لم يكن الأمر سهلاً عند الفريق الطبي من جامعة (مك جيل McGill) في مونتريال ـ كندا (MTL) في الحصول على عينات من أدمغة الشباب الموتى بفعل الانتحار، ولكن بالتعاون مع (بنك أدمغة المنتحرين في كيبك Quebec Suicide Brain Bank) تمكنوا من الحصول على عينات، من 13 دماغ من جماجم المنتحرين، بعد التفاهم مع أهل وذوي الشباب، الذين ختموا حياتهم على أسوأ صورة ممكنة؟
تم قطع منطقة قرن آمون أو ما يسمى منطقة ما تحت السرير (Hippocampus) وهو مركز التعلم والذاكرة، وبعد أخذ شرائح من المنطقة المذكورة، حفظت في الدرجة 80 تحت الصفر، حيث رسى مصيرها في مختبر الدكتور زايف (Szyf) وميشيل مينيه (Michael Meaney) من جامعة مك جيل للدراسة.
ولكن ما هي الفائدة المجنية، من قوم قضوا نحبهم بالسم، أو تفجير الجمجمة ضربا بالرصاص؟ أو ذبحا بالساطور؟
كان الدافع لذلك درسا من عالم الجرذان؟
فقد لاحظوا أن الجرذان المولودة حديثا، والمهملة من أمهاتها، تتعود (الخوف) والظلام وتنسحب إلى الزوايا الميتة بحثا عن السلامة، في حين يظهر على الذراري التي اعتنت بها أمهاتها نشاطا وجرأة ولعبا واندفاعاً!!
قال الفريق العلمي: هل يمكن أن ينطبق هذا على بني البشر؟ وهل لو أن الطفل تعرض لسوء المعاملة والانتهاك والإهانة والتجويع والتعذيب أن يترك أثره على السلوك؟
بكلمة أخرى وعلى نحو مقلوب؟ ليس أن الجينات هي التي تحدد السلوك؟ بل العكس فإن السلوك يغير الجينات؟ وهو نصر متأخر لمدرسة علم النفس السلوكي وشيخها (سكينر)
وتفكيرا من هذا النوع، يعني كسر المسلمة الطبية (الدوغما) التي تقول بثبات المادة الجينية ومورثاتها؟
ومما ينقل (نديم البيطار) في كتابه من (الإيديولوجية إلى الثورة) أن صراعا نشب بين ستالين وفريق البحث العلمي حول المورثات، حين شرحوا لهذا الأمي في العلم من جورجيا، حيث يقتتل الروس والجورجيون من ألف عام ويكررونها في صيف 2008م.
وستالين المجرم كان جورجيا سفاحا، فقد قالوا له إن هذا العلم يختلف مع العقيدة الشيوعية التي تنص على تغير الصفات كسبيا، وأن المورثات ثابتة لا تتغير؟!
فعمد إلى (تطيير) العالم القدير (أفيلوف) من منصبه، واستبداله بالرفيق الحزبي الأمي في علم الجينات (ليزانكو)؟
ولكن ما يخرج للسطح حاليا أمر عجيب، يمشي قليلا مع تفكير ستالين الأمي؟
فقد تمكن الفريق الكندي، من الوصول إلى معلومة مفادها أنه وبالأحداث الجسام، وبعمر مبكر، يمكن أن تؤثر على قدر الجينات فتبدلها، وتتحول إلى أمر كسبي عن طريق آلية عجيبة سموها (المتيلة Methylization)..
قال الفريق يبدو أن ما يحدث من الجروح النفسية وضربات القدر للأطفال، أنها تلجم مورثة الصمود أمام الضغوط النفسية، بإفراز بروتينات ضارة، مما يؤدي إلى تبدل في جينات الدماغ ودفعهم باتجاه الكارثة لاحقا؟
وللإجابة العلمية على مثل هذا السؤال المحير؛ فإن عينات الدماغ المبتورة، والبحث في مخفياته من الحامض النووي (DNA) في أدمغة المنتحرين ستحمل الجواب الفاصل.
