( 1- 2 )
مرت quot; المواطنة quot; في العصر الحديث بثلاث مراحل أساسية، مرحلة التشكل: من عصر النهضة الأوروبية وحتي إعلان حقوق الإنسان والمواطن في عصر الثورة الفرنسية عام 1789، ثم مرحلة الاستقرار: من عام 1789 وحتي انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية عام 1989، وأخيرا مرحلة quot; الأزمة quot;: من عام 1989 وحتي كتابة هذه السطور.
المرحلة الأولي اتسمت بالجيشان والاختمار أو quot; التشكل quot;، ففي عصر النهضة الأوروبية أو الرنيسانس - Renaissance، شجعت البروتستانتية بتأكيدها على الجوانية والفردية، الشعور القومي الناشئ بطريقة تفضل أحيانًا laquo;دين الدولةraquo;، وهي الفكرة التي استحضرها ميكافيللي من الماضي الوثني، كما عمقت بروتستانتية هنري الثامن، على سبيل المثال، من وطنية الإنجليز بشكل بالغ، وهو ما أنتهى إلى تثبيت فكرة الأمة والدولة.
أضف إلى ذلك أن انتشار الحروب السياسية والأطماع الاستعمارية بين الممالك الأوروبية ساعد على تأصيل النزعة القومية. laquo;وأصبح الخيار المطروح أمام الأوروبي العادي، هو خيار بين الأخوة في الدين كما كانت تبشر الكنيسة الكاثوليكية، أو الأخوة في الوطن كما كان يبشر أكثر مفكري النهضة، وحسم هذا الخيار في حرب المائة عام، من القرن الخامس عشر وحتى القرن السادس عشر، بين إنجلترا وفرنسا، بانفصال كل منهما عن الأخرى بوصفهما دولتين، ولغتين متمايزتينraquo;(1)
وأنتهت حرب الثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت ( 1618 ndash; 1648 )، التي دمرت العديد من المدن والقرى وقضت بإسم الدين على مئات الألوف من سكان وسط أوروبا، بمعاهدة ويست فاليا - west Phalia عام 1648، ومنها أنبثق نظام الدولة الحديثة، المتمثل في نظرية laquo;السيادةraquo; -Sovereignty. وهكذا ارتبطت الحداثة السياسية بمفهوم المواطنة أساسا وبنظرية laquo;السيادةraquo;، سيادة الدولة وسيادة الأمة المتماهية مع هذه الدولة والمتحصنة بحدودها السياسية والقانونية.
المرحلة الثانية للمواطنة، شهدت جدلا فلسفيا خصبا بين المفاهيم السياسية العملية لكل من laquo;الدولةraquo; و laquo;الأمةraquo; من ناحية، وبين المثل الأعلى العام لحب الإنسانية والمواطنة العالمية من ناحية أخرى، إذ لاح لفلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر، حسب يوهان هويزنجا، أنه قدر للأمة وللوطن أن يدخلا في كيان انسجام الأسرة البشرية ووحدتها.
وهكذا اجتمعت في روح العصر الذي أخذ يهوى مسرعًا نحو الثورة الكبرى فكرتان حاولتا التصدر: الأخوة الإنسانية والميل القوي نحو كل شيء يتعلق بأرض المرء وشعبه. ثم جاءت الثورة الفرنسية فانحازت للوطن الأمة، إذ لم يحدث قط أن بلغ عاملا الوطن والأمة من النفوذ الشديد ما بلغا في السنوات من 1789 - 1796.(2)
وعلى الرغم من أن الجمعية الوطنية الفرنسية جعلت همها الأول أن تصوغ laquo;إعلانًا بحقوق الإنسان والمواطنraquo;، بمعنى أن الإنسان يأتي أولاً على حين يتأخر المواطن، فإن المرء ما يكاد أن يشرع في صياغة حقوق الإنسان حتى يتجلى له أن الأمر يحتاج إلى laquo;الدولةraquo; لتصير إطارًا لمجتمعه. فكأنه ليس من الممكن بداهة أن تتخذ الإنسانية مطية أو وسيلة تحمل عليها الحرية المرغوبة، إذ أن مقرها هو laquo;الوطنraquo; وموضوعها هو laquo;الشعبraquo;، من هنا يتبين أن الثورة الفرنسية قامت منذ البداية بتنشيط الوطنية والقوميةraquo;(3)
وإذا كان الفيلسوف الألماني laquo;هردرraquo; Herder (1744 - 1803) هو أول من أصل فكرة laquo;الأمةraquo; و laquo;الوطنraquo;، وزود الناس بجميع عناصرها، فإن زعيمي التفكير الاجتماعي في عصر الثورة الفرنسية هما laquo;روسوraquo; Rousseau (1712 - 1778) وlaquo;مونتسكيوraquo;: الأول وضع laquo;البرنامجraquo; لإنشاء أية سياسية قومية حقيقية في رسالته laquo;تأملات حول الحكومة البولنديةraquo; عام 1772، وفيها أعتبر أن هدف القانون خلق روح شعبية ذات وعي قومي، وهدف التربية والتعليم المحافظة على الأخلاق والتقاليد القومية حية في قلوب الشعوب.
وفي كتابه الأشهر laquo;العقد الاجتماعيraquo; - Contract social، وضع أساس نشوء المجتمع المدني في الدولة العلمانية الحديثة، وهو الأساس المنطقي لنشوء laquo;الدولةraquo; أو laquo;هيئة السيادةraquo; بتعبير روسو. ففي العقد الاجتماعي ينزل الأفراد عن بعض من حريتهم في سبيل نفعهم جميعًا: laquo;فغاية العقد الاجتماعي هي النفع العامraquo;(4)
وبموجب laquo;العقد الاجتماعيraquo; عند روسو، وبناء على شروطه، يدخل كل شريك (أي كل مواطن) في علاقة مزدوجة: علاقة مع الأفراد الآخرين تتعين بموجبها الحقوق المدنية، وعلاقة مع هيئة السيادة نفسها (الدولة)، تتحدد بموجبها الحقوق السياسية، وتفرض هذه العلاقة المزدوجة التزامات متبادلة.
إن الميثاق الأساسي في أي نظام اجتماعي لا يقضي على المساواة الطبيعية بل أنه على العكس يقيم مساواة معنوية وشرعية لما استطاعت البيئة الطبيعية أن توجده من تفاوت بين الناس، فيصبحون كلهم متساوين بالعهد الذي عقد فيما بينهم، وبحكم القانون، ولو أن بينهم تفاوتًا في القوة أو في الذكاء وتفوق المواهب.(5)