التكهن بالمستقبل
لم يكن التكهن بالمستقبل عملاً مريحاً، أو واعداً، بل حافلاً بالمفاجآت المزلزلة؟! نوستراداموس صاحب التكهنات المعروفة توقع لهنري الثامن حياة طويلة وملكاً سعيداً، وفي تراثنا ظهرت أقوال تؤكد مسير التاريخ على شكل انحطاطي؛ فلا يأتي جيل إلا والذي بعده شر منه، والزمن لن يختم أكثر من الألف الأولى الهجرية؛ فتؤلف ولا تؤلفان؟!
أما المؤرخ البريطاني ويلز فقد تنبأ بتطوير السلاح النووي واستخدامه. وفي الثمانينات كتب الصحفي المصري (جلال كشك) سلسلة من المقالات المثيرة في مجلة الحوادث عن: (التفسير النفطي للتاريخ)؟ وأن العالم اقترب من مجاعة نفطية وشيكة سوف تزلزل مفاصله؟
وتوقع العالم البريطاني (مالتوس) بحدوث مجاعة عالمية، وحروب ضروس أمام تناقض (التكاثر السكاني والغذائي) فالبشر يزدادون بسلسلة هندسية (2 ـ 4 ـ 8 ـ 16 ـ 32 ـ 64 ـ 128 وهكذا)، والغذاء وفق سلسلة عددية حسابية (2 ـ 4 ـ 6 ـ 8 ـ 10 ـ 12).
ويلز يتنبأ باستخدام السلاح النووي عام 1911م
أما الملك هنري الثامن فلم يعمر طويلاً ولم يعش سعيداً، كما توقع له الطبيب اليهودي الباريسي (نوستراداموس).
والتاريخ يمشي بخطى تقدمية، فلا يأتي يوم إلا والجنس البشري يحقق اختراقاً جديداً مذهلاً في خط تقدمي صاعد، في مستوى التكنولوجيا والأفكار والسلام والغذاء والمؤسسات وتدشين الديمقراطية وانهيار الديكتاتوريات، وبناء قرية بشرية ذات نسيج الكتروني بديع، ويتحول العالم إلى نبض (ديجتال)!
كما لم تحدث مجاعة نفطية وأزمة عالمية كما توقع الصحفي الكشك؛ بل فائضاً ورخصاً في الأسعار، وليس هناك ما يشير في الأفق إلى أزمة نفطية وشيكة، والوقت الذي توقعه (مالتوس) لتناقص الغذاء وبدء المجاعات؛ سجلت فائضاً في الإنتاج الغذائي، بسبب بسيط هو أن الإنسان يولد إلى هذا العالم ومعه فم واحدة؛ ولكن عقلاً ويدين، وأعجب ما حدث هو حرق بعض المحاصيل الغذائية للمحافظة على الأسعار العالمية، كما أشار إلى ذلك المفكر الجزائري مالك بن نبي.
والوحيد الذي فاز بالرهان من كل التنبؤات التي مرت كان البريطاني (ويلز)، فهو الوحيد الذي رأى الكارثة قبل سنة من وفاته عام 1946 فشاهد التماع (البيكادون) النووي فوق هيروشيما (هزيم الرعد الملتمع باليابانية).
أصاب ويلز في نصف الحقيقة أيضاً؛ فلم يمضي العالم إلى الفناء النووي، بل يمضي الآن إلى نزع الترسانة النووية، والتخلص وإتلاف الأسلحة الكيماوية والبيولوجية إلى حد ما؟ بل وحتى حظر الألغام الأرضية ضد البشر، كما جاء في اقتراح اجتماع الدول الأوربية في 10 أكتوبر 1997 م في ستراسبورغ، وكان مشروع العمر للأميرة ديانا البريطانية قبل أن يتم اغتيالها بحادث مشبوه؟
نادي روما (CLUB OF ROM) عن المستقبل البشري؟
انطلق الحماس عارماً لإنجازات المستقبل مع مشروع أبولو، والرسو على سطح القمر، فأصبح التفكير ينطلق بخيالات جامحة على صور مجنحة، من نقل جبال بالكامل، أو تحويل مجاري الأنهار العملاقة بمشاريع خرافية، وتروية الصحاري بتحويلها إلى جنات كما هو في مشاريع نقل جبال من الثلج الحلو من القطب الجنوبي إلى الصحاري العطشى في السعودية؟، باستخدام تقنية خاصة مغطاة بالستيريوبور، موجهة بالساتلايت، تعبر المحيط الهندي برحلة ثمانية أشهر في مسافة عشرة آلاف كيلومتر، بدون ذوبان أو تحطم أو صدم سفن وإحداث كارثة (تيتانيك) بيد بشرية.
