العالم العربي يعيش أزمة وجودية طاحنة أن يكون أو لا يكون؟
وهو مهدد فعليا بالزوال الثقافي إن لم يتم تدارك الموقف؟
وهو قول ليس وليد ساعة ونزوة، بل تقليبا لأوراق التاريخ وعلم النفس وقوانين قيام الحضارات.
إنها أجراس إنذار لقوم فقدوا حاسة السمع؟
ويمكن للمجتمعات أن تموت كما يموت الأفراد تماما.
أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد عاش هذه الواقعة لإفرادٍ آخرين من بني جنسه قريبين عزيزين أو بعيدين مجهولين، بل إن حقيقة الموت لنا كـأفراد لا تفارقنا يوماً واحداً، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو استشارة، كما أننا سنودع هذه الحياة بغير رغبة ولا استشارة، صور باهتة زائلة على صفحة نهر عارم متدفق.
ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو نستوعب موت مجتمع ما، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي يموت فيه الفرد، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد فلا يموت؟ أو أنه كائن من نوع غير (بيولوجي) فيموت ككل الكائنات التي تولد فتموت؟
وإذا كانت (سنة أو قانون) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذي نسميه (المجتمع) وتشكل مصيره، فقد بات علينا معرفة هذا (البعد الجديد) في الحياة الإنسانية، أي تشكل المجتمع ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف يتم ذلك؟ وبأي آلية؟ وفي أي ظرف؟ وتحت أية شروط؟ (لكل أمة أجل)
مقارنة بين الموت البيولوجي والموت الاجتماعي:
اعتدل صديقي في مجلسه ثم حدَّق فيَّ النظر ملياً وقال وفي وجهه علامات اليأس والألم: إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع العربي أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو بحكم الميت، وفي قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم.
صدمت وبعمق، فهذا الإنذار المرعب ( PROGNOSIS) عن توقع حالة المرض للمستقبل، يشكل حالةً متقدمةً حتى عن وضع السرطان، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء منه، مع هذا يبقى المريض مريضاً، أي أنه مازال حياً يرزق، ولو أنه محكوم بالإعدام.
لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد، واعتَبَرَ أن المجتمع العربي بحكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لإفراده!!
فمن أين جاء بتحليله هذا يا ترى؟
إنه كباحث في العلوم الإنسانية والتربوية عنده من المشعرات (INDEX) والدلائل والمؤشرات إلى وضع المجتمع، ولادة أو موتاً، صحة أو مرضاً، عافية أو اعتلالاً، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص (DIAGNOSIS) فاعتبر الجسد الاجتماعي (جثة ً).
قلت له معقباً ومتسائلاً بنفس الوقت: إننا معشر الأطباء عندنا من المؤشرات ما فيه الكفاية على موت الفرد (عضوياً) من انعدام النبض، وتوقف ضربات القلب، وغياب التنفس، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد، أو توقف النشاط الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة، فتكون أولاً حارة لتصبح بعدها باردة، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة الخشب المتيبسة (الصمل الجيفي)، ثم تبدأ في التعفن والتحلل، ويصبح القبر خيرُ سترٍ لهذا القميص المتهتك، الذي يتمزق في كل لحظة:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنــــتهم القــلل
واسُتنزلوا بعد عـــــز عن معاقلهم فأُودعوا حفراً يابئســــــــما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ماقبروا أين الأسرة والتيــــــــــجان والحلل
أينَ الوجوهُ التي كانــــت منعمةً من دونها تُضرب الأســــتار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليـــها الدود يقتــتل
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
نظر إلي صديقي الدكتور متأملاً ثم أجاب: بهذه الدقة من التحديد ليس عندي جواب؟!
مع هذا لنضع الكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى صموده وصلابته أمام التحليل؟!
ما هو المجتمع بالفعل؟ هل يمكن فهمه ككيان نوعي؟
لا يمكن أن نفهم (موت المجتمع) ما لم نفهم ما هو (المجتمع) بالأصل؟
فإذا استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن (النوعي) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته، وموته من حياته، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد بل هو (شبكة علاقات) تنظم نشاط الأفراد.
