع قانون التاريخ ساحق ماحق وارتدادي، ولكن يبدو أن الديناصورات عديمة الفهم فلا تتعظ بما يحدث؛ فبقدر ضخامتها أبدانها بقدر ضآلة عقولها.
وأمريكا اليوم باعتبارها الديناصور اللاحم الأكبر، لم تتعظ بحادث البرجين، فلم تراجع نفسها لم حدث ما حدث؟
وعندما تفقد آلية النقد الذاتي تتوقف آلية التصحيح والنمو.
وهناك ارتباط عضوي ما بين قدرة مراجعة النفس والتوبة وتصحيح المسار في الاتجاه السليم، ولكن قدرة النقد الذاتي هي قدرة أخلاقية وليست تكنولوجية.
قد تستطيع التقنية تركيب كمبيوتر بتريليون عملية في الثانية، لكنها لا تستطيع رفع المستوى الأخلاقي نصف درجة.
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
وعندما انتقل التحدي في وجه الحضارة الفرعونية من (البيئة) إلى (النفس) كما يقول المؤرخ توينبي، قصّرت عندها الطاقة الإبداعية، ووضع الموت يده الباردة عليها.
ولعل هذه المرحلة هي التي واجهها موسى عليه السلام، حيث انقلبت الحضارة الفرعونية من حضارة (حياة) إلى ثقافة (موت)؛ فكان الشعب كله يسخر لإقامة قبر هائل لشخص واحد فان؟!!
فصب عليهم ربك سوط عذاب.
هارون الرشيد والملكة فكتوريا وجنكيز خان والجندي المغامر محمد علي الذي تلقب بالباشا وشارون وبوش كلهم يرضعون من نفس الثدي الملعون من ثقافة الإمبراطورية والاستعلاء..
وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
وحين تتحرك مظاهرات في العالم العربي، فأول شيء تفعله هو تكسير المرافق العامة، وإشعال الحرائق في الدوائر الحكومية، وتتلمظ للفتك بالحكام جلاديها.
لكن التظاهرات هي حالة إعلان الوعي أكثر من الانزلاق للفوضى. والجماهير مع الحكام لا يؤمنون سوى بالثقافة الإمبراطورية؛ فإذا صار الأمر إليهم تحولوا إلى جبارين.
إن الداء الدوي الخفي هو وضع القوة فوق العقل، ومع أن اليابان تشبه آية الشمس حينما تحررت من القوة فصعدت بدون سلاح لكن (السوبرنوفا) مع كل استعارها الأعظم لا يراها من كان أعشى يمشى بعصا وكلب.
والثورة الفرنسية لم تحل المشكلة، كونها جاءت بالقوة، ورجعت الملكية بعد الإمبراطورية، ولم تولد الديمقراطية في فرنسا إلا بعد هزيمة نابليون الثالث عام 1870م، أي بعد قرن من احتلال الباستيل.
والديمقراطية لا تولد مرة واحدة بل هي شجرة تكبر مع الزمن، وتؤتي أكلها كل حيث بإذن ربها.
وإذا صارت لنا القوة مثل هارون الرشيد، فلسوف تسيطر علينا (ذهانات) القوة للسيطرة على العالم.
والقضية الفلسطينية لا تخرج عن هذا التصور.
كما أن تركيبة العالم السياسية هي ضمن هذه المنظومة، فنحن واليهود نؤمن بالقوة سبيلا للخلاص.
وأفغانستان نموذج فاقع لونه لا يسر الناظرين.
ولم يستطع الأفغان حل مشكلة بلادهم بأيديهم، وتم حل المشكلة (مؤقتا) بقانون الديناصورات، أي أن من يعتمد على القوة، يأت من هو أشد منه بأسا فيقضي عليه، ويتم تبادل الأدوار وفق قانون العضلات وتغييب الوعي.
وقانون الأنبياء يسلك طريقا مختلفا بتحرير الإنسان، ليس بالقتل، بل بالحياة، لذا اعتبر القرآن الشهادة نوع من الحياة.
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون؟؟ والشهادة معنى ضخم، فيها يموت الإنسان من أجل أفكاره؛ فيدفن صاحبها في التراب مثل البذرة لتنمو الفكرة.
أما القتل فلا يأتي إلا بالقتل.
والحضارة الغربية اليوم عجزت عن صنع (كلمة السواء)، لأن العالم مبنى على (الشرك) أي حق (الفيتو) وما لم يتشكل برلمان عالمي يوافق بأغلبية الأصوات على قرارات قابلة للتنفيذ، فسوف تبقى إرادة العالم مسلوبة مسحورة مصادرة بيد ديناصورات القوة.
