quot;كل الأشياء المعمرة، كل الأشياء التي تعيش زمنًا طويلاً، يغطيها العقل شيئًا فشيئًا إلى درجة أنها تنغمس فيه كليًا فتبدو كأنها عقلانية خالصة. ويصبح أصلها أو منشؤها اللاعقلاني شيئًا لا يمكن تصوره. ألا يبدو الكشف عن التاريخ الدقيق لأصل ما، وبشكل شبه دائم تقريبًا، إما أنه غير قابل للتصديق، وإما أنه تدنيس للمقدسات؟quot; [نيتشه] (فجر - الفقرة الأولى)
أغنى القرن التاسع عشر دلالات مصطلح quot;الأصلquot;، فقد اكتسب مضمونًا جديدًا في مؤلفات عالم البيولوجيا الإنجليزي quot;تشارلز داروينquot; (1809 - 1882) خاصة كتابه quot;أصل الأنواعquot; - The Origin of Species عام 1859، الذي أكد فيه: quot;إننا لو تمكننا من معرفة شجرة أصول الجماعات البشرية، فسيكون في مقدورنا أن نستنبط الشجرة التي تربط اللغاتquot; ولم يحاول أحد كما يقول سفورزا - أن يقوم بهذه المهمة حتى عام 1988. يقول داروين: quot;أن النظام الطبيعي (للتقسيم) نسبي في ترتيبه، يشبه شجرة النسب، وقد يكون من المفيد أن نوضح فكرة التقسيم هذه بأن ننظر في قضية اللغات. لو أنا تمكننا من شجرة نسب مثالية، فإن ترتيب أنساب سلالات الإنسان سيوفر أفضل تقسيم للغات المختلفة التي يتحدث بها البشر اليوم في أنحاء العالم، ولو أننا أدرجنا كل اللغات المنقرضة، وكل اللهجات المحلية والوسيطة التي تتغير ببطء فسيكون مثل هذا الترتيب هو الوحيد الممكنquot;(1)
وقد أثرت نظرية داروين في أصل الأنواع الحية وتطورها تأثيرًا واضحًا على الفكر الفلسفي الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى أن نيتشه قد جعل منها عنوانًا لأهم كتبه: quot;أصل الأخلاقquot; Zur Genealogie der Moral عام 1887.
ومنذ نيتشه أصبح مصطلح - Geacute;neacute;alogie يعني في الخطاب الفلسفي عمومًا تتبع أصول موضوع ما أو فكرة، وتقديم عرض تاريخي متسلسل لظهوره ونشأته وتطوره، والغاية من ذلك إنما رغبة في تبريره وإضفاء طابع المعقولية والمشروعية عليه، وهذا هو المنظور الذي أصبح كلاسيكيًا، وأما انتقاده وإبراز طبيعته النسبية لغاية الحط من القيمة المعطاه له، فهذا هو المنظور الجديد. فإذا كان في الاستعمال المألوف لمصطلح quot;جنيالوجياquot; قد تغلبت فكرة التنقيب والتقصي التاريخي في حقل الاستنساب عمومًا، من أجل التعرف على أصل ينظر إليه على أنه مصدر للنقاء والشرف وللقوة، فإننا نلاحظ مع داروين في ميدان البيولوجيا، ومع نيتشه في ميدان الأخلاق، أن دلالة المصطلح أصبحت لها وظيفة أميل إلى quot;النقدquot; بحيث يبدو وكأنه غاية quot;الجنيالوجياquot; وهي تبحث عن quot;النشأةquot; و quot;الأصولquot;، باتت بالأحرى، هي تذكير الإنسان بحقيقة كونه كائنًا متناهيًا، وبأن دعائمه الأخلاقية والثقافية لها تاريخ وبالتالي فهي ذات طابع quot;نسبيquot;.
بيد أن مسألة quot;الأصلquot; و quot;الأساسquot; كانت نقطة الانطلاق عند نيتشه من أجل تجاوز الميتافيزيقا أساسًا، ذلك أن الميتافيزيقا ذاتها تنظر إلى quot;الأصلquot; على أنه موطن الأشياء، فهو النقطة البعيدة التي تسبق كل معرفة إيجابية، والتي تجعل المعارف quot;ممكنةquot;، من هنا تبدو ضرورة تجاوز الميتافيزيقا، وصعوبة هذا التجاوز في الوقت نفسه.
يقول نيتشه: quot;لقد بلغ الإنسان درجة ثقافية بالغة السمو عندما تمكن من نبذ الأفكار الخرافية، فهو لم يعد يؤمن - على سبيل المثال - بالخطيئة الأصلية Peccatum Originans، بل أنه أصبح يمقت الحديث حتى عن خلود النفس. لكن عليه أيضًا بعد أن بلغ هذه الدرجة من التحرر، أن يقهر الميتافيزيقا حتى لو تطلب ذلك منه أكبر مجهود فكري.
غير أن ذلك يقتضي بالضرورة رجوعًا إلى الوراء. إن عليه أن يدرك التبريرات التاريخية والنفسية للتأملات الميتافيزيقية، وعليه أن يدرك أيضًا أن الإنسانية قد أفادت أكبر إفادة من الميتافيزيقا، وكيف أن هذا الرجوع إلى الوراء هو الكفيل وحده بأن يصون أسمى ما حصلت عليه الإنسانية حتى اليوم.
