....، من الفنون القولية أيضا، التي كانت معروفة في القهاوي: (فن القافية) وهي مباراة كلامية بين شخصين، يتميزان بخفة الظل وسرعة البديهة واللماحية وطلاقة اللسان والقفشة الساخرة، يقول الأول كلاما لاذعا في وصف الثاني، فيرد الثاني عليه بكلمة (اشمعني) وهي اختصار quot; أيش معني quot;، فيرد الأول عليه ردا ساخرا.... وهكذا، إلي أن يفحم أحدهما الآخر، وسط ضحكات وقهقهات رواد القهوة.
ومن زعماء (فن القافية) في حي الجمالية بالقاهرة: الأديب الكبير laquo;نجيب محفوظraquo;، وقلده هذه الزعامة في الثلاثينيات من القرن العشرين، الحاج فهمي الفيشاوي صاحب قهوة quot; الفيشاوي quot; بميدان سيدنا الحسين. وكان الحاج فهمي نفسه فتوة حي الجمالية يوما ما، وعنه أخذ نجيب محفوظ شخصية الفتوة الشهم في معظم رواياته، الذي يحمي الضعفاء من الظلم والبطش، وأيضا شخصية السيد أحمد عبدالجواد (سي السيد) في الثلاثية.
وقد نصح محفوظ الفنان يحيي شاهين قبل أن يؤدي دوره في فيلم (بين القصرين) عام 1963، بالاقتراب من الحاج فهمي دون أن يشعره بذلك، حتي يتقمص شخصيته في السينما، واستمر شاهين يراقب الحاج فهمي في سكناته وحركاته مدة شهر كامل، حتي استلهمها تماما.
أما قهاوي وسط البلد، وتوجد بين منطقة الأزبكية مرورا بميدان الأوبرا وحتي ميدان التحرير، فهي خاصة بالفن والأدب والصحافة والطرب، وتشبه قهاوي العواصم الثقافية الكبري في أوروبا: باريس والحي اللاتيني ومونمارت ومونبارس، التي نالت شهرتها من كبار المفكرين والأدباء الذين كانوا يرتادونها أمثال: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وغيرهما. وفي ألمانيا، حيث كان نابليون بونابرت يجلس في قهوة أبولدا، وكتب جوته رائعته quot; فاوست quot; في quot; قبو أولباخ quot;، وصب مارتن لوثر كينج جام غضبه في منشوره الشهير علي قهوة quot; فايمار quot;. وفي لندن، حيث القهاوي ماتزال منذ العصر الفكتوري تعلق صور العظماء الذين أرتادوها أمثال لورد بايرون وشيللي وغيرهما.
ولعبت قهاوي وسط البلد دورا تاريخيا في الحياة الثقافية والسياسية المصرية، وارتادها جمال الدين الأفغاني وبيرم التونسي وأحمد رامي وسيد درويش ونجيب الريحاني وبديعة مصابني ومحمد التابعي وعلي ومصطفي أمين وزكي طليمات وجورج أبيض والسيدة روز اليوسف، وفيها لحن سيد درويش رواية quot; العشرة الطيبة quot; وكتب بديع خيري معظم مسرحيات الريحاني.
وكان الرقص الشرقي من الفنون الأساسية التي تقدم في القهاوي بالإسكندرية مرورا بالدلتا وحتي القاهرة، من خلال الغوازي والعوالم، والفرق بينهما في درجة الاحتشام والثقافة، فالعالمة كانت تسلك سلوكا أكثر وقارا حتي في العري، وهي تتميز بأن لها علم بالموسيقى والألحان والعزف على العود، وأحياناً كانت تحفظ العالمة بعض القصائد والأشعار التي تقوم بغنائها إطراباً للمستمعين، فضلاً عن الرقص طبعا. أما الغازية فهي تخاطب غرائز الرواد فقط لزوم الفرفشة والأنس، ويصاحبها أحيانا شخص يسمي quot; الخلبوص quot;، يأتي بحركات خليعة أثناء الرقص وكثير من الإفيهات الجنسية، ومن أشهر هذه الرقصات رقصة quot; النحلة quot;.