أو استخدام القنابل الذرية لإذابة القطب الشمالي أو صقيع سيبريا، بإجراء جراحة كونية في المناخ، كما فكر الروس في الستينيات من هذا القرن، وتحدث عنها أوبنهايمر في كتابه سجناء العالم الذري؟
أو نقل مصانع خرافية إلى سطح المريخ؛ لإعادة الحياة إلى مفاصله المتجمدة، في عملية كونية ذات أربع مراحل: رفع الحرارة ـ استنبات جراثيم لا هوائية ـ نشر الخضرة ـ بث الأكسجين ـ لتدب فيه الخضرة والحياة والنسيم الأوكسجيني العليل، كما يفكر الأمريكيون حالياُ (مشروم مك كي Mc-Kمن وكالة ناسا).
ولكن الدراسة التي قام بها نادي روما الذي انعقد عام 1972 م دفعت الآمال مرة أخرى إلى قاع الحقيقة الصعبة، والواقع المليء بالتحدي؛ فمؤسس النادي السيد (اوريليو بيكاي AURELIO PECCEI) رأى أن المستقبل خلاف ما تصورناه تماماً.
والتهمت كمبيوترات معهد ماسوشوسيتس للتكنولوجيا في أمريكا (MASSACHUSETTS OF TECHNOLOGY) معلومات نادي روما لتخرج بتقرير يقترب من الصدمة (SHOCK) فكل المخططات التي قذفتها طابعات الليزر كانت على شكل ذروي (SPIKES) في قمم مرعبة من البيانات الإحصائية؛ من صحاري تزحف وتلتهم الخضراء، ومصادر للطاقة والغذاء تنضب، وغابات تنقرض، ومياه تشح، ومحيطات من الأسماك تتخوى وتفرغ، وأرحام تقذف بطوابير مرعبة تتدافع من الأمواج البشرية والأفواه الجائعة.
حتى قفز رقم البشر إلى المليار الأول على ظهر الأرض احتاج إلى رحلة خمسة ملايين من السنين، منذ أن بدأ الإنسان يدب على ظهر البسيطة، حسب آخر المعلومات الانثروبولوجية، ولكن الجنس البشري يزداد بمعدل مليار كل 12 سنة الآن، وقد يصل إلى أقل من عقد بقفز مليارين، فيما إذا استمر على هذا المعدل من التكاثر.
محطات التفكير (THINK - TANKS)
حصل تطور مدهش في أمريكا باختراع وبناء مؤسسات ليس لإنتاج المواد وتسويقها، بل للتفكير المستقبلي، فتم تدشين مؤسسات غريبة لإنتاج الأفكار فقط، ومنها أفكار المستقبل، وتوقعات الأحداث ومصائر الشعوب، ولذا فهم يضعون السيناريوهات المحتملة لأشياء كثيرة عجيبة؛ من تطور الأحداث في دول ذات أنظمة شمولية، أو نمو حركات دينية، وتطور اقتصادي أو انهيار كما في كارثة الرهن العقاري في خريف 2008م، ومرورا بالتربية الجنسية.
من هذه الشبكة مؤسسة (راند RAND CORPORATION) وهدف هذه المؤسسة التطور التقني في الغرب، والمعرفة المبكرة للميول والاحتمالات، و توجهات حدوث انعطاف خطير ما.
وبكل أسف فإن هذه المؤسسات مع انفجار الثورة الإيرانية كانت تقول إن الوضع في إيران لا ينبأ ولا بمرحلة ما قبل الثورة؟
من أجل هذا التوجه قامت شركة راند فقتلت الموضوع بحثاً حول عمليات وأفكار دلفي لاستقراء المستقبل وما تحمله الأيام الحبالى في أحشاءها.
مؤسسة (دلفي) الألمانية يعمل فيها ما يزيد عن 900 عالم وتقني، يدرسون ما يزيد عن 130 مشروعاً مستقبلياً، في ثماني حقول معرفية على الأقل.