لقد عثر الفريق مذهولا على الجين المسئول عن مقاومة الصدمات بوضعية الإطفاء، تماما كما في مصباح الإنارة في البيت، لم يكن الجين متضررا ولكن محطوطا على وضعية قف ولا تعمل؟
وبالمقابل طلب الفريق الطبي المزيد من أدمغة ضحايا الحوادث الذين قتلوا في الطرقات، ولكن بتتبع سيرتهم الذاتية أنهم كانوا أناسا عاديين فرحين مقبلين على الحياة ولكن يد الموت امتدت إليهم بغتة؟
كل هؤلاء من الفريق المقابل عثر على أدمغة جيدة وجين مضاد الصدمات بوضعية طبيعية عاملا فعالا نشاطا بدون مشاكل؟
لقد كان معروفا لنا نحن الأطباء، أن الجروح النفسية تترك ندباتها، كما هو الحال في الجروح العضوية، ولكن العقيدة الطبية كانت في اتجاه ثبات المادة الجينية في المورثات، أن لا يد تطالها، فثبت من هذه الأبحاث أنها فتحت الطريق لعقيدة جديدة، في إمكانية تغير المادة الوراثية، مع المحيط ومؤثراتها، والتربية ومصاعبها، فتترك خطوطا لا تمحى مع الزمن، بل ويمكن نقلها وراثيا للأجيال من بعد؟
ومن هذه الأبحاث الجديدة التي رأت النور نشأ علم جديد يمكن أن يترجم بعنوان (مؤثرات التغيير الجيني الكسبي Epigenetic). حيث يمكن بواسطة مجموعات المتيلين التحكم في الجين إغلاقا وتشغيلا مثل مفصلة الباب غلقا وفتحا؟
وهذا العلم يفتح الباب كذلك لدمج العلوم الروحية والطبيعية سوية؛ فيمكن أن نصغي للحديث المتبادل بين الروح والجسم، أو على الأقل هكذا يطمع الجيل الجديد من أطباء مك جيل؟
كذلك فهذا يقود إلى فهم علاقة الخبرات ومؤثرات الثقافة على المستوى العضوي، ومنها مثلا الصيام، حيث يتم فتح الباب للأخلاق من زاوية البيولوجيا، هجوما على البدن بتجويعه، فيقول القرآن عن الصيام البدني: لعلكم تتقون وهي حصيلة روحية؟!
ونظرا لأن تغير الجينات كانت مفهومة حتى اليوم أنها تتبدل فقط بطريقة غير واضحة هي (الطفرة Mutation) فهذا سيقلب نظرتنا تماما إلى فهم علاقة التطور بالوراثة أو العقل بالبدن أو الروح بالأخلاق والجسم.
يقول الفريق الطبي: وهنا الفرق؛ فالأمراض الوراثية لعنة ليس لها مرد، أما مركبات المتيلين فيمكن التحكم فيها، وإذا كانت التربية ستغير الجينات، فيمكن التداخل أيضا دوائيا بفك أو فتح استعصاء الجينات بواسطة (مفصلة باب المتيل).
وفي الطبيعة درسا من عالم النحل، فقد ثبت أن الغذاء يغير طبيعة الكائنات، كما هو الحال في الغذاء الملكي الذي يقلب نحلة عادية، إلى ملكة بصفات مغايرة، تلد الآلاف وتعني بكامل المملكة الحيوانية، فلماذا لا ينطبق هذا أيضا على مملكة البشر؟
إن القرآن يقول لنا عن إبراهيم أنه كان أمة فيسعفنا بمثل من عالم البشر..
ومنذ فترة قريبة توصل فريق أوسترالي إلى نتائج مشابهة عبر الغذاء، فتناول رحيق العسل يقود إلى قوة في نظام المتيل الداعم للجينات، وبالتالي إلى إطفاء فعالية العديد من جينات التطور، وتحول اليرقة إلى نحلة عاملة.