جاء في كتاب (ميلاد مجتمع) لمالك بن نبي:
(المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني، يتم طبقاً لنظام معين، وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ما تقدم على عناصر ثلاثة: 1- حركة يتسم بها المجموع الإنساني 2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة 3 - تحديد لاتجاهها)
فإذا أردنا تصور (الشبكة الاجتماعية) أو (النسيج الاجتماعي) أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط الشبكة، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل مابين هذه العقد.
مثال من عالم الطب والبيولوجيا
وتعطينا البيولوجيا مثالاً ممتازاً لهذا الوضع، حيث تترابط ما يزيد عن (100) مليار خلية عصبية (النورونات - NEURONS) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف، كل خلية مزودة بما لا يقل عن ألف ارتباط، تترابط فيه مع بقية الخلايا العصبية، ما يشكل الدماغ الذي يحمله كل فرد منا في جمجمته؟ وهي من زاوية الاتصالات أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا. وتتعاون هذه (النورونات) من خلال (نظام التحام) بين كل خلية وأخرى، تسري فيها سيالة عصبية (كهربية ـ كيماوية)، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة.
والنسيج الاجتماعي بدوره، أي شبكة العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها، ومنه فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، المتوتر أو المسيَّب، النشيط أو الخامل، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو ويدمرونها، وينبني على هذه الفكرة أمرين هامين:
1 - الأمر الأول: إن قوة الشبكة الاجتماعية وإِحكامها هي من قوة الأفراد لأنها من صناعتهم.
2- الأمر الثاني: إن الأفراد قد يمزقوا هذه الشبكة، فيما لو شُد الخيط أو توتر بشكل زائد لمصلحة أحد العقد، أعني الأفراد، وهي (الظاهرة الورمية) أي السرطان الاجتماعي، حيث يؤدي ضخامة الفرد (العقدة في الشبكة الاجتماعية) إلى قطع الأوتار الاجتماعية، وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وضخامتهم بظاهرة (السرطان).
ما هو السرطان وهل يمكن للمجتمع أن يتسرطن؟
والسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص، غير عابئة بما يحصل للجسم، ولكن السرطان كما تعَلِمنا في مثل القرد الذي ينشر غصن الشجرة القاعد فوقه، فعندما يقضي على البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية، يقضي على وجوده بالذات.
يقول مالك بن نبي: (بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلا ً).
هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض؟
هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ (الخبث) في تصرفاتها؟ كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم؟
هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر؟
وهل هناك أدوات وأجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة؟
بل هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية، مثل الأبحاث البيولوجية فطورت المعالجة (الاجتماعية الكيماوية والإشعاعية بل والجينية) من أجل التطهير الاجتماعي والقضاء على الخلايا المتسرطنة القاتلة ونجاة البدن من موت محقق؟
وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة؟
أمراض توحي بالتحول الخبيث في طريق التشكل السرطاني القاتل؟
هذا المرض الاجتماعي بمحاولة الفرد (الانتهازي) أن يتضخم فـ (يتورم) و (يتسرطن) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي فيتحول إلى (مجموعة القوارض الاجتماعية)، التي تقضم الشبكة الاجتماعية!! أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية، أو تحولها إلى ماصات دم كما في قصص دراكولا؟
وهكذا فكما يصاب الفرد بالمرض ـ سواء العضوي أو النفسي ـ فإن الجماعات لها أمراضها (النوعية) الخاصة بها، فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة سواء الزكام أو السل أو انتهاءً بالسرطان، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية، فالجعبة مليئة؛ من نماذج (عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور) و (كراهية النظام والانضباط) و (السطحية في معالجة الأمور) و (عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان!!) و(نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ) و (النطق بلا مسؤولية) و (عدم احترام الآخرين والنظر في وجه السائل) و (التسيب الوظيفي) و (اللافعالية) و (البيروقراطية غير المنتجة) و (عدم تقدير الوقت) و (ضعف الذوق الجمالي) و (غياب الروح العملية) و (انطفاء روح المبادرة) و (عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام).
وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي يأتي في قمتها (الرشوة والفساد) و (المحسوبية ) و( والوساطة) واختصرها القرآن بالثلاثي: الشفاعة التي تقابل الوساطة (ولا يقبل منها شفاعة) والعدل مقابل الرشوة ( ولا يؤخذ منها عدل) والمحسوبية مقابل (لا تجزي نفس عن نفس شيئاً).
مظاهر خداعة من الجنون الاجتماعي؟
قد نرى المواطن العربي اليوم يتكلم بتلفون جوَّال، ويسكن في عمارة شاهقة، ويقود سيارة فارهة. والجندي يقاتل بالصواريخ، والجراح يجري جراحة معقدة، ويلبس بذلة أنيقة، وتلمع في صدره ربطة عنق جميلة، ويضع على عينيه نظارة مصنوعة في ايطاليا، ولكنه يحتال على حل مشاكله ببناء العلاقات الشخصية واصطياد الفرص؛ فمنذ عصر الحجاج انقلب المجتمع إلى قبيلة من الصيادين؛ فلم تعد الخدمات العامة حقاً دستورياً للمواطن، بل وجب اصطيادها بصنارة من رشوة ووساطة، تناسب حجم الصيد.
وهذا المؤشر يمكن نقله إلى الطب وعلم النفس، أن الفرد العربي لوحده قد يكون جيدا ولكن شبكة العلاقات مريضة، مما يحيل المجتمع العربي إلى مصحة عقلية.
تصوروا معي أن ألمانيا يقع نظره على مجموعة من البشر تضم السيد (شميدت) من دويتشي بانك، والسيد هانس من (قسم البريد) والسيد (هونكه) من مصلحة الأرصاد الجوية، وعشرات من هذا النوع يهتفون: بالدم بالروح نفديك يا ميركل (مستشارة ألمانيا عام 2009م)؟؟
في تصوري أنه سيتصل فورا بالبوليس، ويقول أن هناك مجموعة من المرضى العقليين قد ضلوا سبيلهم ومكانهم هو خلف القضبان؟!
هل تريد أن تعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس؟
هل نريد أن نعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس فليجرب شخص هذه التجربة الفريدة؟
في ساحة عاصمة عربية أن يلعن الله ثم يتعرض بالسوء لحاكم المنطقة؟ ثم ليرى الارتكاس؟
الجواب واضح متروك لبداهة القارئ في هذه التجربة الفريدة؟ حتى نعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس؟
لا غرابة أن ختمت آخر سورة من القرآن بثلاث مترادفات: قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس.. من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس..
إن العالم العربي في مجموعه الضخم هو من هذا النوع في مصحة أمراض عقلية كبيرة؟
هل يمكن أن نفهم كيف سيلقى القبض على البشير، الذي وضع العالم تحت قدميه، ويشنق صدام وتتحول الجمهوريات إلى جملوكيات، في ردة إلى عصر المماليك الشراكسة أيام سعيد جقمق؟
يمكن القول باختصار: تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون، لأن الوجودين متزاحمين في الوعاء الاجتماعي.
والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات.
ويظن أولئك (المغامرون) أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم (شطار) و(أذكياء) ويعرفون كيف (تؤكل الكتف؟).
ولكن السرطان يدمر جسمه والجسد معا؟
ولكن السرطان حينما ينمو، فأول ما يفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة، فيكون مثله كمثل القرد سيء الذكر في قصة كليلة ودمنة، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه!!.
وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لا يشعر، حين يدمر مصادر وجوده، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم.
