المرأة هي من صنع الحضارة، كما ذكر المؤرخ ديورانت في سفره عن قصة الحضارة كيف كانت المرأة هي من اكتشف الثورة الزراعية.
والمرأة تصنع الحياة فهي تحمل الطفل وتنقل إليه الثقافة، كما يذكر ذلك بيتر فارق في كتابه الانثروبولوجي عن الجنس البشري.
والمرأة تصون الحياة فهي من لاتشارك في الحروب بطبيعته البيولوجية الناعمة. والمرأة هي مكان أغنية الشعراء والرومانسية..
والمرأة هي خزان الرحمة فهي التي تجيد البكاء في الوقت الذي يقتل الرجل ويفسد ويسفك الدماء... والرجل يعتبر بكاءها ضعفاً؟
وكان التاريخ وما زال ذكوريا في أبعاده، وهناك من قصص التاريخ ما يعطي الفكرة عن هذا التحيز الذي شوه الحياة ومازال.
ومن تلك القصص أضع بين يدي القاريء قصص ثلاث نسوة عبقريات ساهمن في أعظم إنجازات الثورة العلمية الحديثة (مرفوضات وغير معترف بهن؟) فكان لهن الدور الكبير في إحداث اختراقات نوعية فيه: (روزاليند فرانكلين ROSALIND FRANKLIN ) أول من كشف النقاب عن تركيب الشيفرة الوراثية. و (دوروثي كروفوت هودجكن DOROTHY CROWFOOT HODGKIN) التي طورت تقنية معرفة التركيب الذري للبنسلين والانسولين و(باربارا مك كلينتوك BARARA McCLINtock) التي طرحت فكرة ثورية عن (طفرة) الجينات وتغير صفات الكائن مع الزمن.
أما قصة فرانكلين فحزينة تروي الخيانة في العمل وسرقة الجهود؛ فعندما شقت الطريق الى معرفة تركيب (الكود الوراثي) عند الانسان من خلال تطوير تقنية دراستها بالاشعة السينية، في عمل إبداعي مذهل وصور على غاية الجمال، خانها صديقها في العمل (موريس ويلكينز MAURICE WILKINS) لإنها كانت عالمة معتدة بنفسها أكثر من مساعدة تبني مجده؛ فتطوع بنقل عصارة جهدها سراً لرجلين منافسين هما الثنائي (جيمس واتسون GAMES WATSON فرانسيس كريك FRANCIS CRICK) حصدا ثمرة عملها بقطف جائزة نوبل للكيمياء الحيوية عام 1962 م، وتسجيل اسمهما في التاريخ أنهما كانا أول من سبق في إماطة اللثام عن تركيب الخارطة السرية للخلق (الحامض النووي) في نواة الخلية، كانت أثناءها روزاليند فرانكلين قد ماتت بسرطان الثدي عن عمر 37 سنة.
لم يكتف (جيمس واتسون) بالاستفادة من عمل السرقة بل لاحقها الى القبر في كلمات عجيبة تخترقها في أهم خصوصية لها كأنثى: مع أنها كانت فاتنة لم تكن لتعني بنفسها كامرأة قط، لا في ملابسها ولاحتى بأحمر الشفاه؟! ولكنه اعترف في آخر كتابه بأن معلومات الكشف الخطير تسربت له من يهوذا الخائن.
وأما (دوروثي هودجكن) التي درسَّت في اوكسفورد وكان من تلامذتها أول رئيسة وزراء هي (مارغريت تاتشر) فكان لها دور اكتشاف البناء الذري للمواد الكيمياوية الحيوية التي سمتها (البللورات الأنيقة الجميلة) مما قاد الى الامساك بسر تصنيعها لاحقاً، كما في الانسولين الذي قامت بدراسته لمدة 35 سنة، أو الفيتامين (ب12 \ B12) الذي اشتغلت عليه لمدة سبعة سنوات، وكان نقصه يقود الى فاقة الدم الخبيثة القاتلة، ولم يمنعها الروماتيزم الخبيث الذي شوه يديها من متابعة عملها، فوصلت الى معرفة تركيب الكوليسترول المركب الأساسي للهرومونات الجنسية، والفيتامينD المسؤول عن كساح العظام عند الأطفال، وفي النهاية تم الاعتراف بها فمنحت جائزة نوبل للكيمياء عام 1964 م، وكانت المرأة الثالثة في تاريخ الجائزة، ووصلت في خاتمة حياتها الى رئاسة (اتحاد العلماء) عام 1975 م، وامضت بقية حياتها تكافح ضد التسلح النووي لتودع العالم عام 1994 م.
