أول لقاء جمعني بالعلامة الدكتور رشدي راشد كان في نهاية الثمانينيات، بدير الأباء الدومنيكان بالقاهرة، بدعوة خاصة من الراحل الأب الدكتور جورج قنواتي رئيس الدير وقتئذ. حاورته مدة ثلاث ساعات متواصلة، وطاف بي في رحلة ممتعة لاستكشاف كنوز التراث العلمي العربي، ولم اشعر معه بالملل والتعب لحظة واحدة، أو استشعر ضيقه وحزنه إلا حين باغته بهذا السؤال: وماذا عن النهضة العربية الحديثة؟ وأين نحن منها الآن؟...
قال: مشكلتنا الأساسية أننا صنعنا من أشخاص متواضعين فكريا وعلميا رموزا للنهضة والتنوير وبمرور الوقت صدقنا أنفسنا، كما أن ما قمنا بترجمته عن الفكر الغربي ndash; في بواكير هذه النهضة - هو الأسهل (فكريا ولغويا) والأقرب إلي متناول فهمنا وعدتنا المنهجية، وبالتالي فإن نظرتنا لأنفسنا وللآخرين quot; غير دقيقة ومشوهة غالبا، وهو ما ينعكس في طريقة فهمنا للأشياء وأحكامنا بشأنها، وسلوكنا وردود أفعالنا أيضا.
وفي محاولة لاستجلاء أسباب هذه المشكلة وأبعادها، قرأت عليه ما كتبه الدكتور فؤاد زكريا في مقاله المعنون quot; أزمة العقل العربي quot; بمجلة روز اليوسف (9 مايو 1977)، طالبا منه التعقيب؟.
يقول زكريا: quot; الظروف التي يعمل فيها المفكرون تتجاوز قدراتهم، فنحن نلتزم جانب الحذر في تعبيراتنا، ونقول شيئا ونخفي أشياء، ونعبر عن أنفسنا بطرق ملتوية، ونفكر دائما في الأصداء المحتملة لما نكتبه، والقيود التي تكبل العقل العربي من جميع جوانبه منعت وصوله إلي مرحلة التحرر، وكلما ازداد هذا العقل اقترابا من مناقشة الجذور العميقة التي يعيش عليها المجتمع، اشتدت القيود التي تمنعه من الحركة، ومن المستحيل أن يصل إلي مرحلة التحرر إلا إذا استطاع أن يناقش الجذور quot;.
أكفهر وجه محاوري، وقال بصوت محشرج: ومتي سنناقش الجذور، بعد قرن آخر من الزمان؟! ... واستطرد - وهو يشير بأصبعه إلي النافذة - قائلا: أخشي ما أخشاه أن آتي إلي مصر في مقبل الأيام فلا أجد من يمشي في الشارع سوي الخيام المتحركة والجلاليب القصيرة فقط، بل إننا سنتحسر علي يوم من أيامنا هذه.... إذا لم نبدأ من اليوم!
تذكرت هذه العبارة وأنا اتابع معركتين علي جبهتين مختلفتين اندلعتا في وقت واحد تقريبا في كل من مصر وإيران. فلم تكد تهدأ معركة quot; البنطلون quot; التي خاضتها بشجاعة ورباطة جأش تحسد عليها الزميلة السودانية quot; لبني أحمد حسين quot;، حتي ظهرت مشكلة أخري بسبب quot; البنطلون quot; أثارت غضب الإيرانيين - حسب صحيفة التليجراف ndash; حيث وضعت شركة ملابس صينية شريطا على البنطلونات الجينز يحمل عبارة quot; بسم الله الرحمن الرحيم quot;. وهو ما دفع الموقع الإيرانى quot; أسريران quot; إلي اتهام الصين بمهاجمة الرموز الإسلامية المقدسة، وتساءل الموقع quot; كيف يتم تطريز لفظة quot; الجلالة quot; على مكان الجلوسquot;.
أما المعركة الثانية فقد نشبت في مصر بسبب البنطلون أيضا، فقد انتقد الشيخ يوسف البدري، فتوى الدكتور على جمعه مفتي الجمهورية التي أجاز فيها للمرأة ارتداء quot; البنطلونquot;، مؤكدا خطأ استدلاله بحديث الرسول (ص) quot; رحم الله المتسرولات من أمتي quot;، لأن المقصود به السروال الذي ترتديه المرأة تحت الجلباب، وبالتالي لا يجوز الاعتداد بهذا الحديث في الفتوى.
وأشار البدري إلى quot; أن المرأة لا يجوز لها أن تلبس سروالا حتى لو كان واسعا، لأن البنطال يأتي إلى فخذها ويكشف العورة المغلظة، في حين أن السروال وظيفته أن يرتدى تحت الجلباب quot;.
علي مدار القرن العشرين كله، نجح الفقهاء ورجال الدين في تحويل quot; أنصاف الاعتقادات quot; عند العامة والبسطاء من الناس إلى quot; اعتقادات تامة quot;، وبالتالي أصبحت جميع المفاهيم الدينية معرضة لخطر التيبس والتحول إلى مجرد مظاهر خارجية. وبات الميل إلى تطبيق التصورات الدينية، في جميع الأوقات وعلي كل الأشياء، مظهراً عميقاً لحياة التدين.
على أن هذا الميل نفسه، بوصفه ظاهرة ثقافية، أنطوي على مخاطر لا حصر لها، نظراً لان الدين ينفذ في داخل كل ما في الحياة من علاقات، ما يعني مزجا متواصلا لمضماري (المقدس والمدنس)، بحيث أن الأشياء المقدسة أصبحت أكثر انتشاراً من أن تدرك وتحس بعمق.
ويدل التنامي الذي لا حد له ndash; في مطلع القرن الحادي والعشرين - للمحرمات والتابوهات وانتشار الفتاوى والتفسيرات الدينية على زيادة في quot; الكمquot; علي حساب quot; الكيف quot; نفسه، وهو ما جعل الدين اليوم مثقلاً أكثر مما ينبغي، بينما تراجعت القيم الأخلاقية ndash; بشهادة الجميع - إلي أدني مستوي لها.
وسط هذا المناخ المشبع بالحساسية الدينية الملتهبة، ينعدم التمييز بين التقوى الحقيقية والمظاهر الدينية التزيدية.... فقد كان يشير محاوري الدكتور رشدي راشد بأصبعه إلي النافذة، حيث تصادف مرور مجموعة من الرهبان الدومنيكان داخل حديقة الدير، وليس في الشارع المصري أو الإيراني الذي كاد أن يصبح ديرا كبيرا، من الناحية الشكلية والمظهرية فقط.
- آخر تحديث :
التعليقات