وطالما كان العقل مغيبا، فإن العالم سيعيش حالة الغابة، وسوف يدفع الثمن في صورة حروب أهلية وعالمية وعرقية ودينية، وربما نووية حتى يرجع، بعد أن يعبر جسراً من المعاناة فوق نهر من الدموع.
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
وهذا يذكرني بنبوءة (الخميني) و(هنري سيلارد) الهنغاري، فأما الأول فقد تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي في عشر سنين عجافا... وكان..
أما الثاني فقد توقع بعد انهيار الاتحاد السوفيتي انهيار أمريكا لتساند النظامين بشكل خفي.
وهو نفس رأي توينبي عن زوال روما بعد زوال قرطاج، وكان هناك من العقلاء من الرمان من رأى الإبقاء على قرطاجنة كمعدل ومفرمل للنهم الاستعماري، ولكن هنيبال كان له دور في خلق الوحش الروماني، الذي التهم قرطاج وروما معا، فزالت الجمهورية وولدت الإمبراطورية الاستعمارية التوسعية..
وأرسل لي غاضب من القصيم في السعودية حزين على زوال أمريكا، فقال إنه هراء وأنها آراء تدعو للتقزز، وكان جوابي إن التاريخ هو الذي سيحكم على الآراء فيمحي أو يثبت..
وروى توماس فريدمان أن في عمره مرت عليه أربع أيام نحسات، دفعته للرعب الأكبر؛ حصار كوبا والتهديد بحرب نووية، ومقتل كينيدي، وأحداث سبتمبر، ثم الزلزال الاقتصادي في خريف 2008 بحيث عنون مقالته إن خطة الإنقاذ المزمعة بتريليون دولار تحتاج لإنقاذ؟؟
هذه الروح التوسعية النهمة التي لا تعرف الحدود واحدة، سواء عند العباسيين والأمويين، أو شارون وبوش، أو السلاطين من بني عثمان، أو أباطرة الفاشيين وديكتاتوري جمهوريات الخوف والبطالة..
فمن تاريخنا يروى عن هارون الرشيد أن غمامة مرت فوق رأسه فخاطبها قائلا اذهبي حيث شئت فخراجك سيأتينني؟!
إنها قصة ممتعة تدخل نشوة فائقة إلى نفوسنا، ولكن لا نسأل من الذي سيدفع الخراج؟
وعندما نكون في صف من سيأخذ (الخراج) لا يخطر في بالنا عذابات الأقوام وذلهم، كي يدفعوا المال للإمبراطور.
وبالمقابل فإن طرق إنفاق المال الإمبراطوري تذكرها كتب تاريخنا أنها مفخرة، فعندما تزوج ابن هارون الرشيد (المأمون) من (بوران) أنفق من خزائن أبيه (هارون) كل الخراج الذي سحت به مياه السحابة التي رآها أبوه يوماً.
وكان هذا الاحتفال الإمبراطوري للمأمون بعد أن خرَّب بغداد في حرب أهلية دامت 14 شهرا ثم احتزت رقبة أخيه الأمين بالبلطة وجئ بالرأس المقطوع على طبق لصاحب (دار الحكمة)، ودشن اضطهادا عقليا بفرض فكر المعتزلة بقوة السلاح, فكان العلماء يحملون إليه أذلاء معتقلين؛ فمن قبل بفكرة خلق القرآن خلوا سبيله، ومن رفض كان مصيره النطع والجلاد.
ومن قوانين التاريخ أن كل فكر فرض بالإكراه كان مصيره الفناء.
هكذا اختفى فكر المعتزلة واندثر تراثهم، بسبب حماقة المأمون، ولم يكن بحاجة للخناجر، وهو المشهور بحلمه وعقله، ولكن كما يقول ديكارت إن أعظم النفوس عنها استعداد لارتكاب أفظع الرذائل.
وتم اغتيال العقل على نحو منظم على يد الاتجاه النقلي تحت عيون جواسيس السلطان، لينتهي بثلاث كوارث متتابعة: الاستبداد الديني الذي قاد إلى الاستبداد السياسي، والذي قضى بدوره على جهاز المناعة في جسم الأمة؛ فانسحبت من التاريخ، وانقلبت محاور الأرض، وحبس العرب في زنزانة البحر المتوسط، وظهرت حضارة الأطلنطي، وهي تملك الديمقراطية ومؤسسات البحث العلمي ومصارف المال والقوة الحربية.