منها مصير الاستنساخ، والمستعمرات الفضائية في المريخ عام 2050، وزيارة الكواكب، واحتمال التعرض لكارثة كونية، وإيجاد بنوك عملاقة لأعضاء بشرية، بكميات لا تعرف النفاد، ومعرفة سر الوعي والإدراك الإنساني، وفك الشفرة الوراثية عند الإنسان والكائنات واستخداماتها، بل وحتى دراسة القرآن كما هو في المشروع الجينوم القرآني الذي يتوقع أن ينتهي عام 2025م؟
مجمع أنثوي اسمه (بيثيا PYTHIA)
من الطريف مراجعة أضابير الماضي، ونفض التراب عنها، لرؤية شغف الإنسان وولعه باختراق حجب الغيب.
على حافة البرناس (PARNASS) حيث مجمع الآلهة اليونانية أبولو وربة الفن وبقية الآلهة المزعومة قبل 2500 سنة، مكان العرافة دلفي، تجلس مجموعة من النسوة.
في الوسط عرافة تعتلي كرسي بثلاث قوائم، ما عرف بمجلس بيثيا. البخور يتصاعد قد حول الغرفة إلى ضباب، والجو يعبق بعطر خاص، ومن ظلماته تصدر كلمات امرأة رصينة قوية، بألفاظ مصيرية، محبوكة بطريقة رمزية ذكية، تحتمل أكثر من معنى.
كان قادة الحرب والأعيان كلهم يذهبون، ليتخذوا قراراتهم المصيرية في مثل هذا الجو المسحور، في السلم والحرب والمعاهدات.
وكان المجمع الأنثوي بدوره يجمع نخبة رفيعة المستوى من المثقفين، مزودة بمكتبة معرفية ضخمة، وشبكة معلومات ميدانية واسعة الأطراف، يقوم عليها جيش عرمرم من الجواسيس؛ فكانت كلمات العرافة ترن بأكثر من مدلول، نظمت بعناية، وتمت هندسة الكلمات فيها؛ بحيث يفهم السائل طرفاً من القصة، وليس كل القصة.
بواسطة هذه الخبرة العصرية في وقتهم، استطاعت عرافات دلفي أن تنطق جملاً خطيرة، وتوجه القوم إلى اتخاذ قرارات مصيرية.
عرافات دلفي كنّ بمثابة الوحي لعقل أثينا؛ باتخاذ أفظع القرارات وادعاها للنجاح أو السقوط في الكارثة. وما تقوم به مؤسسة راند اليوم يشبه عرافات دلفي القديمة بصورة علمية، وهناك العديد من الأشياء التي راهن عليها العلماء صدقت فيها النبوءة؟ مثل اعتماد العقاقير النفسية في العلاج، وتعميم اللقاحات في كل المعمورة، والاستخدام السلمي للطاقة النووية، والاستفادة من المواد الخام كطاقة من سطح القمر كما في الهليوم 3 (ثلاثة)
وعلى الجهتين ومن المؤسستين (راند) ودراسات (دلفي) لم تصل النتائج إلى شيء قطعي؛ فحسب مؤسسة راند فقد توقعت نمواً سريعاً للعالم، مع انخفاض كلفة الطاقة، وبالمقابل فإن انهيار العالم الذي توقعه نادي روما أخطأ في حساباته، مما دفعهم لاحقاً إلى الاعتذار.
وحتى اليوم تستطيع دراسات (دلفي و راند) أن تصيب في حساباتها حتى 30% وهو رقم جيد في حسابات المستقبل.
ما الفرق بين الأعمى والبصير؟
الغرب اليوم ليس فقط أنه يعرف مشاكله فيسيطر عليها. ليس أنه قد بنى حياته على شبكة رهيبة من الإحصائيات العلمية فقط. بل يعرف حتى النمل الذي يدب ليس في أوكلاهوما بل في الشرق الأوسط، بواسطة أقمار صناعية من نموذج (ثقب المفتاح 11)(KEYHOLE 11)، وهو قمر يستطيع أن يصور صفحة الجريدة التي يقرأها رجل جالس في حديقة، يمسح الكرة الأرضية بدوران على نظم رتيب كدورة الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، بحركة مكررة بمعدل تسعين دقيقة. فليله ونهاره أي يومه هو ساعة ونصف؟
الغرب الآن يعس في المستقبل ليصل إلى مستوى توقع الأحداث بنجاح بمقدار 30 %. أما نحن فلا نعرف ماذا جرى وماذا يجري لنا الآن؟ فقراراتنا المصيرية وتاريخنا يصنع بيد غيرنا، كالغائب عن الوعي في العناية المشددة التاريخية، وعندما نسمع المتحدثين في المحطات الفضائية العربية وكيف يعالجون المشاكل، يدرك المرء سريعاً أنهم خارج حركة الزمن، ولا غرابة لأن العالم الذي نعيش فيه لا ننتسب إليه؛ لأنه عالم لم نشترك في صناعته منذ خمسة قرون.