أما الثالثة (مك كلينتوك) فكانت ثالث ثلاثة من رواد علم الوراثة بجانب (جريجوري مندل) و(توماس هانت مورجانTHOMAS HANT MORGAN) فأما الأول فوضع قوانين الوراثة الثلاثة عام 1865 م، وأما الثاني فاستطاع أن يربط مادياً بين الصفات الوراثية والكروموسومات، ولكن فكرة (مك كلينتوك) كانت عن حركة الجينات فهي تقفز من مكانها فتغير صفات المخلوق وهي ماعرفت بـ (الطفرة MUTATION) وهذا قرَّب الى فهم نظرية التطور أكثر، عن خلق مبرمج يمشي خلقاً من بعد خلق، يزيد في الخلق مايشاء، وبقيت مك كلينتوك تمارس نشاطها العلمي لسن التسعين بعمل سبعة أيام في الاسبوع لمدة 12 ساعة يومياً، في عشق لايذوي من حب المعرفة في مخبر (كولد سبرنج) في ولاية نيويورك (COLD SPRING HARBOR LABORATORY).
وصفت السيدة كلينتوك بأنها كانت (ظاهرة ابداعية) تشك كثيراً وتتنبأ أكثر، ووضعت قوانين الجينات دوماً تحت وابل من الاسئلة المتشككة، واعتبرت أن الوراثة مازالت حافلة بالاسرار لم تبوح بكل مافي صدرها، وكانت محقة في ذلك، عندما اكتشفت في نبات الذَرَة ظاهرة الطفرة، فحققت بذلك أعظم انجازات القرن.
قالت (مك كلينتوك): quot;إن الجينات لاتجلس متجمدة كتلاً ثابتة كحبات اللؤلؤ في جيد حسناء، بل هي وبالصدفة تتزحزح من موضعها من وقت لآخر، وبطريقة مجهولة، وهو مايغير المعلومات الوراثيةquot;.
وبهذا الطرح عارضت الجو العلمي جملة وتفصيلاً، بتحدي مسلمة رئيسية من ثبات الجينات؟
كانت مك كلينتوك راديكالية، لاتبحث عن شيء أكثر من الحق، ولاتسعى للمجاملات في العمل العلمي، ومصممة وعنيدة ووحيدة، مما عرضها (كانثى) أن لاتُفهم وتُرفض وتُتَّهم أنها لاتمشي مع السياق العام، ما يذكر برائدة الطيران الأمريكية (إيميل ايرهاردت) التي قضت نحبها في المحيط بطائرتها وهي تكتشف العالم في دورة حول المعمورة.
وبقيت أفكارها حول الطفرة لاتؤخذ بعين الاعتبار حتى تقدم اثنان من العلماء (الذكور) عام 1961 م هما (فرانسوا جاكوب FRANCOIS JACOB و جاك مونود JACQUES MONOD) بموديل جديد حول توجيه الجينات عند الباكتريا، في شبه كبير لطرح السيدة مك كلينتوك حول نظام الطفرة، وبعد أربع سنوات عام 1965 م نال الاثنان جائزة نوبل عليها؟
ولم يستوعب العالم حتى ذلك الوقت الطرح المثير والجريء التي كانت قد سبقت فيه مك كلنتوك بمراحل، لتوصف بأنها كانت تستخدم طرقاً بالية قديمة لوضع استنتاجاتها؟
كانت مك كلينتوك متفردة باقتناعها، وبحدس خاص تستخلص عصارات هامة من وحي الطبيعة، تتجلى لها في لحظات العمل المخبري. وتطاول الوقت حتى السبعينات من هذا القرن، حتى بدأت تشد الانتباه بأفكارها، وفي عام 1983 م قبل موتها بتسع سنوات، وعمرها يومها 81 سنة، منحت متفردة وللمرة الأولى في تاريخ النساء جائزة نوبل للطب، عن عمل كانت قد نشرته قبل 36 سنة في عام 1947 م. واليوم تعتبر مك كلنتوك بجانب مندل ومورغان هنت أحد الأدمغة الأعظم في علم الوراثة.
وقبل فترة قصيرة قامت عالمتان أمريكيتان هما (اليزابيث بلاك بورن كارول جايدر) باختراق معرفي مثير عن الكشف عن انزيم الموت عندنا؛ فقد عُرف أن حياتنا محدودة بعدد معين من الانقسامات الخلوية ومع كل انقسام تتآكل نهاية الكوموسوم الذي يحفظ أسرار بناء الجسم، وبتواتر الانقسامات تستهلك النهاية الحافظة للكروموسوم فينفرط عقده ويعجز عن نقل أسراره وإعادة طباعتها في مطابع الخلية (الريبوسوم) في وثيقة اضطربت سطورها لاتصلح للحياة.
اهتدت العالمتان الى مايعمل ضد الاهتراء وعرف أنه انزيم (التيلوميراز) يتكاثر في أجسام الأجنة وأنسجة السرطان فإذا حقنت به الخلايا تابعت انقسامها ونشاطها بدون مظاهر شيخوخة.
واليوم يتم كشف علمي مثير عن الدماغ الانساني أنه دماغان؛ يمتاز الأيسر بالتحليل العقلي والنطق، وتحتل الايمن فيه المشاعر والأحاسيس. وعرف أن دماغ الرجل أثقل وزناً وأكثر بـ 16 % من المرأة، مقابل ضمور دماغ الذكر بتقدم العمر، وتآكل الكروموسوم الذكري. ولكن دماغ المرأة يتمتع بربط أشد إحكاماً بين نصفيه، مما يحيل النطق عندها الى عملية مفعمة بالوجدان، وتتحول المرأة الى كائن أكثر اجتماعية، وأفضل قدرة بإثارة مواضيع منوعة للنقاش، كبلبل لايكف عن صدح أعذب الأنغام، في حياة ثرة غنية. واعتبر التلفون انثوي.
المرأة تعيش أكثر من الرجل في المتوسط سبع سنوات، تحمل كرها وتضع كرها، هي مستودع الرحمة وينبوع الحب ومخزن الثقافة تشحن (لاوعي) الطفل بالقيم والخبرات، فتبني شخصيته، وتعلمه النطق، واتقان اللغة، وبها يدخل عالم الاتصالات البشري، وثبت بالتجربة أن الأمهات الصامتات يموت أطفالهن مع وافر الغذاء.
دشنت المرأة الثورة الزراعية؛ فأدخلت الانسان الحضارة، ولم يكن شيئاً مذكوراً، كما أكد المؤرخ (ديورانت) ومازالت تحب الرياحين، ولكن الثقافة الانسانية ابتليت بخطأ كرموسومي عندما تأسس المجتمع على العنف، واحترام العضلات، وسيادة الذكور، وعسكرة المجتمع؛ فاستلبت منه الرحمة وانزلقت (المرأة) الى طبقة مسحوقة مستغلة دونية، واختل توازن المجتمع الانساني ومازال بما فيه قمته الشمالية، كما جاء في قصص هؤلاء النسوة العبقريات كعينة بسيطة من كارثة ثقافة التمييز الجنسي ؛ فأين المرأة العربية المؤودة من كل هذا ؟
مع هذا فلم تطو صفحة التاريخ كطي السجل للكتب بل كل المستقبل للمرأة، وتنقل الاحصائيات اليوم أن المرأة أشد ذكاء، وأعظم تحصيلا فغي العلم حتى لو تقدم بها السن، أما كروموسوم الذكورة (Y) فقد اضمحل في ثلثيه خلال 125 ألف سنة الفائتة وما زال يتفتت، وهي مفاجأة غير سارة لثقافة الفحولة.....
التعليقات