جاء في كتاب ميلاد مجتمع لابن نبي أنه (قبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية، وهذه الحالة المريضة قد تستمر قليلاً أو كثيراً قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي)

العالم العربي يعيش أزمة وجودية طاحنة أن يكون أو لا يكون؟
وهو مهدد فعليا بالزوال الثقافي إن لم يتم تدارك الموقف؟
وهو قول ليس وليد ساعة ونزوة، بل تقليبا لأوراق التاريخ وعلم النفس وقوانين قيام الحضارات.
إنها أجراس إنذار لقوم فقدوا حاسة السمع؟
ويمكن للمجتمعات أن تموت كما يموت الأفراد تماما.
أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد عاش هذه الواقعة لإفرادٍ آخرين من بني جنسه قريبين عزيزين أو بعيدين مجهولين، بل إن حقيقة الموت لنا كـأفراد لا تفارقنا يوماً واحداً، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو استشارة، كما أننا سنودع هذه الحياة بغير رغبة ولا استشارة، صور باهتة زائلة على صفحة نهر عارم متدفق.
ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو نستوعب موت مجتمع ما، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي يموت فيه الفرد، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد فلا يموت؟ أو أنه كائن من نوع غير (بيولوجي) فيموت ككل الكائنات التي تولد فتموت؟
وإذا كانت (سنة أو قانون) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذي نسميه (المجتمع) وتشكل مصيره، فقد بات علينا معرفة هذا (البعد الجديد) في الحياة الإنسانية، أي تشكل المجتمع ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف يتم ذلك؟ وبأي آلية؟ وفي أي ظرف؟ وتحت أية شروط؟ (لكل أمة أجل)
مقارنة بين الموت البيولوجي والموت الاجتماعي:
اعتدل صديقي في مجلسه ثم حدَّق فيَّ النظر ملياً وقال وفي وجهه علامات اليأس والألم: إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع العربي أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو بحكم الميت، وفي قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم.
صدمت وبعمق، فهذا الإنذار المرعب ( PROGNOSIS) عن توقع حالة المرض للمستقبل، يشكل حالةً متقدمةً حتى عن وضع السرطان، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء منه، مع هذا يبقى المريض مريضاً، أي أنه مازال حياً يرزق، ولو أنه محكوم بالإعدام.
لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد، واعتَبَرَ أن المجتمع العربي بحكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لإفراده!!
فمن أين جاء بتحليله هذا يا ترى؟
إنه كباحث في العلوم الإنسانية والتربوية عنده من المشعرات (INDEX) والدلائل والمؤشرات إلى وضع المجتمع، ولادة أو موتاً، صحة أو مرضاً، عافية أو اعتلالاً، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص (DIAGNOSIS) فاعتبر الجسد الاجتماعي (جثة ً).
قلت له معقباً ومتسائلاً بنفس الوقت: إننا معشر الأطباء عندنا من المؤشرات ما فيه الكفاية على موت الفرد (عضوياً) من انعدام النبض، وتوقف ضربات القلب، وغياب التنفس، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد، أو توقف النشاط الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة، فتكون أولاً حارة لتصبح بعدها باردة، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة الخشب المتيبسة (الصمل الجيفي)، ثم تبدأ في التعفن والتحلل، ويصبح القبر خيرُ سترٍ لهذا القميص المتهتك، الذي يتمزق في كل لحظة:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنــــتهم القــلل
واسُتنزلوا بعد عـــــز عن معاقلهم فأُودعوا حفراً يابئســــــــما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ماقبروا أين الأسرة والتيــــــــــجان والحلل
أينَ الوجوهُ التي كانــــت منعمةً من دونها تُضرب الأســــتار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليـــها الدود يقتــتل
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
نظر إلي صديقي الدكتور متأملاً ثم أجاب: بهذه الدقة من التحديد ليس عندي جواب؟!
مع هذا لنضع الكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى صموده وصلابته أمام التحليل؟!
ما هو المجتمع بالفعل؟ هل يمكن فهمه ككيان نوعي؟
لا يمكن أن نفهم (موت المجتمع) ما لم نفهم ما هو (المجتمع) بالأصل؟
فإذا استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن (النوعي) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته، وموته من حياته، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد بل هو (شبكة علاقات) تنظم نشاط الأفراد.