ما الفرق بين الأعمى والبصير؟
البصير يرى الأشياء فلا يصطدم بها فهو يمشي سوياً على صراط مستقيم، والأعمى يتلمس الأشياء فينطح الجدار.
مجتمعاتنا عمياء لا تعرف المشاكل إلا بعد الاصطدام بها؟!
وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات؟zwj;!
خيالات الأقدمين
من الملفت للنظر أن المفكرين والأدباء الذين عاشوا قبل قرون، استطاعوا بمحض الخيال، تصور أشياء عجيبة أصبحت اليوم واقعاً عادياً؛ ففي القرن الثالث عشر للميلاد تصور الراهب الدومينيكاني (روجر بيكون ROGER BACON)
(1216 ـ 1292 م) من مؤسسي المدرسة السكولاستيكية في الغرب، تخيل الناس تركب عربات حديدية مبردة مقفلة، تقطع المسافات، وهي تمشي على شوارع معبدة، تشنف الآذان بصدح فرقة موسيقية طول الرحلة، وهو واقع السيارات اليوم؟
كما تصور ذلك منها ولكن السير على قضبان حديدية، وهي القطارات التي وصلت الى مستوى الطيران فوق وسادات مغناطيسية، بارتفاع عدة سنتمترات بسرعة 500 كم \ ساعة.
وفي القرن الخامس عشر دشن عبقري النهضة الإيطالية (ليوناردو دافنشي LEONARDO DA VINCI)(1452 ـ 1519 م) حزمة من الاختراعات العجيبة؛ من التلفون وغازات القتال السامة والتوربينات، وتصور (الباراشوت) على صورة هرم مقلوب مفرغ يتدلى منه إنسان بحبل؟
وفي القرن السادس عشر قام الفلكي يوهان كبلر (OHANNES KEPLER)(1571 ـ 1630 م) بوضع تصاميم النزول على سطح القمر، وهو مشروع أبوللو الأمريكي لاحقاً.
وفي القرن السابع عشر قام جون ويلكينس (JOHN WILKINS) بوضع تصميم الحاكي (الجرامافون GRAMMOPHON).
وبدأت موجة الخيالات العلمية (SCIENCE FICTION) تظهر على السطح بشكل مكثف منذ بداية الثورة الصناعية، لتبلغ ذروتها مع الرسو على سطح القمر.
وفي عام 1840 م وصف الشاعر الأمريكي (ايدجار آلان EDGAR ALLAN) لأول مرة فكرة (السايبورج CYBORG) شبه الكلي؛ جسم بشري بأعضاء صناعية، على غرار فيلم (يد من حديد HAND OF STEEL).
وبعده بخمس سنوات عام 1845 نشر الكاتب الفرنسي (ايميل سوفيستر EMILE SOUVESTRE) نظرة مستقبلية بعنوان العالم كيف سيكون (LE MONDE TEL QU, IL SERA) وتجري أحداث القصة عام 3000 م.
وحسب نظرة الفرنسي (سوفيستر) سيكون هناك (اوتوبيا) عالم مثالي بمصانع كاملة، ذاتية الآلية، ومدن بشوارع تحت الأرض (تنشيء الآن في اليابان أو فكرة أنفاق المترو عامة) ومناخ ينظم باليد (قريب منه اليوم مكيفات البيوت) وأهم من ذلك تنبأ بمناخ اجتماعي، منظم بصرامة، تتحكم فيه تربية جماعية، مما يحوله إلى مجتمع حديدي بارد، في صلابة الحديد وبرودته، وتبخر العواطف الإنسانية والعلاقات الحميمة (وقد أصاب المجتمعات الصناعية طرفاً من هذا التنبؤ، في مفارقة عجيبة بين رفاهية الحياة، والوجوه الكالحة العابسة وتبخر ملامح السعادة الروحية من القسمات).
