(1)
قراءة أقوال مأثورة لـquot;جوتهquot; وquot;سارترquot; وquot;غانديquot; وquot;ابن رشدquot; في قطارات أنفاق السكك الحديدية في لندن، أصبحت قاب قوسين أو أدني، والهدف quot;الاستحواذquot; على انتباه الركاب، ورفع معنوياتهم وتحسين مزاجهم، فضلا عن تحصين جهازهم المناعي، ضد التعصب وعدم قبول الآخر.
تقف خلف هذه المبادرة مجموعة quot;ارت ان ذي اندر جراوندquot; صاحبة فكرة تدوين القصائد في مقصورة قطارات لندن، في الأماكن المخصصة عادة للاعلانات. فأنت تستطيع أن تقرأ قصائد كبار الشعراء العالميين وأن تكتب أبياتا من الشعر، أثناء سفرك داخل القطار هناك.
وهي الفكرة ذاتها التي أوحت ببرنامج quot;رحلة مع الشعرquot; (Poetry in Motion) في قطارات أنفاق الولايات المتحدة أيضا، الذي أصبح يغطي أكثر من 15 مدينة أميركية، وينقل الشعر العالمي إلى 13 مليون شخص، ففي داخل هذه العلب المكيفة، سوف تطالع شعراً رائعا يحلق بك، لا إعلانات لسلع معينة أو ملصقات دينية أو شعارات مستفزة، تشعرك بالذنب والخطيئة، وتجعلك كارها لنفسك وللآخرين، تخشي الحياة الدنيا وترتعد خوفا من الآخرة.
تقول quot; أنيتا نيجله quot; مديرة برنامج quot; رحلة مع الشعر quot;، أن وجود الشعر في قطارات الأنفاق ووسائل المواصلات الأخري، يجعل الركاب أثناء انتقالهم (من مكان إلى آخر)، جزءاً من الوسط الشعري، ويثير فضولهم ويرهف مشاعرهم ويزيد ثقتهم بأنفسهم، وينمي داخلهم التفاؤل وحب الحياة.
كما أن اطلاعهم علي مجموعة متنوعة من الشعراء العالميين أمثال البولندي تشيسواف ميلوش والإسباني فريدركو غارسيا لوركا والتشيلي بابلو نيرودا واليونانية سافو واليابانيون كوباياشي إيسا وإيزومي شيكيبو وأوتومو نو ساكانو، وغيرهم، يجسد التعددية داخل المجتمع الامريكي ويظهر في الوقت نفسه ثراء الخبرات الإنسانية وتكاملها. فقد تؤدي قراءة قصيدة معينة إلى ارتسام ابتسامة على وجه راكب ما، أو تشجعه على التفكير في أمر جدي من زاوية جديدة، لكنها حتما ستقوي جهازه المناعي ضد التعصب والأحادية والتجهم والكآبة.

(2)
في مصر تقدمت إدارة مترو الانفاق في الفترة الأخيرة، بأكثر من شكوي إلي جهاز شرطة المرافق، لإزالة الملصقات الدينية (التمييزية) من داخل عربات المترو، خصوصا العربات المخصصة للسيدات، حيث تعود هذه الملصقات (بعد إزالتها) وبقدرة قادر مع كل طلعة فجر، وتحمل شعارات فضفاضة في كل شئ، بدءا من نوع الحكم المقبول في السماء، مرورا بنوع الزي الشرعي وأماكن بيعه، وانتهاء بما يجب أن يتلي من أذكار أثناء السفر، وهي بالمناسبة quot; ملصقات quot; لا تميز بين أصحاب الديانات المختلفة فقط، وإنما تميز أيضا بين أتباع الدين الواحد والفرقة الواحدة.
القراءة الأولي في شكوي quot; إدارة المترو quot; تشير إلي أن quot; التعصب quot; استطاع أن يغرز مخالبه في أعماق المجتمع المصري عن طريق quot; أسر العقل quot; والهيمنة علي quot; الحواس الخمس quot; بالكامل، ليس فقط من خلال دور العبادة والتعليم والإعلام، وإنما أيضا في وسائل المواصلات والمصالح الحكومية ومؤسسات الدولة الأخري... فأين يجد (المواطن) المناخ المدني المناسب الذي يتنفسه؟... أين يشعر بالسماحة والمواطنة والمساواة والعدل؟.
التعصب فى اللغة هو: عدم قبول quot; الحق quot; عند ظهور الدليل، بناء على ميل إلى جهة أو طرف أو جماعة أو مذهب أو طائفة. وهو من quot;العصبيةquot; التي هى: ارتباط الشخص بفكر أو جماعة والجد فى نصرتها والانغلاق على مبادئها. ومن هنا فإن الشخص المتعصب Fanatical هو الذى يرفض الحق الثابت والموجود ويصادر الفكر الآخر أو الدين الآخر، ولا يعترف بوجود الآخر أصلاً، سواء فى الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق، وإن ارتبط التعصب فى أذهان الناس بـ quot; الدين quot; أساساً، ربما لخطورته.
ولا يدل التعصب اطلاقا علي quot; عمق quot; الإيمان، وإنما العكس تماما فقد أثبت العلوم المعرفية الحديثة، أن التعصب ليس إلا شعورا بالنقص وعدم ثقة بالذات، مما يدفع صاحبه إلي التشنج والصراخ والسلوك العدواني، فهو متحفز دائما تدفعه حساسيته الملتهبة إلي الثورة فجأة، دون أن يستخدم عقله في التفكير أو مقارعة الحجة بالحجة، لأن ضعفه الداخلي وقصوره العقلي، يجعله في حالة تأهب للدفاع عن الذات، التي تمتلك ndash; من وجهة نظره - كل الصواب وquot; الحق quot;.

