إذا كان النظام السياسي الدولي الراهن هو نظام غير مكتمل حتي الآن، يفتقد إلي حكومة وسلطة عالمية مركزية... يصبح السؤال هو: ما السيناريوهات المطروحة اليوم بالنسبة لمستقبل الديموقراطية بشكل عام، ولعالمنا العربي بصفة خاصة، في ظل هذه الفوضي العالمية؟.
يقول quot;دانيال كولارquot;: quot;إن السلطة في المجتمع الدولي هي سلطة غير محددة وغير مقيدة، لا بل إنها عنيفة غالبا، إذ لا تتواني أي دولة، في سبيل الدفاع عن مصالحها الوطنية، عن تحقيق العدالة بنفسها، أي اللجوء إلي القوة، إذا ما اقتضت الحاجة ذلك. ولعل غياب برلمان عالمي، وحكومة عالمية، وجيش وشرطة، يعبر بصدق عن هذه الدرجة من اللاتنظيم. وينجم عن هذا الغياب للسلطات المؤسسية ولقواعد السلوك العام وضع شبه فوضوي quot; (1).
وquot;كولارquot; يستحضر هنا أيضا الفيلسوف الألماني quot; كانط quot; الذي حلم بتشكيل نظام عالمى جديد يتجاوز كل القوميات أو بقانون دولى كوسموبوليتى لحل الخلافات التى قد تنشب بين الأمم، وذلك فى كتابيه: فلسفة الحق، ومشروع للسلام الدائم بين الأمم.
وقد عالج هذه الفكرة ببراعة المفكر الاسترالي quot;هيدلي بولquot;) 1932 ndash; 1985) في كتابه المعنون: quot;المجتمع الفوضوي: دراسة النظام في السياسة العالمية quot;، ويبحث هذا الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن مركز الخليج للأبحاث عام 2006، في ثلاث مسائل أساسية: المسألة الأولى تتعلق بطبيعة النظام (order) في السياسة العالمية. والثانية تـتـصل بكيفية الحفاظ على ذلك النظام في نظام (system) الدولة المعاصر. ويتصدى في المسألة الثالثة لاستكشاف الطرق البديلة، الممكنة والمعقولة، المؤدية إلى تحقيق النظام العالمي. وخلافاً لبعض الآراء التي تقول إن نظام الدولة ذات السيادة آخذ في الأفول، فإنه يجادل بانه، خلافاً للتفكير السطحي، فإن سيادة الدولة ليست عقبة في تحقيق النظام العالمي، بل هي أساسه المكين.
يقول هيدلي بول: quot;إن سمة الفوضي وليست سمة النظام هي السمة البارزة في السياسة الدولية، وما الحديث عن نظام في العلاقات الدولية سوي رغبة يوتوبية ومثالية ومستقبلية غير متحققة الآن، ولم تكن قائمة في أي وقت مضي quot;. (2).
لكن رغم حالة الفوضي، ورغم تعدد مسببات الضعف في النظام السياسي الدولي إلا أن دول العالم ترغب في التعايش السلمي، وتبحث عن مجالات التعاون الدولي وتقيم علاقات ودية فيما بينها وتلتزم بأصول المصير الإنساني المشترك، بل تعمل علي إنشاء منظمات دولية لتعميق مظاهر التعاون كخطوة في سبيل تحقيق النظام بين الدول في العالم quot; (3).
فالعالم المعاصر إذا، يعيش حالتين متناقضتين: حالة حرب دائمة وحالة بحث دائم عن السلام، أي أن العالم تتجاذبه رغبتان هي رغبة العنف والفوضي ورغبة السلام والتعاون والحفاظ علي الاستقرار الدولي. (4).
كما لاحظ quot;بولquot; أن السلطة في المجتمع الدولي أصبحت تنتقل نحو الأعلي وأحيانا نحو الاسفل، فضلا عن أنها أصبحت أفقية وليست فقط رأسية، وأيضا ظهور عدة مستويات من الولاء الشخصي العابر للقوميات والحدود، مما دفعه إلي القول بتشكل quot; قرون وسطي جديدة (علمانية)، كبديل عصري للنظام السياسي الشامل الذي كان سائدا في المسيحية الغربية في العصور الوسطي، أو ما يعرف اليوم بمرحلة (ما بعد ويست فاليا) والدولة القومية. (5)
ويتألف هذا النظام السياسي الجديد حسب quot;هيدلي بولquot; من مجموعة من الولايات القضائية المتداخلة وسلطات مجزأة وولاءات متعددةrlm; أو قل من الفيدراليات الديموقراطية. ويصبح rlm;في هذا النظام مثلا، من شأن حكومة المملكة المتحدة أن تتقاسم سلطتها مع الإدارات في ويلزrlm;، اسكتلنداrlm;، يوركشايرrlm;، وأماكن أخرىrlm;، ومع سلطة أوروبية في بروكسل فضلا عن سلطة عالمية في نيويورك وجنيفrlm;.rlm; وفي هذا السيناريو تكون rlm;(rlm;القوه السلطة)rlm; أفقية وليست رأسيةrlm;، ووفقا لهذا
المنطلق تصبح فكرة سلطة سيادية واحدة تقيم في نيويورك من الأفكار العتيقةrlm;، وإذا ساد هذا الوضع علي النطاق العالميrlm;، فإن من شأنه أن يشكل نظاما قروسطيا جديدا خصائصه الأساسية شبكة من الولايات القضائية والولاءات المشتتة وغياب سلطة واحدة تتصرف بطريقة مبالغ فيها وتتمركز اقليمياrlm;.rlm;
وحسب بولrlm;:rlm; يمكن تصور أختفاء الدول ذات السيادة وأستبدالها بحكومة عالميةrlm;، بل بمكافئ حديث علماني من نوع المنظمة السياسية العالمية التي كانت موجودة في العالم المسيحي الغربي في القرون الوسطيrlm;.rlm; وهناك خمس سمات للسياسة العالمية المعاصرة تؤيد نوعا ما هذا السيناريو الذي يتسم بالعودة الي المستقبلrlm;:rlm; ظهور التكامل الإقليمي مثل أوروبا الموحدة، rlm; تآكل مفهوم الدولة القوميةrlm;، عودة العنف الدولي الخاصrlm;، نمو المنظمات العابرة للقوميات والحدودrlm;، عالمية حقوق الإنسان .rlm; وتمثل جميع هذه الأتجاهات البارزة تحديا لنظرية الدولة التقليدية ومفهوم السيادة الويستفاليrlm;.rlm;
فقد أصبحت المشكلات والأزمات والتحديات الجديدة في عالم اليوم تتطلب نظاما لا مركزيا عالميا يرتكز علي دوائر أو مستويات أوسع من حدود وقدرات الدولة القومية ذات السيادةrlm;،rlm; بالنسبة إلي بعض الأمورrlm;،rlm; وأضيق من هذه الحدود والقدرات في أمور أخريrlm;،rlm; أو قل إن الدولة أضحت اليوم أصغر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الكبيرةrlm;،rlm; وأكبر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الصغيرةrlm;.
وربما كانت محاولة الباحثة الأردنية quot;توجان فيصلquot; من أبرز الإسهامات الفكرية العربية في هذا الصدد، التي طرحت تصورات مبتكرة في مقالها المعنون: quot;إصلاح الأمم المتحدة .. من إقطاع دولي إلي ديموقراطية دولية quot;، وهي تدعو إلي ضرورة تطوير نموذجنا الديموقراطي الخاص (في أقرب وقت ممكن) بالاطلاع علي مجمل تجارب الدول الديمقراطية المستقرة، للتوصل إلى أنظمة حكم شرعية تستند إلي الإرادة الشعبية الحرة، عبر صناديق الانتخاب، كما تحدد لها مدة ولاية لا يجوز تجاوزها تحت أي ذريعة، وتحقق مبدأ تداول السلطة.
الجديد عند quot;توجانquot; هو أن ما تقترحه يصب بشكل أو آخر في سيناريو quot;هيدلي بولquot; ويتماس معه، تقول: quot;من تجارب الأنظمة الديمقراطية الفيدرالية، يمكن استخلاص نظام فيدرالي دولي يحفظ حق الدول الصغيرة (مساحة وسكانا وثروة) فلا تلحق بغيرها أو تلغى، ويحفظ حق الدول الكبيرة فلا تتساوى في القرار دولة بحجم قارة وبتعداد مئات الملايين من البشر مع دويلة من بضعة كيلومترات وربع أو خمس مليون مواطن.
وهنالك ضوابط معروفة عند الفيدراليات العريقة التي ثبت أن أنظمتها تحقق الاستقرار الداخلي بتحقيق عدالة سياسية واجتماعية واقتصادية، منها وضع حدود دنيا وحدود عليا لثقل تصويت لولاية وحسب نوع القرار. وفي شأن الثروات هنالك تجارب لحفظ أحقية الولايات (الدول في النظام الدولي المقترح) في ثرواتها، مقابل مساهماتها في الاقتصاد الفيدرالي (الدولي)، كلها محسوبة بحيث لا يتحول أهل أفقر ولاية لمتسولين وعبيد مقنعين، ولا تصبح ولاية أخرى مجمعا لمنتجعات تضم قصور النخبة الثرية فقط quot;.