ثورة الخيال العلمي
وفي نهاية القرن التاسع عشر بدا عصر الازدهار لتخيلات المستقبل بحق، وأهمهم الكاتب الفرنسي جول فيرن (JULES VERN) في روايات متعددة له، مثل الرحلة إلى مركز الأرض، وعشرين ألف فرسخ تحت الماء، الذي مثله السينمائي الأمريكي (كيرك دوغلاس) في فيلم أخَّاذ، وطبعت الملايين من نسخ الروايات وبعدة لغات، ورواياته رائجة حتى اليوم.
وفي بريطانيا وحدها ظهر قرابة 55 كتاباً عن الرحلات إلى الكواكب بين عامي 1889 ـ 1915 م.
وكتب المؤرخ البريطاني (هربرت جورج ويلز H. G. WELLS) كتابه المشهور حول حرب العوالم وآلة الزمان.
وبدأت صورة العالم المستقبلي الخلاَّب في الانكماش يجللها الفزع، عندما كتب ويلز قصته (العالم يعيش حراً THE WORLD SET FREE) عام 1914 م يصف فيها النتائج المروعة لتفجير القنبلة الذرية.
ولم يخب ظن الروائي الانكليزي (ويلز) فقد اكتحلت عيناه قبل موته برؤية ما وصفه بقلمه قبل ثلاثين سنة، من آثار تفجير السلاح النووي فوق رؤوس اليابانيين؛ فكان أكثر المتنبئين صدقاً، ولكن في الاتجاه السلبي القاتم.
ثم ظهرت روايتان الأولى:
ـ لجورج أورويل (GEORGE ORWELLS)(عام 1984 م) التي يصف فيها نظام توتاليتاري كلياني دكتاتوري مرعب يمسك برقبة العالم، مسلح بكل التقنيات الحديثة، إلى درجة التحكم في عواطف الحب بين الأنثى والذكر، تم تمثيله بفيلم قصة المزرعة (THE FARM).
والثانية: رواية (الدوس هكسلي ALDOUS HUXLEYS) عن العالم الجديد الجميل، وفيه أشارة إلى فكرة الاستنساخ، التي نجحت عام 1996 م، وتم عرضها على الرأي العام العالمي للمرة الأولى في فبراير عام 1997 م، على يد (إيان ويلموت) الاسكتلندي.
الانهيار في التاريخ فلسفياً
هاتان الروايتان فجرتا المخاوف الإنسانية في القرن العشرين، لإمكانية حدوث تحولات مريعة في المجتمع، دفعت الفيلسوف الدنمركي (كيركيجارد) إلى مربع التشاؤم، تلك التي أطلقها قبل 150 سنة، بأن كل تقدم علمي سيوجه سلباً إلى صدورنا لاحقاً، في انهيار كوني لا فكاك منه ولا خلاص؟!
ومثل هذا موجود في ثقافتنا عن مراحل وهط العالم الإسلامي، وانتشار مقولة تؤلف ولا تؤلفان، وهو كلام ينطبق عليه مثل الثعلب والذئب؛ فعندما سأل الذئب الواقع في الفخ، ثعلباً يمر بجانبه متأمله شامتاً: لقد سمعت أن القيامة اقتربت فهل عندك خبرا عنها؟ كان جواب أبو حصين ذكيا كالعادة: أما خبر يوم القيامة فلا أعرفه، ولكن الأكيد الذي أعرفه أن قيامتك اقتربت؟؟
كان الذئب في الواقع يحس بأن قيامته بالذات قد دنت، وليس انهيارا عاما في الكون، وهذا الاتجاه يسجله المؤرخون أن التقدم في التاريخ أو الانهيار لا يحدث شاملاً ساحقاً غامراً معمماً، بل هو في حالة انفجارات وذرى؛ فقد ينهار التاريخ في الغرب ليصعد في الشرق، وعندما يؤرخ الغربيون لانهيار كوني؛ فهم في الواقع يؤرخون لانهيارهم بالذات، من نموذج الذئب والثعلب.
كما في التشاؤم الذي يطبع كتابات الغربيين وفي رأسهم أوسفالد شبينجلر الفيلسوف والمؤرخ الألماني، الذي أرَّخ لسقوط الحضارة الغربية مع مطلع القرن عام (1916 م) في كتابه أفول الغرب، وبت فيها بغير عودة.