جاء في كتاب (ميلاد مجتمع) لمالك بن نبي:
(المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني، يتم طبقاً لنظام معين، وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ما تقدم على عناصر ثلاثة: 1- حركة يتسم بها المجموع الإنساني 2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة 3 - تحديد لاتجاهها)
فإذا أردنا تصور (الشبكة الاجتماعية) أو (النسيج الاجتماعي) أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط الشبكة، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل مابين هذه العقد.
مثال من عالم الطب والبيولوجيا
وتعطينا البيولوجيا مثالاً ممتازاً لهذا الوضع، حيث تترابط ما يزيد عن (100) مليار خلية عصبية (النورونات - NEURONS) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف، كل خلية مزودة بما لا يقل عن ألف ارتباط، تترابط فيه مع بقية الخلايا العصبية، ما يشكل الدماغ الذي يحمله كل فرد منا في جمجمته؟ وهي من زاوية الاتصالات أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا. وتتعاون هذه (النورونات) من خلال (نظام التحام) بين كل خلية وأخرى، تسري فيها سيالة عصبية (كهربية ـ كيماوية)، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة.
والنسيج الاجتماعي بدوره، أي شبكة العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها، ومنه فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، المتوتر أو المسيَّب، النشيط أو الخامل، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو ويدمرونها، وينبني على هذه الفكرة أمرين هامين:
1 - الأمر الأول: إن قوة الشبكة الاجتماعية وإِحكامها هي من قوة الأفراد لأنها من صناعتهم.
2- الأمر الثاني: إن الأفراد قد يمزقوا هذه الشبكة، فيما لو شُد الخيط أو توتر بشكل زائد لمصلحة أحد العقد، أعني الأفراد، وهي (الظاهرة الورمية) أي السرطان الاجتماعي، حيث يؤدي ضخامة الفرد (العقدة في الشبكة الاجتماعية) إلى قطع الأوتار الاجتماعية، وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وضخامتهم بظاهرة (السرطان).
ما هو السرطان وهل يمكن للمجتمع أن يتسرطن؟
والسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص، غير عابئة بما يحصل للجسم، ولكن السرطان كما تعَلِمنا في مثل القرد الذي ينشر غصن الشجرة القاعد فوقه، فعندما يقضي على البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية، يقضي على وجوده بالذات.
يقول مالك بن نبي: (بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلا ً).
هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض؟
هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ (الخبث) في تصرفاتها؟ كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم؟
هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر؟
وهل هناك أدوات وأجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة؟
بل هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية، مثل الأبحاث البيولوجية فطورت المعالجة (الاجتماعية الكيماوية والإشعاعية بل والجينية) من أجل التطهير الاجتماعي والقضاء على الخلايا المتسرطنة القاتلة ونجاة البدن من موت محقق؟
وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة؟
أمراض توحي بالتحول الخبيث في طريق التشكل السرطاني القاتل؟
هذا المرض الاجتماعي بمحاولة الفرد (الانتهازي) أن يتضخم فـ (يتورم) و (يتسرطن) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي فيتحول إلى (مجموعة القوارض الاجتماعية)، التي تقضم الشبكة الاجتماعية!! أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية، أو تحولها إلى ماصات دم كما في قصص دراكولا؟
وهكذا فكما يصاب الفرد بالمرض ـ سواء العضوي أو النفسي ـ فإن الجماعات لها أمراضها (النوعية) الخاصة بها، فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة سواء الزكام أو السل أو انتهاءً بالسرطان، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية، فالجعبة مليئة؛ من نماذج (عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور) و (كراهية النظام والانضباط) و (السطحية في معالجة الأمور) و (عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان!!) و(نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ) و (النطق بلا مسؤولية) و (عدم احترام الآخرين والنظر في وجه السائل) و (التسيب الوظيفي) و (اللافعالية) و (البيروقراطية غير المنتجة) و (عدم تقدير الوقت) و (ضعف الذوق الجمالي) و (غياب الروح العملية) و (انطفاء روح المبادرة) و (عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام).
وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي يأتي في قمتها (الرشوة والفساد) و (المحسوبية ) و( والوساطة) واختصرها القرآن بالثلاثي: الشفاعة التي تقابل الوساطة (ولا يقبل منها شفاعة) والعدل مقابل الرشوة ( ولا يؤخذ منها عدل) والمحسوبية مقابل (لا تجزي نفس عن نفس شيئاً).
مظاهر خداعة من الجنون الاجتماعي؟
قد نرى المواطن العربي اليوم يتكلم بتلفون جوَّال، ويسكن في عمارة شاهقة، ويقود سيارة فارهة. والجندي يقاتل بالصواريخ، والجراح يجري جراحة معقدة، ويلبس بذلة أنيقة، وتلمع في صدره ربطة عنق جميلة، ويضع على عينيه نظارة مصنوعة في ايطاليا، ولكنه يحتال على حل مشاكله ببناء العلاقات الشخصية واصطياد الفرص؛ فمنذ عصر الحجاج انقلب المجتمع إلى قبيلة من الصيادين؛ فلم تعد الخدمات العامة حقاً دستورياً للمواطن، بل وجب اصطيادها بصنارة من رشوة ووساطة، تناسب حجم الصيد.
وهذا المؤشر يمكن نقله إلى الطب وعلم النفس، أن الفرد العربي لوحده قد يكون جيدا ولكن شبكة العلاقات مريضة، مما يحيل المجتمع العربي إلى مصحة عقلية.
تصوروا معي أن ألمانيا يقع نظره على مجموعة من البشر تضم السيد (شميدت) من دويتشي بانك، والسيد هانس من (قسم البريد) والسيد (هونكه) من مصلحة الأرصاد الجوية، وعشرات من هذا النوع يهتفون: بالدم بالروح نفديك يا ميركل (مستشارة ألمانيا عام 2009م)؟؟
في تصوري أنه سيتصل فورا بالبوليس، ويقول أن هناك مجموعة من المرضى العقليين قد ضلوا سبيلهم ومكانهم هو خلف القضبان؟!
هل تريد أن تعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس؟
هل نريد أن نعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس فليجرب شخص هذه التجربة الفريدة؟
في ساحة عاصمة عربية أن يلعن الله ثم يتعرض بالسوء لحاكم المنطقة؟ ثم ليرى الارتكاس؟
الجواب واضح متروك لبداهة القارئ في هذه التجربة الفريدة؟ حتى نعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس؟
لا غرابة أن ختمت آخر سورة من القرآن بثلاث مترادفات: قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس.. من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس..
إن العالم العربي في مجموعه الضخم هو من هذا النوع في مصحة أمراض عقلية كبيرة؟
هل يمكن أن نفهم كيف سيلقى القبض على البشير، الذي وضع العالم تحت قدميه، ويشنق صدام وتتحول الجمهوريات إلى جملوكيات، في ردة إلى عصر المماليك الشراكسة أيام سعيد جقمق؟
يمكن القول باختصار: تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون، لأن الوجودين متزاحمين في الوعاء الاجتماعي.
والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات.
ويظن أولئك (المغامرون) أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم (شطار) و(أذكياء) ويعرفون كيف (تؤكل الكتف؟).
ولكن السرطان يدمر جسمه والجسد معا؟
ولكن السرطان حينما ينمو، فأول ما يفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة، فيكون مثله كمثل القرد سيء الذكر في قصة كليلة ودمنة، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه!!.
وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لا يشعر، حين يدمر مصادر وجوده، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم.
جاء في كتاب ميلاد مجتمع لابن نبي أنه (قبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية، وهذه الحالة المريضة قد تستمر قليلاً أو كثيراً قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي)