يعد حديث سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي لصحيفة quot;نيويورك تايمزquot; الأمريكية، من الأحداث المهمة في مطلع هذا العام 2010، فقد أحدث ضجة كبيرة في أوساط السياسيين والمثقفين ورجال الدين والعامة في الوقت نفسه، دفعته إلي توضيح كلامه مرة أخري في حوار مع جريدة الرياض السعودية (15 ndash; 3 - 2010) مؤكدا علي أن حديثه عن (الليبرالية) جاء فقط في سياق المقارنة مع إسرائيل، وليس كمبدأ سياسي.
حديث سمو الأمير (الأول) الذي تطرق لليبرالية والمرأة والمستقبل، يمكن اعتباره (حدث وموقف) في نفس الوقت. هو (حدث) لأنّه خلخل إحدي السرديات الكبرى، بتعبير الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، حين أنكر quot; الحدث الكبيرquot; الّذي تقصه، وهو المملكة العربية السعودية دولة دينية وبالتالي فهي ضد الليبرالية والدولة المدنية. وهو أيضا (موقف) لأنّ حديثه يقترح كتابة سردية كبرى جديدة للحدث الكبير، تنكر ما جاء في السردية الرّسميّة، وتثبت أنّ المملكة يمكن أن تصبح دولة ليبرالية مدنية.
وعلى هذا النّحو نتبيّن أنّ العلاقة بين الحدث والموقف دائريّة: فالحدث هو الّذي يولّد الموقف، مثلما أنّ الموقف هو الّذي يهيكل الحدث ويبنيه.
لكن سمو الأمير الفيصل (69 عاما) أضاف بعدا جديدا لهذه العلاقة وهو (المصداقية والشرعية)، فهو سياسي محنك ورزين صاحب خبرة طويلة، وهو أقدم وزير خارجية في العالم إذ عين في منصبه في العام 1975، ويمثل منذ نحو 35 عاما زعامة الدبلوماسية الهادئة في المنطقة، ونجح بإمتياز في عدم إحراج المملكة خارجيا في أصعب المواقف والمنعطفات التاريخية.
عندما سألته الكاتبة والمعلقة في صحيفة quot;نيويورك تايمزquot;، مورين دوود، التي قضت 10 أيام في السعودية عن مشاعر الترقب لدى النساء خاصة السماح لهن بقيادة السيارات، قال: quot; آمل ذلك quot;، مضيفاً: quot; في الزيارة القادمة أحضري معك رخصة قيادة دولية quot;.
موقف الأمير من الليبرالية لا يتضح كامل معناه ومبناه إلا في ضوء هذه العبارة، ففي حديث سابق - لمجلة quot;دير شبيجلquot; الألمانية ndash; قال: أنه شخصيا يوافق على قيادة المرأة للسيارة ليس لأسباب فلسفية أو سياسية، ولكن لأسباب عملية خاصة، مؤكدا علي أنها ليست قضية دينية.
وأضاف - تعليقاً على فشل جهود السماح للمرأة بقيادة السيارة في الوقت الحالي: quot;علينا التغلب على الرفض المتأصل في النفوس حول هذا الموضوع.. علينا تحقيق المزيد من الحقوق الأهم للمرأة السعودية مثل حق الانتخاب وحق تحديد المسار الوظيفي الذي ترغب فيه، وهي إجراءات إصلاحية لا يوجد حائل ديني يمنع تنفيذها quot;.
قبل أيام أطلت د. خولة الكريّع من نافذة برنامج quot;صباح العربيةquot;، احتفاءً بها كإمرأة سعودية نالت تكريم العاهل السعودى الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، الذى قلدها مؤخراً وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، عن إنجازات حققتها فى مجال أبحاث معالجة مرض السرطان.
كما أطلت من قبل الفنانة السعودية quot;ريم عبد اللهquot;، التي بدأت حياتها الفنية من خلال المسلسل الشهير quot;طاش ما طاشquot; لتتحدث عن تجربتها ومشاريعها الفنية، وقدم موقع quot;العربيةquot; تقريراً عن quot;سميرة المدنىquot; كأول إعلامية تظهر بالزى العسكرى علي التليفزيون السعودى، لتنقل المعارك الدائرة بالقرب من الحدود اليمنية.
وتحدثت أميرة الطويل زوجة رجل الأعمال الأمير الوليد بن طلال لصحيفة الوطن السعودية عن مواقف الوليد المؤيدة للمرأة السعودية، قالت: quot; أنا جاهزة لقيادة السيارة فى حال السماح للمرأة quot;، وquot; لدى رخصة دولية أقود بها فى كل دول العالم التى أسافر إليها quot;... وبذكاء شديد أنهت حديثها بالقول: quot; أفضل قيادة السـيارة وبجانبى أختى أو صديقتى، على أن أكون مع سائق غير محرم لى quot;.

نحن أمام انقلاب شامل فى الصورة التقليدية أو قل في (السردية الكبري) تم الإعداد له علي مهل وروية، ويجرى تنفيذه بسرعة على مختلف الأصعدة، لكن لماذا كل هذا الهجوم المكثف في الصحف والفضائيات والمنتديات علي كلمة (الليبرالية) تحديدا؟
لأن الليبرالية، في تصوري، هي الأكثر قدرة اليوم على التعامل مع ملف الطائفية والقبائلية والعشائرية التي تنهش بقوة في المنطقة، فضلا عن أنها أصبحت الأكثر قبولاً من الأطياف السياسية المتباينة، كون منطلقاته الفلسفية والنظرية غير دينية أو مذهبية، خاصة وأن الكيمياء العالمية تسير في اتجاه الليبرالية والتعددية والاختلاف في عصر العولمة، بعد سقوط الشمولية والأحادية والمطلقية.

والمتابع عن كثب لحركة الأحداث في المنطقة من طنجة إلي جاكرتا، لابد وأن تستوقفه حمي الالتفاف من قبل النخب السياسية والتيارات الدينية علي السواء، حول منجزات الليبرالية ومرتكزاتها، في محاولة حثيثة لسحب لبساط من تحت أرجل الليبراليين، بالإدعاء تارة والسطو تارة أخري، علي أفكار العدالة الاجتماعية والحريات السياسية، ومفاهيم المواطنة والمساواة والديموقراطية.

لكن هذا لا يمنع من أن نمارس النقد الذاتي علي أنفسنا أيضا، ونعترف بأن هناك تحديات جسام تواجه الليبراليين اليوم، وعلينا أن نلتقط الإشارة بسرعة وحكمة قبل ضياع الفرصة، من هذه التحديات: أن هناك مشكلة تاريخية ومعرفية بالنسبة لليبرالية بشكل عام لم تحل إلي اليوم، فالهجوم على الليبرالية في عالمنا العربي والإسلامي يحمل طابعاً أخلاقياً عادة، وهي تهمة مزدوجة في الوعي الشعبي، فمن الناحية التاريخية ترتبط الليبرالية بالعلمانية المعادية للدين، وجغرافيا ترتبط بالغرب والاستعمار والهيمنة الأجنبية. ونادرا ما تذكر أجهزة الإعلام والثقافة ومؤسسات التعليم عندنا: أن الفلسفة الليبرالية هي التي أسست لحرية الاعتقاد، ومنظومة الحريات والحقوق الإنسانية، وحركات التحرر والاستقلال في التاريخ الحديث، والعالم العربي بصفة خاصة.

هذا من ناحية من ناحية أخري فإن رواد الليبرالية لم يتكيفوا مع التقاليد العربية، فأصبح من السهل تشويه المفاهيم الليبرالية، وربطها بالانحلال والتبعية للغرب والرأسمالية المتوحشة، في بيئة محافظة عانت من الاستعمار طويلا وفقيرة في الغالب، مما يستوجب علينا تأكيد الأبعاد الوطنية في مواقفنا، خاصة قضية العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة أو إنتاجها، والإصرار على وجود شبكة أمان اجتماعي ndash; مع انفتاح الدول علي اقتصاد السوق - تحمي الطبقات الفقيرة أو المهمّشة، وتحفظ أو تعيد إنتاج الطبقة الوسطى، فمحاربة الفساد الاقتصادي والسياسي، واحترام سيادة القانون، ومبدأ تكافؤ الفرص وتأكيد قيم المساواة والمواطنة، هي أحد أهم أهداف الليبرالية علي مر العصور.

أن للدين دور مؤثر بلا شك في مجتمعاتنا التي لم تتعلمن بعد، وتقديم رؤية مستنيرة للدين لا يتم بمعاداة المتدينين ؛ لأن الليبرالية تعني حق الناس في الاختيار واحترام حرية التفكير والتعبير وإعلاء قيم التسامح واحترام الآخرين ونبذ التعصب واحتكار الحق والصواب. وهناك وشائج تاريخية وثقافية بين الليبرالية والإصلاح الديني، ومن خلال إعادة قراءة الدين وتأويله بزغت أهم سمات الحضارة الحديثة في الغرب، وهي: الفردية والحرية والتعددية والتنوير والعقلانية والتسامح.


[email protected]