أو في كتابات (نعوم تشومسكي) الصاعقة الحديثة، حول وهم الديمقراطية الغربية (ردع الديموقراطية).
بل إعلان موت كل مقدس ومطلق، كما صرح بذلك الفيلسوف الملهم (نيتشه).
والواقع فإن الذي مات ليس ما أعلنه نيتشه (موت الإله؟)، ولا ما أعلنه فيلسوف الحداثة الفرنسي (فوكو) عن موت الإنسان بعد المطلق والمقدس.
الذي مات في الواقع لا المقدس ولا الإنسان بل تصوراتهم الذهنية لا يزيد، وهو ما حاول فيه الفيلسوف الألماني المحدث (يورغن هابرماز JUERGEN HABERMAS) من مدرسة فرانكفورت، الذي شق الطريق إلى عالم ما بعد الحداثة، في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من العقلانية الغربية.
كارثة الاستغناء بالنص عن الواقع
صدمة الخيال العلمي وغياب بهجته جعلت عالم التاريخ (ميشيل ساليفسكي MICHAEL SALEWSKI) يعتبر أن جموح الخيال العلمي لا يزيد عن
(إسقاط) تمنيات النفس على التاريخ، ولكن التاريخ يمضي وفق قانونه الخاص.
لا غرابة إذا أن اعتبر القرآن التاريخ مصدراً للمعرفة، كما هو في الطبيعة.
تأمل الآية: قل سيروا في الأرض فانظروا؟
إن أمر القرآن هنا بالسير في الأرض وليس في القرآن، في علاقة جدلية متحارجة، في كمية نامية من تفاعل الواقع مع النص.
إن الطبيب الناجح هو من يعيش في حركة جدلية بين الكتاب والمريض، بين النظرية والممارسة، بين الأفكار والتطبيقات، بين مزج المعلومات النظرية مع الواقع، في علاقة جدلية نامية لا تعرف التوقف؛ فيتم تصور النصوص وإسقاطها وتصحيحها، وأخذها المسار العقلي المناسب.
إن المهندس النظري الذي يبني درجاً عالياً (ارتفاع الدرجة العادية حوالي 16ـ 17 سم) يصعد عليه المرء فيما يشبه المارش العسكري، في أذية مزمنة للمفاصل، ونوافذ مشوهة لا تعرف الشمس القبلية، وكسوة لا تعرف رائحة الأناقة في العمل، كلها شهادات واضحة عن معنى جدلية الممارسة والنظرية، والخبرة والأفكار.
وفي هذا الحقل فإن صاحب الخبرة قد يكون أفضل من المهندس ذو الشهادات، ومن لُدغ عَرَف في محرقة البناء يعرف؟
لقد ظن العالم الإسلامي أن النص سيغنيه عن الواقع؛ فكب على وجهه، وركبه الذل بمخالفة صريح الآية.
وكل من سار في الأرض من المعاصرين، هم من خارج العالم الإسلامي، ومعظم من استشهدنا بهم في الخيال العلمي هم من خارج الثقافة العربية الإسلامية.
العلم بحر لاقاع له ولا شواطيء
هناك ثلاث ملاحظات جوهرية، ونحن نخوض في جدلية الماضي والمستقبل والخيال العلمي؟؟
الأولى: العلم بحر ليس كالبحور، فهو بحر ليس له قاع، ولا تعرف سفنه شواطئ ترسي عندها؟! وهو بحر يكبر ويمتد بدون توقف، لأن العلم في حالة زيادة، والقرآن يرى الوجود مرة متوسعاً (وإنا لموسعون) على وضع ديناميكي متحرك فعّال نشيط نامي، وليس استاتيكي جامد ميت محدود. كذلك فالكون في حالة زيادة في الخلق بدون حدود وتوقف: (وقل رب زدني علما) و (يزيد في الخلق ما يشاء)، فالعلم لا يعرف التوقف والاستحالة.
والاستحالة هي صورنا الذهنية فقط، فكثير من المسلمات والاستحالات تم تحطيمها وتجاوزها، وما لم يضع العقل هذه المسلمة الأولى أنه لا توجد مسلمة فلن ينمو. في زاوية منفرجة من تفاعل العقل والعلم، في حركة لولبية صاعدة، تتسع حلقتها باستمرار.