إن قصة هارون الرشيد ليست الوحيدة، بل هي قانون متتابع للقوى العظمى، حينما تسكر بخمر القوة، قبل أن تفاجئ بالسقوط بغير استعداد. وعندما كان السلطان العثماني ينبه أن هناك تطورات هامة تحدث في الغرب كان جوابه: سلطان المسلمين لا يزور بلاد الكفار إلا فاتحا!!
في الوقت الذي كان اسحق نيوتن يكتشف قانون الجاذبية.
ونفس هذا المنطق ظهر في الرسالة التي وجهها سفير الملكة فيكتوريا لسيدته، وهو يصف الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
واليوم تقلصت الإمبراطورية العثمانية إلى تركيا صغيرة.
وانحجبت كل أشعة الشمس عن بريطانيا العظمى؛ فهي تعيش في الضباب في حرب داخلية بين الكاثوليك والبروتستانت.
وهذا المرض إنساني ويمكن أن يصيب أي طاغية.
تعرض لهذا الوباء (نابليون) فحمل مدفعيته بنصف مليون جندي، ولم يرجع منهم سوى 5% ومات هو في النهاية مسموما بالزرنيخ في جزيرة تذكر بجهنم.
وأصيب به (هتلر) فهلكت عساكره على ضفاف الفولجا عند ستالينغراد، ومات هو وعشيقته في النهاية منتحرا بالرصاص والسيانيد.
واستولى هذا الحلم (الإمبراطوري) على مخيلة جندي ألباني مغامر، وضع يده على مقدرات مصر بالخناجر والاغتيالات عرف في التاريخ بـ (محمد علي) الذي تلقب (بالباشا)؟!! بكل جدارة بعد مذبحة المماليك؟
ثم حمل جنوده حتى الجزيرة العربية؛ فدفن الحركة الوهابية، ثم زحف حتى حافة الأستانة فخاب وندم لأن بريطانيا كانت له بالمرصاد..
وحلم بهذا (شارون) ملك إسبارطة الجديد، في دولة ترفض أن يكون لها حدود إلا حيث امتدت قوة السلاح.
ووقف (بوش) مترنحا بخمر للقوة لا يقاوم إغراءه، وهو يستعرض 65 قاعدة عسكرية له في العالم مثل روما، ويتأمل جهنم أرضية في (جنين) وقودها الناس والحجارة بدون أن يطرف له جفن، مذكرا بمذبحة الماسادا اليهودية التي نفذها تيطس عام 71 م.
إنها سخرية التاريخ مع القوى العظمى، كيف تقوم؟ وكيف تنهار؟ وهي في أوج قوتها وعظيم عسكرها وتسلحها.
يقول توينبي المؤرخ البريطاني عن علة انهيار الحضارات؛ إن دولة آشور quot;ماتت مختنقة في الدرعquot; فلم يكن ينقصها سلاح، وكانت تطور آلتها الحربية باستمرار وإتقان، وأخضعت شعوب المنطقة بذراع عسكرية بطّاشة، وسوت العديد من المدن بالأرض، وعندما استنزفت بما فيه الكفاية تحولت إلى جثة في درع ميت.
ثم دفنها التاريخ.
وبعد قرنين من اختفاءها مر (كسينوفون) المؤرخ اليوناني مع فرقة عسكرية فهالته فخامة التحصينات، ولم يكن هناك شيء اسمه آشور؟! والذي نبش هذه الدولة الرهيبة من مرقدها للمرة الأولى في التاريخ كان (هنري لايارد) في منتصف القرن التاسع عشر.
إن علة اختفاء هذه الإمبراطوريات من التاريخ هي نفس علة اختفاء الديناصورات، التي حكمها عقل قاصر مع جبروت مذهل من قوة العضلات، فاختفت من وجه البسيطة، وبقيت عظامها العملاقة تدل على مرورها في الزمن السحيق قبل 65 مليون سنة.
وهذا الاصطدام مع قانون التاريخ ساحق ماحق وارتدادي، ولكن يبدو أن الديناصورات عديمة الفهم فلا تتعظ بما يحدث؛ فبقدر ضخامتها أبدانها بقدر ضآلة عقولها.
وأمريكا اليوم باعتبارها الديناصور اللاحم الأكبر، لم تتعظ بحادث البرجين، فلم تراجع نفسها لم حدث ما حدث؟
وعندما تفقد آلية النقد الذاتي تتوقف آلية التصحيح والنمو.
وهناك ارتباط عضوي ما بين قدرة مراجعة النفس والتوبة وتصحيح المسار في الاتجاه السليم، ولكن قدرة النقد الذاتي هي قدرة أخلاقية وليست تكنولوجية.
قد تستطيع التقنية تركيب كمبيوتر بتريليون عملية في الثانية، لكنها لا تستطيع رفع المستوى الأخلاقي نصف درجة.
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
وعندما انتقل التحدي في وجه الحضارة الفرعونية من (البيئة) إلى (النفس) كما يقول المؤرخ توينبي، قصّرت عندها الطاقة الإبداعية، ووضع الموت يده الباردة عليها.
ولعل هذه المرحلة هي التي واجهها موسى عليه السلام، حيث انقلبت الحضارة الفرعونية من حضارة (حياة) إلى ثقافة (موت)؛ فكان الشعب كله يسخر لإقامة قبر هائل لشخص واحد فان؟!!
فصب عليهم ربك سوط عذاب.
هارون الرشيد والملكة فكتوريا وجنكيز خان والجندي المغامر محمد علي الذي تلقب بالباشا وشارون وبوش كلهم يرضعون من نفس الثدي الملعون من ثقافة الإمبراطورية والاستعلاء..
وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
وحين تتحرك مظاهرات في العالم العربي، فأول شيء تفعله هو تكسير المرافق العامة، وإشعال الحرائق في الدوائر الحكومية، وتتلمظ للفتك بالحكام جلاديها.
لكن التظاهرات هي حالة إعلان الوعي أكثر من الانزلاق للفوضى. والجماهير مع الحكام لا يؤمنون سوى بالثقافة الإمبراطورية؛ فإذا صار الأمر إليهم تحولوا إلى جبارين.
إن الداء الدوي الخفي هو وضع القوة فوق العقل، ومع أن اليابان تشبه آية الشمس حينما تحررت من القوة فصعدت بدون سلاح لكن (السوبرنوفا) مع كل استعارها الأعظم لا يراها من كان أعشى يمشى بعصا وكلب.
والثورة الفرنسية لم تحل المشكلة، كونها جاءت بالقوة، ورجعت الملكية بعد الإمبراطورية، ولم تولد الديمقراطية في فرنسا إلا بعد هزيمة نابليون الثالث عام 1870م، أي بعد قرن من احتلال الباستيل.
والديمقراطية لا تولد مرة واحدة بل هي شجرة تكبر مع الزمن، وتؤتي أكلها كل حيث بإذن ربها.
وإذا صارت لنا القوة مثل هارون الرشيد، فلسوف تسيطر علينا (ذهانات) القوة للسيطرة على العالم.
والقضية الفلسطينية لا تخرج عن هذا التصور.
كما أن تركيبة العالم السياسية هي ضمن هذه المنظومة، فنحن واليهود نؤمن بالقوة سبيلا للخلاص.
وأفغانستان نموذج فاقع لونه لا يسر الناظرين.
ولم يستطع الأفغان حل مشكلة بلادهم بأيديهم، وتم حل المشكلة (مؤقتا) بقانون الديناصورات، أي أن من يعتمد على القوة، يأت من هو أشد منه بأسا فيقضي عليه، ويتم تبادل الأدوار وفق قانون العضلات وتغييب الوعي.
وقانون الأنبياء يسلك طريقا مختلفا بتحرير الإنسان، ليس بالقتل، بل بالحياة، لذا اعتبر القرآن الشهادة نوع من الحياة.
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون؟؟ والشهادة معنى ضخم، فيها يموت الإنسان من أجل أفكاره؛ فيدفن صاحبها في التراب مثل البذرة لتنمو الفكرة.
أما القتل فلا يأتي إلا بالقتل.
والحضارة الغربية اليوم عجزت عن صنع (كلمة السواء)، لأن العالم مبنى على (الشرك) أي حق (الفيتو) وما لم يتشكل برلمان عالمي يوافق بأغلبية الأصوات على قرارات قابلة للتنفيذ، فسوف تبقى إرادة العالم مسلوبة مسحورة مصادرة بيد ديناصورات القوة.
وطالما كان العقل مغيبا، فإن العالم سيعيش حالة الغابة، وسوف يدفع الثمن في صورة حروب أهلية وعالمية وعرقية ودينية، وربما نووية حتى يرجع، بعد أن يعبر جسراً من المعاناة فوق نهر من الدموع.
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
التعليقات