إنني ألحظ اليوم، فيما يخص الميتافيزيقا، أن عدد الذين يقولون بسلبيتها، ويؤكدون أنها مجرد خطأ في تزايد مستمر. ولكنهم قلة أولئك الذين يصعدون عندما ينزلون خطوات إلى الوراء. ويبدو أن هناك من يقبل أن ينظر إلى الوراء من أعلى، ولكن لا أحد يريد النزول.
إن ألمع المفكرين لا ينزلون إلا بمقدار ما يسمح لهم ذلك بأن يتخلصوا من الميتافيزيقا ويلقوا من ورائهم بنظرة تنم عن نوع من الاستعلاء. إلا أنه من الضروري هنا، مثلما هو الشأن في حلقة السباق، إتمام حلقة الدوران لإنهاء السباق.(2)
هذا الاقتباس، على طوله، يكشف عما يقصده quot;نيتشهquot; بـ quot;الرجوع إلى الوراءquot;، والعودة إلى الأصول، وهو ما أسماه بـ quot;الجنيالوجياquot; - Genaelogie، التي ستتخذ عند اتباعه من فلاسفة ما بعد الحداثة أسماء مختلفة، بدءًا من الاستذكار أو التذكر عند quot;هيدجرquot;، وquot;التفكيكquot; Deconstruction عند quot;دريداquot; و quot;الحفرياتquot; lrsquo;archeologie عند quot;فوكوquot;، وكلها محاولات لإقامة مجاوزة فعلية للميتافيزيقا لا تقتصر على اتهامها من الخارج(3) وذلك من خلال قراءة معينة لـ quot;نيتشهquot;.
والمعنى الحرفي لكلمة quot;جنيالوجياquot; Genealogie، هو دراسة النشأة والتكوين لإثبات النسب، والوقوف عند الأصل، وهذا ما أكده نيتشه في مقدمة كتابه Zur Genealogie der Moral quot;أصل الأخلاقquot; حيث يقول: quot;إن الأمر يتعلق هنا بتأملات حول أصل أحكامنا الأخلاقية المسبقةquot;(4)
ومن هنا فإن المعنى المباشر لـ quot;جنيالوجياquot; الميتافيزيقا، هو دراسة نشأة الميتافيزيقا، والقيام بعرض تاريخي للوقوف عند الأصل الذي صدرته عنه، ذلك الأصل الذي غذاها منذ البداية فطبعها بطبعه.
إلا أن quot;نيتشهquot; حاول أن يتجاوز هذا المعنى بالضبط إلى ما هو أعمق من ذلك، فهو يؤكد على أنها الميتافيزيقا ذاتها، التي تظهر من جديد لتوهمنا بأن أهم ما في الأشياء وأكثرها قيمة يكمن في بداياتها وأصولها.
يقول quot;هيدجرquot; في كتابه عن quot;نيتشهquot;: quot;لا يعني الأصل هنا السؤال: من أين صدرت الأشياء؟ hellip; بل أيضًا كيف تكونت؟.. إنه يعني الكيفية التي تكون عليها، فلا يدل الأصل أبدًا على النشأة التاريخية التجريبية.(5)
وعلى ذلك فإن المقصود من الجنيالوجيا ليس إثبات الأصل التاريخي، أو الوقوف عند لحظة أولى تحددت فيها خصائص الميتافيزيقا وتعينت ماهيتها، كذلك ليس المقصود تمجيد البدايات أو الأصول، إذ أن ذلك سيغرقنا في دراسة الميتافيزيقا ذاتها التي تزعم بأن الأشياء كانت كاملة في بداياتها، وإنما المقصود شيء آخر يقول quot;فوكوquot;: quot;إذا أولى الجنيالوجي عنايته إلى الإصغاء إلى التاريخ بدلاً من الثقة في الميتافيزيقا سيدرك أن وراء الأشياء هناك quot;شئ آخر، لكنه ليس السر الجوهري الخالد للأشياء، بل سر كونها بدون سر جوهري، وكونها بدون ماهية أو كون ماهياتها قد نشأت شيئًا فشيئًا انطلاقًا من أشياء غريبة عنها فما نجده عند البداية التاريخية للأشياء، ليس هوية أصلها المحفوظ، وإنما تبعثر أشياء أخرى، إننا نجد التعدد والتشتتquot;(6)
وهذا هو ما عناه quot;نيتشهquot; حين قال quot;بمعرفة الأصل تزداد تفاهة الأصلquot;، لذا فإن هدف الجنيالوجيا ليس استعادة جذور الهوية، وإنما القضاء عليها، وهو ما يجعلها تقف في مقابل الميتافيزيقا، ليصبح تاريخها هو التاريخ المضاد للتاريخ الميتافيزيقي.
الهوامش
1 - لويجي لوقا كافاللي - سفورزا: الجينات والشعوب واللغات، ترجمة: أحمد مستجير، المشروع القومي للترجمة (205)، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص ص - 178 و 179.
2 - نيتشه: إنساني مفرط في إنسانيته، ص ndash; 44.
3 - عبد السلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفي المعاصر hellip; مجاوزة الميتافيزيقا، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1991، ص - 19.
4 - نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها.
5 - عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص - 26.
6 - Faucault: Nictzsche, La genealogie et lrsquo;histoire, in Homm age Hyppolite, P. U. F., 1971, P. 184.
عن عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص - 27.