وحتى شؤون السيادة التي هي الفارق الأكبر بين الفيدرالية داخل دولة والديمقراطية كنظام دولي هنالك معالجات لمتطلبات السيادة داخل الولاية ضمن الفيدراليات، إن جمعت لمفاهيم السيادة التي طورها الفقه القانوني على امتداد التاريخ الإنساني، ثم القوانين الدولية، وصولا لما يتم تداوله في الاتحاد الأوروبي الآن، هذا بمجموعه يمكن أن يشكل قاعدة انطلاق لمنظومة دولية عادلة.

ثم إن الكثير مما يخلق أزمات دولية تحت شعار أو ذريعة quot;السيادةquot; سيزول تلقائيا حين تعتمد الديمقراطية معيارا عالميا، بحيث لا تنضم للمنظومة الدولية الجديدة إلا quot;دول ديمقراطيةquot; بدلا من quot; دول ذات سيادة quot; المستعملة الآن.

الهوامش:

1- د.عبد الخالق عبد الله: العالم المعاصر والصراعات الدولية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 133، الكويت، يناير 1989، ص: 31 ndash; 32.
2- Hedley Bull: The Theory of The Anarchical Society ، Columbia University Press ، New York ، 1977 ، P. 12.
نقلا عن د. عبدالخالق عبدالله، مرجع مذكور.
Ibid ، p. 65 3-
4ndash; د. عبدالخالق عبد الله: مرجع مذكور، ص ndash; 32 .

Hedley Bull: p. 254 5-

[email protected]