لم تعرف أوروبا المسيحية quot;التسامحquot; الدينى والسياسى إلا فى القرن السابع عشر، ولم تدرك أنه فضيلة إلا منذ القرن السادس عشر، بعد أن دمرت الحروب الطائفية العديد من المدن والقرى وقضت على مئات الألوف من سكانها. ولم يكن هناك مخرج من جنون الحروب الدموية إلا باجتراح quot;معادلة عقلانيةquot; يحتكم إلى منطقها فى فصل المقال (أو المقام) فيما بين الدين والسياسة من اتصال، حسب المفكر السوري هاشم صالح. وهنا فقط بدأ الفلاسفة فى التساؤل: لماذا حدث ذلك؟.. لماذا مزق الكاثوليك والبروتستانت بعضهم بعضاً، وهم ينتمون إلى دين واحد، وكتاب واحد؟.. هل هناك من طريقة أخرى لفهم الدين غير هذه الطريقة المتعصبة الملونة بلون الدم؟
ذلك أن quot; التسامج quot; هو المقدمة المنطقية للديموقراطية، أو كما يقول الفيلسوف الفرنسى quot; ادجار موران quot;: فإن التسامح ضرورة ديمقراطية، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار، وتندثر بصراع الأجساد. والديمقراطية هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية: الأول هو quot; التسامح quot;، والمبدأ الثانى هو ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. والمبدأ الثالث هو quot; المساواة والعدالة quot;. وهى مبادئ لا يمكن ضمانها إلا فى نظام تمثيلى برلمانى. وترد أساسا إلى ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك فيما يخص المبدأ الأول، ثم جون لوك ومونتسيكيو فيما يخص المبدأ الثانى، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث.
بيد أن هذه المبادئ والأفكار الفلسفية لم تكن لتنجح دون quot; إرادة سياسية قوية quot;، فقد تزامنت ورافقت وأعقبت مواقف السياسيين المستنيرين في أوربا، وإدراكهم العواقب الوخيمة لعدم التسامح. وعندما أصبح واضحاً أن فرض التجانس الطائفى فى كل أنحاء الدولة يتعارض مع الأمن المدنى تخلى الحكام المستنيرون عن هذه السياسة ومنحوا رعاياهم quot;مراسيم سياسة التسامحquot;.
وبدءا من عام 1598 منح ملك فرنسا quot;هنرى الرابعquot; رعاياه الكالفنيين الحق فى الممارسة الحرة لديانتهم بموجب quot; مرسوم نانت quot;. ومع ذلك فإن الشروط التى تضمنها هذا المرسوم تظهر أن الملك قد أخذ فى حسبانه الموقف المتعصب لرعاياه الكاثوليك. إن إلغاء مرسوم quot;نانتquot; سنة 1685 فى ظل حكم الملك quot;لويس الرابع عشرquot; يظهر بوضوح أكثر من المرسوم نفسه كم أصبحت سياسة التسامح الدينى ضرورية بالنسبة إلى الأمن الاجتماعى فى العصر الذى كانت فيه فرنسا ضعيفة وفقيرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فى حين أن البلدان التى استقبلت هؤلاء اللاجئين جنت فوائد ضخمة من هذه السياسة.
فقد صدر مرسوم فى quot;بوتسدامquot; يلزم اللوثريين بالتسامح مع الاصلاحيين من أخوتهم فى الدين، وكان من بين الخدم المدنيين للدولة البروسية عدد هائل من الفرنسيين البروتستانت. وأثبت فريدريك الكبير أنه عادل ومتسامح كجده. وفى عدد من الكتابات المختلفة كان يزكى سياسة التسامح الدينى ويصفها بأنها قاعدة الحكمة السياسية.
وفى سنة 1740، كتب رداً على سؤال الإدارة الحكومية حول هل بوسع الكاثوليكى أن يكتسب الحقوق المدنية، ما يلي: quot; أن كل الأديان جيدة بالتساوى، وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها أن يكونوا صادقين. ولو أراد الأتراك والوثينون أن يجيئوا إلينا ويقطنوا فى بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل امرئ فى مملكتى حر فى أن يؤمن بما يريد وحسبه أن يكون صادقا ًquot;. هكذا نجد أن سياسة التسامح التى أيدها فريدريك الكبير لم تقتصر على المسيحيين فقط وإنما امتدت إلى الأديان السماوية الأخرى بل والأديان الوثنية، كما امتدت إلى البلدان الأوربية الأخرى وإن كانت انجلترا لم تعترف رسمياً بالتسامح المذهبى تجاه الكاثوليك إلا فى سنة 1829، ثم تجاه اليهود سنة 1842، والملحدين سنة 1888.
وفريدريك الكبير هو القرين الغربى لملك سيام في الشرق، ولهذا الملك قصة: ففى القرن السابع عشر، أراد لويس الرابع عشر توطيد العلاقات التجارية مع بلاد سيام، ليبشر هناك بالدين المسيحى، حسب رواية بول هازار فى كتابه quot;أزمة الضمير الأوروبىquot;، وعرض على ملك سيام أن يتقبل الدين الجديد، فأجاب بأنه: quot;لو شاءت العناية الإلهية أن يسود العالم دين واحد، فما كان أيسر من quot;تنفيذ ذلك الغرض. ولكن حيث أن الله يسمح بوجود أديان مختلفة، فينبغى أن يستنتج أنه يؤثر أن يسبح بحمده عدد لا يحصى من المخلوقات، كل يمجده طبقاً لأصوله الخاصة، فدهش الفرنسيون عندما سمعوا هذه الكلمات، إذ أن ملك سيام الذى لا يعرف شيئاً عن علوم أوروبا، وبالرغم من ذلك، شرح فى قوة ووضوح ما تدين به الفلسفة. مما يؤكد أن التسامح كمفهوم انسانى هو بنية عقلية وحالة ذهنية فى المقام الأول لا يرتبط بدين معين أو بشرق أو غرب.
ملحوظة: مليون مبروك لشعب العراق، الذي تعمد بالدم، نجاح تجربته في المرور من المرحلة الطائفية إلي المرحلة الوطنية (الديموقراطية)، وقريبا جدا سنهنئ أنفسنا بإنجاز عملية quot;العبورquot;.