(3)
وبمناسبة quot; الحق quot; فإن عبارة الفيلسوف العربي quot; إبن رشد quot; (1126-1198م): quot; الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له quot;، كما جاءت في كتابه quot; فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال quot;، سوف تزين قطارات أنفاق السكك الحديدية في لندن قريبا، وحسب quot;ابن رشدquot; فإن هناك حقيقة واحدة، ودروب مختلفة إليها. وتعدد الطرق التى تفضى إليها هو أساس حرية الفكر والتسامح الفكرى.
فالأديان والفلسفات والآداب والفنون والعلوم دروب مختلفة إلى هذه الحقيقة الواحدة، مما يعنى ضرورة احترام الآخر وقبوله كما هو، لا فرض قناعتنا عليه بالقوة. ذلك لأن وراء كل حقيقتين متعارضتين فى الظاهر quot; وحدة quot; بين طرفيها جهل متبادل.. وحدة فى انتظار من يكتشفها من خلال الحوار والتواصل والتسامح الفكري. لكن quot; إبن رشد quot; (كفر) عندنا وأحرقت كتبه، وفوق هذا وذاك، أصبح اسمه ورسمه رمزا للتكفير والإلحاد و(إهدار الدم) قديما وحديثا.
لم يكن كافيا للشيخ quot; يوسف البدري quot; اعتراف الدكتور سيد القمني أنه مسلم يحترم الرسول، فهذا علي حد زعمه يدخل في اطار ما أسماه بمذهب (الرشدية الجديدة)، نسبة إلي الروائي quot; سلمان رشدي quot; الذي أصدر الأمام الخوميني فتوي إهدار دمه بسبب روايته quot; آيات شيطانية quot; عام 1989. والرشدية الجديدة هي مصطلح مراوغ يميز و(يفصل) بين الرشدية القديمة التي تنسب لإبن رشد، والرشدية الجديدة وهي مدرسة الكاتب والأديب الهندي الأصل quot; سلمان رشدي quot;، التي تضم ndash; حسب الشيخ البدري - الدكتور سيد القمني والدكتور quot; حسن حنفي quot; أيضا، الحائز معه علي جائزة الدولة التقديرية هذا العام 2009، والذي وصفه بأنه: quot; أخطر من القمني نفسه quot;.
ولكن مصطلح quot; الرشدية الجديدة quot; يستدعي ndash; في نفس الوقت - و(يتصل) بمأساة quot; أبو الوليد إبن رشد quot; الفقيه والفيلسوف وقاضي قضاة قرطبة، مما يؤكد أننا أصبحنا في القرن الحادي والعشرين أبعد بسنوات ضوئية عن quot; تسامح ابن رشد quot; نفسه، وأقرب (لدرجة الالتصاق) إلي تعصب الذين كفروه، أو قل إن التعصب لم يفارقنا أبدا، فهو متغلغل في الأعماق، وquot; الأنفاق quot; أيضا.


[email protected]