عصام عبد الله من القاهرة: في الفترة من 10 ndash; 13 أغسطس الجاري، تشهد مملكة البحرين احتفالية ضخمة بالفيلسوف الفرنسي المعاصر quot;جاك دريداquot; (1930 ndash; 2004). وتصدر في الذكرى الخامسة لوفاته كتابا بعنوان quot;أطيافquot; كباكورة لسلسلة (اضاءات) التي تقدم أقطاب الفكر العالمي المعاصر للقارئ العربي في صورة جذابة ومتميزة، وفق أحدث الآليات العالمية في صناعة الثقافة وتسويقها. يشارك في هذا الكتاب عدد من الباحثين العرب من بينهم عبدالله الغذامي وصفاء فتحي وعصام عبدالله ومحمد البنكي ومحمد شوقي الزين واحمد عبدالحليم عطية وحسام نايل وغيرهم، وهو عبارة عن شهادات حية ودراسات تتقاطع مع اشتغال الباحثين العرب بالتفكيكية وجاك دريدا.
كما يقام على هامش تدشينه في (اليانس فرانسيس) معرض تشكيلي حول حياته وأعماله، وأمسية شعرية، ويعرض فيلم صفاء فتحي عن quot;جاك دريداquot;، إلى جانب العديد من الندوات وحلقات النقاش التي يشارك فيها الجمهور العربي.
تأتي هذه الاحتفالية في اطار حزمة من الفاعليات الثقافية التي تشهدها مملكة البحرين منذ تولي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة حقيبة وزارة الثقافة والإعلام قبل عام، حيث يقام مهرجان quot;تاء الشبابquot; الذي يستهدف جمهور الشباب بصفة خاصة، في المجمعات والفضاءات الإستهلاكية تحت شعار quot;تطوير، تعمير، تجديد quot;، وذلك بالتوازي مع مهرجان صيف البحرين، كما صرح صديقنا المتميز الأستاذ محمد البنكي المستشار الإعلامي للوزيرة المستنيرة الشيخة مي، quot;فاكهة البحرين الطازجةquot;.
ويبدو أن اختيار عنوان quot;أطيافquot; لكتاب عن quot;جاك دريداquot; بعد خمس سنوات من وفاته، جاء موفقا بدرجة كبيرة، سواء من حيث الدلالة أو المضمون أو طبيعة الاحتفالية نفسها وهدفها. فهذا العنوان من (نحت) دريدا نفسه، إذ أصدر في عام 1993 كتابا عنونه بquot; أطياف ماركس quot;، أصبح المحرك الجوفي للعديد من الأطروحات الفكرية المتناقضة حتى اليوم، واتهم دريدا بسببه من اليمين واليسار معًا بالتراجع عن مشروعه والتنصل من أفكاره، ووصفه البعض بأنه (ثورة) على التفكيك، ورد اعتبار للعقل أو اللوغوس الذي طالما عمل دريدا على تقويض مركزيته وفق استراتيجيته في التفكيك، ناهيك عن الأفكار والمفاهيم الأساسية ذات النزعة الإنسانية والعالمية التي كانت مصدر سخرية دائمة منه، فقد تحدث دريدا لأول مرة في هذا الكتاب عن quot;الثورةquot; و quot;النضالquot; و quot;الايديولوجياquot; منذ أن أعلن لأول مرة تفكيك الميتافيزيقا الغربية عام 1967.
الأهم من ذلك أنه جادل في هذا الكتاب المفكر الأميركي (من أصل ياباني) quot;فوكوياماquot; حول كتابه quot;نهاية التاريخquot; جدلاً عقلانيًا، وقال: إن الديمقراطية الليبرالية لم تتحقق في كل بلدان العالم كي نقول إن التاريخ قد انتهى، كما أنها لم تجد حلاً حتى الآن لمشكلة الفقر والبؤس الاجتماعي، حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها. وأثبتت الأيام صدق كلام quot;دريداquot; وبعد نظره، وخطأ نظرية فوكو ياما التي تراجع عن الكثير من أطروحاتها فيما بعد، والدليل هو: الأزمة الاقتصادية العالمية التي لم نخرج منها حتى اليوم.
فقد دعا دريدا في هذا الكتاب إلى عدم التنكر الكلي لـ quot;ماركسquot;، ذلك أن ماركس لم يمت ولم يقل كلمته الأخيرة بعد. بل يجب استلهام روح النقد الاجتماعي quot;النقد الراديكاليquot; من كتاباته. واللافت للنظر في طرح دريدا إزاء الرأسمالية الراهنة، هو لجوؤه إلى التراث الغربي كوسيلة للخلاص، على اعتبار أن ماركس جزء مهم من هذا التراث.
ويبدو أن فكرة quot;الطيفquot; أو quot;الشبحquot; بمثابة الخيط اللامرئي الذي يربط مفاهيم دريدا عن quot;المحاكاةquot; و quot;التناسخquot; وquot;الأثرquot;، كما أنها تتعلق بجميع أفكاره المرتبطة بـ quot; اللاحسم quot; باعتباره الشرط الشارط لاتخاذ أي قرار مسؤول.
هذا من جهة، من جهة أخرى فهو يرينا كيف يتحقق قانون المفارقة التاريخية أو عدم التطابق الزمني، باعتباره قانون النهاية والفناء، وذلك لأن الشيء يعيش بعد صاحبه ويوجد على شكل فكره (1)، وهو ما تطبقه وزارة الثقافة والإعلام في البحرين مع دريدا نفسه، حيث تحتفي (بفكره الحي) بعد خمس سنوات على وفاته، وبأقطاب الفكر العالمي المعاصر تباعا.
بيد ان البدء من quot; دريدا quot; ينم عن شجاعة فكرية من نوع خاص، لأن استراتيجيته في التفكيك تلامس quot; العصب العاري quot; وquot; الجدار المكهرب quot; للميتافيزيقا بشكل عام، وهنا تكمن أهميته لعالمنا العربي والإسلامي تحديدا، والبشر ndash; أي بشر ndash; لا يرغبون في أن تمتحن افتراضاتهم أكثر مما يجب، وأن تصبح جذورهم بادية في العراء، لذا فإنهم يضطربون أيما اضطراب حين يرغمون على فحص عقائدهم وافتراضاتهم quot;، كما قال quot; اشعيا برلين quot;.

[email protected]

1- جاك دريدا: أطياف ماركس، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، المركز الثقافي، بيروت - الدار البيضاء، ط1، 1995، ص - 31.)