اقترن التدخين بالخمور والمخدرات، وبشرب القهوة أيضا. منذ أيام على باشا الخادم الوالى العثمانى على مصر فى القرن العاشر الهجرى (السادس عشر الميلادي)، ولم يكن التدخين معروفا قبل ذلك التاريخ، وقد عرف quot;شبكquot; الدخان أولا، ووصفه (كلوت بك) رائد مدرسة الطب المصرية فى عهد محمد على فى كتابه quot;لمحة عامة عن مصرquot; بأنه يتألف من أجزاء وهى الفم والأنبوبة والجوزة، وهو قريب الشبه بالغليون. ثم ظهرت الشيشة، والشيشة تعنى الزجاج فى اللغة الفارسية، والفرق بينهما اقتصادى طبقى، فالأولى تصنع من خشب جوزة الهند المجوفة وهى خاصة بالعامة والدهماء، أما الشيشة فتخص الطبقة الميسورة وهى أشكال وأحجام وأنواع.
وقد منع الدخان أول الأمر فى بر مصر وهدد بإعدام من يشربه، ثم خفف هذا الحكم بعد أن أكتفى شاه عباس الحاكم quot;بخوزقةquot; شاربى القهوة والدخان، وانتهى الأمر بأن أدمن هو نفسه الدخان. وعرفت أماكن شرب القهوة بالقهاوى، رغم إصرار المتقعرين من حراس لغة الضاد بأنها quot;مقهىquot; وليست قهوة، كما اشتق منها الاسم فى اللغات اللاتينية أيضا، واستخدمت كلمة quot; كافيهquot; لتدل على القهوة والمكان الذى تقدم فيه كمشروب، وصولا لقهاوى الإنترنت اليوم quot;نت كافيهquot;، حيث تم الإجهاز على الحد الفاصل بين لفظتى (القهوة والمقهى) بـquot;لاتونتquot; اللغة العربية، أى كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية.
والقهوة مكان فسيح مفتوح الأبواب، من سماته وجود ما يعرف بالنصبة، وهى جزء مرتفع عن الأرض توضع عليه لوازم المشاريب، كالكنك والأكواب والشيش والحجر (وعاء المعسل والفحم المشتعل) والسناقر (جمع سنقر وهو غلاية المياه) والأباريق وquot;البكرجquot; وهو شئ شبيه بالبراد الكبير، إلى جانب الكراسى والترابيزات (الطاولات) ووسائل التسلية والضجيج.
وكانت القهاوى فى الأصل مكانا للقاء الصحبة خارج البيوت، لأن بيوت الشرق عموما لها خصوصيتها وحرمتها، ثم تطور الأمر فأصبحت مكانا للتسلية والمسامرات والمناسبات، ومن ثم واجهت القهوة كمان ما واجهته كمشروب، حيث اعتبرت ألعاب التسلية بالقهوة كالنرد والشطرنج من المحرمات، فضلا عن الدومينو والطاولة والكوتشينة فيما بعد، التى ارتبطت فى الأذهان بلعب القمار والرهان والحظ.
كان ارتياد القهاوى مباحا لكل طبقات الناس، ووجدت إلى جانب القهاوى العامة قهاوى لفئات وطوائف ومهن معينة، فهناك قهاوى لعلماء الأزهر والمشايخ العلماء، وهناك قهاوى للأفندية أصحاب الطرابيش من الموظفين، كما وجدت قهاوى لأصحاب الحرف والمهن المختلفة كعمال المعمار والمنجدين والنجارين وغيرهم.
بيد أن الطبقة العليا فى المجتمع المصرى لم تكن تبيح لنفسها ارتياد القهاوى العامة، وكانت ترى فى ذلك انتقاصا من هيبتها ووقارها، ولاحظ ذلك علماء الحملة الفرنسية وسجلوه فى كتاب quot;وصف مصرquot; الذي يحتفل العالم هذه الأيام بمرور 200 سنة علي تأليفه.
وظل هذا التقليد معترفا به حتى بدايات القرن العشرين فقد عرف أن الزعيم الشاب مصطفى كامل كان يجلس فى دكان quot;شربتلىquot; فى باب الخلق، وأن أمير الشعراء أحمد شوقى كان يجلس فى محل حلوانى. ولم يكن مباحا جلوس النساء فى القهاوى حتى بعد ظهور الحركة النسائية فى مصر، وعاب كثيرون على الصحفى الشهير الدكتور محمود عزمى رائد حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي، أنه كان يجلس مع زوجته وهى روسية الأصل فى قهوة quot;بار اللواءquot;.
ولم تخلو القهاوى من فن من الفنون السائدة وقتئذ وهى: السير الشعبية التى يرويها شاعر الربابة، والرقص والغناء، وألعاب خيال الظل وفنون الأدباتية التى كانت تقدم بأسلوب زجلى. وكان العبقري بيرم التونسى أول من جعل من الأرغول فنا مكتوبا فى العام 1924 ونقل هذا الفن إلى الغناء، وغنت له سيدة الغناء العربى أم كلثوم quot;الأولة فى الغرام والحب شبكونى، والثانية بالامتثال والصبر أمرونى، والثالثة من غير معاد راحوا وفاتونى، فى حديقة الأزبكية سنة 1947، ومن ألحان الشيخ زكريا أحمد.
وبالمناسبة، هذه الأغنية كتبها بيرم التونسي بالأتفاق مع أم كلثوم في مناسبة وفاة إبن الشيخ زكريا أحمد، الذي تلقي الخبر المفجع ساهما شاردا لأيام، دون أن يزرف دمعة واحدة علي وحيده، فخافت عليه ودبرت حيلة مع بيرم لإخراجه من هذه الحالة، الذي جاء بعد يومين من الإسكندرية لتقديم واجب العزاء quot; شعرا quot;، وألحت الست علي الشيخ زكريا أن يحتضن العود ويدندن لأجل خاطرها وهو يسمع بيرم، وما أن وصل الأخير إلي الشطر القائل : حطيت علي القلب أيدي وأنا بأودع وحيدي، وأقول يا عين أسعفيني يا عين وبالدمع جودي، حتي أنفجر ثلاثتهم بالبكاء الغزير... وأنتهي الأمر بميلاد هذه الأغنية الفريدة في تاريخ الغناء العربي.
http://www.4shared.com/file/50530749/16880c57/____-__.html?s=1
التعليقات