العلم لا يعرف الراحة والاستقالة والتقاعد؛ فراحته في النشاط والحركة والإنتاج، ولا يهاب من التابو، فيخضع كل مظاهر الوجود للدراسة من الذرة إلى المجرة، ومن ابسط الأفكار إلى أعظم الإمبراطوريات، ومن الجنس إلى السياسة، مروراً بالثقافة والدين والانثروبولوجيا.
وليس الخيال العلمي إلا تعبيراً رمزياً بسيطاً عن هذه الحقيقة الأساسية.
والملاحظة الثانية: أن العسكر لعبوا دوراً إيجابياً في النمو العلمي من حيث لم يريدوا ولم يشعروا ومثلا فليوناردو دافينشي لم يلتمع اسمه بدون تقديم عبقريته في التكتيكات الحربية إلى أمراء زمانه، والانترنيت كان مشروعاً عسكرياً؛ فتحول إلى نادي للنقاش الديمقراطي الدولي، وأوقيانوس رهيب من الاتصال الإنساني، والنمو العلمي بدون توقف، وجنون ريجان مثلا والجنرالات الذين كتب عن حماقتهم الكثير أفادت الجنس البشري من حيث لا يشعرون، عندما تحول مشروع الساتلايت والصواريخ خارج أرضية، إلى محطات فضائية نتمتع بها ويتواصل الجنس البشري، وتنفتح الثقافات على بعضها، في نسيج الكتروني معقد أخَّاذ يحيل الكرة الأرضية إلى قرية الكترونية وعائلة متفاهمة، فيحقق العسكر من حيث لا يشعرون ويريدون مدلول الآية أن الناس خلقوا للتعارف (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وليس للاقتتال.
والملاحظة الثالثة وهي أثقلها في الميزان: أن الناظم الأخلاقي للتطور العلمي وصيانته هي من داخله، ضمن آلية داخلية، بحيث يتولد في أحشاءه، كما يرمم الجسم بدنه وهو يمارس الحياة، بدون إعلان وصاية أخلاقية عليه، فلا تتم مصادرته بتصريحات السياسيين، ولا تحريمات الكنيسة والبابا، تحت قانون أن الزبد يذهب جفاءً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض. كذلك مضت سنة التاريخ.
والآن بعد أن ودع العالم (صرعة) الخيال العلمي بدأ يدشِّن ما هو أخطر منه.
إذا كان الكاتب البريطاني (راي برادبوري RAY BRADBURY) عبر عن رحلة الوداع هذه بقصته (فهرنهايت 451) عندما قال: لا أريد تصور المستقبل فقط. أريد منعه كلية. ما يحدث الآن كما اعترف الفيزيائي (دينيس جابور DENNIS GABOR) المستقبل أكبر من تطويقه وأعظم من اختراقه، ولكننا نستطيع اختراعه؟!
والاتجاه حالياً هو المراهنة على تغيير نمط الحياة التي يعيش على نظمها الإنسان. وأعظم خيال يراهن عليه هو تغيير ما بالنفوس، لأن قدر التغيير مربوط بتغيير ما بالنفوس.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
والسؤال الحرج والصعب والمعقد والمملوء بالتحدي:
كيف يمكن أن نغير طريقة حياتنا فنودع روح الاستهلاك، ونحافظ على (أمنا) الطبيعة ومصادرها، ننمي الخضرة ولا نقتل الإنسان، وندشن ثقافة تلجم الجشع وروح امتلاك الأشياء، بما فيها امتلاك المرأة.
قصة سقراط في السوق
كان من عادة الفيلسوف اليوناني سقراط أن يتمشى في السوق؛ عسى أن يجتمع بإنسان فيحرك دماغه، أو يدفع في خموله شهية البحث، أو يزعزع في صدره الاطمئنان المزيف، أو يزرع روح النقد في ثنايا تفكيره، وبناء طاقة التأمل عنده.
كان سقراط يمشي في السوق يتأمل الناس والأشياء، وهجوم الناس على البيع والشراء، ويردد أمام زحمة وكثرة الأشياء التي يراها: يا الله كم هي كثيرة تلك الحاجيات والأغراض التي لست بحاجة إليها؟!
فلسفة الغنى والفقر كلها تتولد من هذه الفقرة السقراطية الساخرة:
الغنى ليس ما يمتلك الإنسان. الغنى قدر ما تستغني عن الأشياء، فالأشياء تملكها كما هي تملكك. كان ذلك في الكتاب مسطورا