لقد لوحظ عند الأطفال بسن اثنين إلى ثلاث سنوات أن مجموعات المتيلين تتأرجح، وهي عرضة للتأثر بظروف الحياة، ومنها تلك التي تقود للكآبة والانتحار، ولعلها خلف موضة الانتحار الفلسطيني، التي نبعت من ظروف البؤس والإحباط والعبث واللامعنى في الحياة وموت أقرب الناس بالصواريخ الأمريكية، ولكنها لم تبق في إسرائيل بل ضربت حتى أندنوسيا ورهائن المسرح الروسي على يد الفريق الانتحاري في الشيشان.
إن تأثيرات الكآبة والإحباط مخيفة، فهي تحرر بروتينات معنية تقود إلى كارثة تغير الجينات وقدرها المرسوم بعناية. مثيرة في سن متأخرة مجموعة من الأمراض القاتلة، مثل الانسمام بالبدانة المفرطة، والربو، وتصلب الشرايين، والإحباط والكآبة (Depression).
وخطوة بعد خطوة تبين أن هذا العلم الجديد يجعلنا نرى أمراضا أخرى بنفس الآلية، حيث عثر مثلا في جماجم 35 مرضا بالشيزوفرينيا (Schizophrenia) على نفس كارثة إغلاق مفصلة المتيلين وإطلاق جينات وعتقها أو حبسها ولجمها.
وطالما ارتبطت هذا العلة بالثقافة والأفكار والظروف المحيطة والإحباط وتأثيرها على الجهاز المناعي، فقد دخل على الخط نور جديد، في فهم آلية انفجار السرطان بكل أنواعه في الجسم، لأن السرطان هو الوجه المقابل لانهيار الجهاز المناعي، وإعلان التمرد العام في خلايا الجسم أمام جهاز توقف عن العمل، كما هو الحال في جمهوريات الخوف والبطالة، حيث ينهار الجهاز المناعي في الأمة، من فكر وعلماء ومربين، فتخرج جيوش من المخربين الثوريين فتأكل الجسم بما حوى، وتنقلب بؤر المناعة مثل اللوزتين إلى بؤر للتدمير، وكان عاقبة أمرها خسرا.
لقد جرب الدكتور زايف ومجموعته هذه النظرية الثورية في تطبيق مجموعات المتيلين قبل عشر سنوات، عند مرضى السرطان فنجحت وتراجعت السرطانات؟
ويفهم الأطباء اليوم لماذا تتحول بعض الخلايا إلى سرطانية، ولكن هذا التحول يوقف بواسطة مجموعات المتيل، وهي آلية دفاعية ذاتية في البدن فينجو من الأورام، وحاليا تخصصت شركة (ايبيجينوميكس Epigenomics) في برلين القضاء على الخلايا المتحولة بمواد المتيلين.
والشيء غير المفهوم حتى الآن هل أن هذه التغيرات المرضية تنتقل بالوراثة؟ فقد أعلنت مجلة (المجلة الطبية انجلترا الجديدة New England Journal of Medicine) عن امرأة ضبط عندها سرطان في القولون، وعولج بطريقة فرملة الجينات وإسكاتها (جين حماية اسمه MLH1)، وتبين لاحقا أن أربعة من أولادها، يحمل واحد منهم الجين السرطاني، بفعل الانتقال الوراثي، ويبدو أنه انتقل له عن طريق البويضة الملقحة من أمه.
أما الدليل القوي لهذا الحقل المعرفي، فقد جاء من التجارب على حيوانات المخبر، فقد حقنت جرذان حوامل بمواد مضعفة للأجنة، فولدت نسلا ضعيفا معرضا للأمراض والسرطانات، ليس فقط الأولاد بل الأحفاد من بعد؟
كذلك ثبت من الجرذان التي تتنفس الكوكايين، أن تأثير هذه المادة يغير من طبيعة إنزيمين في الخصية؛ فتخرج حيوانات منوية بأذناب مشوهة.