وكانت الغازية تؤدي هذه الرقصة علي أنغام الموسيقي الصاخبة التي تصاحب الزار وهي تتلوي من لسع النحل الموهوم، وتغني quot; النحل يا هوووه... يا ناس حوشوووه quot;. وأمر محمد علي باشا بمنع هذه الرقصة من قهاوي القاهرة، وكان فرمان المنع هو أول قرار بالمصادرة والحظر في تاريخ مصر الحديث، لتتوالي من بعده القائمة السوداء.
وربما كان متأثرا في هذا القرار بمنع حكومة فرنسا وقتئذ لرقصة (الفرنش كونكون)، لكن علي حين أدركت فرنسا خطأها ورفعت الرقابة سريعا، و اعتبرت مواطنيها راشدين بما فيه الكفاية، لان يميزوا وبحرية تامة بين الصواب والخطأ، اتخذ المنع والحظر والمصادرة في مصر أشكالا أخري، وآخرها قضايا الحسبة. (قبل أيام رفعت دعاوى قضائية تطالب بسحب جائزة الدولة التقديرية التي حصل عليها د. سيد القمني في العلوم الاجتماعية للعام الحالي 2009).
وتوجد قهوتان شهدتا رقصات الغوازي، الأولي في باب اللوق وعرفت باسم quot; خمسة باب quot; ومنها جاء اسم الفيلم الذي أحدث ضجة في الثمانينيات بطولة نادية الجندي وعادل امام، وسميت هذه القهوة ب quot; الحرية quot; فيما بعد، وكان يرتادها طلاب الجامعة الأمريكية قبل نقلها إلي مدينة القاهرة الجديدة. كما توجد قهوة أخري وسط البلد أطلق عليها العملاق صلاح جاهين اسم quot; قهوة النشاط quot; وفيها استقي شخصياته الكاريكاتورية وكتب أجمل أشعاره العامية الساخرة، حيث كان معظم روادها من العواطلية والبصاصين علي النساء من المارة، وأصحاب المعاشات.
وقد سميت بعض قهاوي القاهرة بأسماء خاصة تدل علي نشاطها أو طبيعة روادها، فكانت توجد قهوة في شارع الأزهر تسمي قهوة quot; أفندية quot;، مثلت التمازج بين الأفندية من أصحاب الياقات البيضاء والمشايخ سابقا، وقهوة quot; البورصة quot; وهي خاصة بالتجار والمضاربين في بورصة القطن، وفيها كانت تدار حركة الأموال والأسهم، كما وجدت قهاو بأسماء أصحابها كالفيشاوي وquot; يني quot; وquot; ريكس quot; وquot; عبدالله quot; وغيرها.
كما توجد قهوة في شارع عرابي بوسط البلد ما يزال يستمع فيها الرواد للحفلات الحية لسيدة الغناء العربي، وهي تحمل اسم quot; أم كلثوم quot;، وعلي بعد خطوات منها قهوة quot; الفن quot; التي تقع أمام مسرح الريحاني بشارع عماد الدين، وهي خاصة بالكومبارس والريجيسترات ومتعهدي حفلات الفنانيين، حتي اليوم.
وأشهر قهاوي المثقفين، هي: quot; ريش quot; التي أعيد افتتاحها أخيرا، و quot; زهرة البستان quot;، و quot; علي بابا quot;، والجلسة الثقافية، و quot; التكعيبة quot; الذى يجلس عليها الأدباء الشبان، وغيرهم.
أما أغرب هذه القهاوي فقد كانت توجد في حارة quot; حلقوم الجمل quot; بشارع الأزهر، وعرفت بصراع الديوك الهندية، وهو فن يشبه مصارعة الثيران في أسبانيا، ونطاح الكباش بشمال إفريقيا والشام. والديك الهندي يختلف عن الديك البلدي في ان حجمه ضامر يتميز بالرشاقة وخفة الحركة والشراسة والقدرة علي العراك إلي حد الموت، ونتيجة لكثرة المشاحنات والحوادث بين المتراهنين وأصحاب هذه الديوك، منعت الحكومة المصرية صراع الديوك بالقهاوي.
bull;من مقدمة كتابي: quot; القاهرة سابقا quot;، تحت الطبع.
[email protected]