والسؤال هل ينطبق على الحمام والجرذان ما ينطبق على بني آدم، فيسأل عن أمه وماذا أكلت، وكيف حملت؟ وأباه وكيف عاش وهل كان حشاشا أو جلادا؟ وأجداده والسموم التي تناولوا؟ والطفل والمعاملة السيئة التي تلقاها الأطفال المساكين؟ والموءودة إذا سئلت بأي ذنب قتلت وبأي شكل من أشكال الحياة والثقافة المريضة دفنت؟ فلا يشترط الدفن في التراب بل العادات المريضة؟
إنها أسئلة محرجة ولكن مصيرية!!
لقد ثبتت أمور عجيبة، فمن دراسة بريطانية تبين أن الآباء عشاق التدخين بشراهة قبل سن 12 يأتيهم أولاد مصابين بمرض البدانة؟
ومن دراسة سويدية تبين أن الآباء الذين عاشوا في المجاعات أنتجوا أطفالا يتحملون ويعيشون حياة مديدة.
ومن تزوج بعد الأربعين أنجب في الغالب أولادا متوحدين (Autistimus)؟
وللتأكد من هذه المعلومات المثيرة؛ فقد نذر الفريق الطبي في مونتريال جامعة مك نفسه، للسنوات الخمس المقبلة، في دراسة حالات الأطفال، الذين أسيئت معاملتهم، وأهملوا وتأثير ذلك على الجينات عندهم؟
ومن الدراسات المثيرة في هذا المجال، تلك التي أجراها البيولوجي (راندي جيرتل Randy Jirtle) من جامعة ديوك في ديرهام (Duke Uni in Durham) من ولاية نورث كارولينا، حيث حقن أمهات من الفئران المريضات بالسكر والسرطان والبدانة، وبعد الحقن بمواد المتيل أصبحت رشيقة وأنجبت أطفالا ممتازين وتحسن أداؤها.
ومن الأدوية المثيرة تلك التي تصب في هذا الحقل معرفة أن مواداً مثل (حمض الفالبروين Valproin Acid) يصلح لمعالجة حالات الصرع والكآبة الذهانية.
وينطبق نفس الشيء على المركب (آزاسيتيدين Azacitidin) الذي يعيد أطباء السرطان اكتشافه ((Onkologist لمعالجة مرضى سرطانات الدم.
وقام فريق (زايف ـ مينيه) من جامعة مك جيل بتجربة مثيرة على الجرذان، التي أهملتها أمهاتها وتحولت إلى حيوانات تعيسة خائفة عصبية، بحقنها بمواد المتيل، حيث حولت الجرذان العصبية جدا إلى هادئة؟!
وليس من الضروري الحقن دوما بالإبر وبلع الحبوب، بل قام الطبيب الأمريكي (دين أورنيش Dean Ornish) في دراسة نشرتها مجلة (بناس PNAS) العلمية، في جون 2008م بتجربة خلاصتها؛ انه قام بعلاج 30 من مرضى سرطان البروستات، بطريقة طبيعية مختلفة، فأطعمهم الخوخ والباذنجان والفواكه والتوفو والعسل وزيت السمك والبندورة والخيار والمكسرات واللوز والزبيب وفاكهة وأبا، فضلا عن المشي اليومي لمدة نصف، وممارسة اليوغا (الصلاة) الارتخاء اليومي لمدة ساعة، مذكرا بالصلوات لدلوك الشمس إلى غسق الليل، وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.
ويقول الطبيب اورنيش انه بعد ثلاث أشهر من هذه المعالجة أخذ هو وزملاءه عينات من أنسجة البروستات عند المرضى فعثروا في نويات الخلايا على جينات جديدة فعالة ناشطة مقاومة مقارنة مع ما قبل العلاج؟
وما زال الباحثون يحزرون ويحومون، حول آليات عمل هذه الطريقة؟ إلا أنها معظمها تشير إلى صلاحية حقل الـ ايبيجينيتيك (Epigenetic).
ذلك أن الحياة استطاعت أن تسكت أكثر من 400 جين والكثير منها مثير للسرطان؟؟
إن هذه المعلومات بداية ثورة في فهم انفجار السرطان وحدوث الأمراض بل انهيار المجتمعات وأفول الحضارات؟؟