في أوائل عام 1987 دعاني أحد الأصدقاء لحضور (فرح شعبي) في منطقة quot; شبرا الخيمة quot; شمال مدينة القاهرة، إحدي قلاع الصناعة المصرية التي تحولت بمرور الوقت، إلي أكبر منطقة عشوائية في محافظة القاهرة الكبري، بسبب الانفجار السكاني وأشياء أخري.
كان دليلنا إلي شادر الفرح في تلك الليلة القمرية من شتاء شهر طوبة، أشعة الدخان الملون والمتجه صوب السماء، وأصوات عالية تنبعث من بعيد ممتزجة بالموسيقي الصاخبة... صرخ صديقي في أذني وهو يقدمني للحاج علي البلطي : أكبر معلمين البلاستيك...... و....... و........؟؟؟
أومأت برأسي مبتسما لأقنعه أنني سمعته، وجلست علي طاولة كبير المعلمين وهي تحتل موقعا استراتيجيا طبعا. تحت الطاولة كانت تقبع كل أنواع الخمور الأمريكاني وصناديق البيرة المصرية ماركة (ستيلا)، وفوقها كانت أطقم من سجائر الحشيش الزيت مرصوصة كأسنان المشط، وبقايا أكل وأكواب وروزمة فلوس.
فوق المسرح الذي يضج بالكهارب الملونة ولمبات النيون، كان يغني شاب نحيف بين راقصتين ممتلئتين، علي رأس كل منهما (قلة) تخرج منها أصابع مضاءة بالشموع، لم يكمل جملة لحنية واحدة علي الاطلاق، حيث كان يقطعها عامدا ليمسك مبلغا من المال (يسمي النقطة) ويبدأ في تحية الراسل والمرسل إليه (صاحب الليلة) ذاكرا البلد والعائلة والمهنة ونوع التحية وقيمة المبلغ وهو يرفعه بيده إلي أعلي ليراه الجميع، ثم يطلب من الفرقة الموسيقية عزف مقطع معين أو مطلع أغنية مهداة من صاحب النقطة.
وأذكر انني عرفت كل شئ عن المعلم البلطي وتعرفت علي معظم المعازيم وأصحاب النقوط، من هذا المغني الذي قدم وصفا تفصيليا للجميع بلا استثناء، مشفوعا بوافر التحيات والسلامات والاهداءات، بينما كانوا يتسابقون في المجاملة وتقديم النقوط، ردا علي مجاملة سابقة لصاحب الليلة أو استباقا لمجاملة قادمة في الطريق، كل حسب وزنه وقدره، علي ما قسم ndash; وأحيانا تقدم النقطة علي مراحل- حتي نفدت روزمة الفلوس التي كانت أمامي علي الطاولة، وأنا أدعي تجاهل الأمر.
ما بدد دهشتي صوت البلطي نفسه : ده رابع عيل يطاهره ابن الرفضي السنة دي (يقصد صاحب الليلة)... تصور يا أستاذ كل بت من بناته تولد يعملها شادر في الحتة ويلم نقطة (كد كده) لحد ما بني العمارة من فلوسنا، غير المكن (يقصد الموتسيكلات) الي اشتراه من (أروبة) وفتح بيه المعرض أول الشارع.
في الهزيع الرابع من الليل توقفت سيارة صديقي علي كورنيش النيل، ليقضي حاجته علي جنب بفعل البيرة، ويكمل لي ما بدأه البلطي، مؤكدا : أن الناس في بر مصر دأبت علي استخدم حيلة quot; النقطة quot; وquot; الجمعية quot; في كل شئ اليوم، وهي حيلة أصبح يستخدمها الغني والفقير، في فك ضائقتهم المالية وزواج أبنائهم وشراء ما يفوق قدراتهم، وهي عبقرية المصريين في التضامن الاجتماعي، والتراحم والتعاون ومساعدة بعضهم البعض، دون معونة من الحكومة أو الاستدانة من البنوك التي ترهق كاهلهم بالفوائد والأقساط.
تذكرت هذه الليلة مرتين : الأولي عند مشاهدتي لفيلم quot; اللمبي quot; عام 2002 للموهوب محمد سعد، وهو أول فيلم يرصد بدقة ظاهرة (النقطة) بكل أبعادها وتجلياتها، كحل اجتماعي يلجأ إليه من تعوزه الحاجة، من باب : يوم لك ويوم عليك... وقدم السبت تجد الأحد... النهاردة عندي وبكرة عندك..... والأمثلة تطول، لكنها في النهاية تؤكد علي أن النقطة هي نوع من quot; الدين quot; الذي يجب رده أو دفعه يوما ما حين تأتي مناسبه شبيهة أو ما يشابهها.
فقد وقف اللمبي حائرا أمام مأزق تعرض له عندما طالبه أحد الديانة بدفع مبلغ عشرين ألف جنية (في توقيت معين) سبق وأن استدان بها في صورة شيكات وإلا حبسه، وحين سدت السبل في وجهه ذكره صديقه (باخ) الممثل حسن حسني بأن لوالده المتوفي دين عند الكثيرين، عبارة عن نقوط جاملهم بها، وهي مدونة بالتفصيل في كشكول أصفر عليه أن يجده، وبعثوره علي هذا الكشكول أعلن زفافه، ودعا أهل حتته وأصحاب والده إلي الفرح، حتي يردوا (ضمنيا) ما عليهم من دين، وبذلك ضرب عصفورين بحجر واحد : سدد ديونه وتزوج من حبيبته.
هذا المعني المباشر والعميق لم يلتفت إليه النقاد وقتئذ، وإنما أنهالوا علي الفيلم وبطله بحجة أنه لا يفيق من المخدرات، وأنه تعمد المبالغة في حالة التلعثم حين يتكلم لانتزاع الضحك من المشاهدين، كما أنه شوه أغنية سيدة الغناء العربي أم كلثوم (حب أيه) كلمات الشاعر الرقيق عبدالوهاب محمد وتلحين العبقري بليغ حمدي، حين أداها بطريقته الفجة وهو يتطوح مخمورا بين المعازيم ويرقص مخدرا علي المسرح ليلة زفافه.
أما المرة الثانية التي عادت بي لتلك الليلة الليلاء، فكانت قبل أيام وأنا أشاهد فيلم quot; الفرح quot; المعروض حاليا في دور العرض السينمائية، ويدور حول مجموعة من الأشخاص يعيشون في منطقة شعبية، ويجمعهم حفل زفاف شعبي يقام بهدف واحد فقط هو جمع quot; النقوط quot; لزينهم (الممثل خالد الصاوي) الذي يسعى لشراء ميكروباص، فاختلق أختا وهمية وعرسا وهميا (راقصة وغناء شعبي ومخدرات وخمور) ليتلقى quot;النقوطquot; من سكان المنطقة الذين سبق وجاملهم في أفراحهم.
ما يميز فيلم quot; الفرح quot; أنه كاشف وشفيف إلي حد الوجع، يعبر عن افتقاد المصريين للفرح الحقيقي أو بالأحري احتياجهم للفرحة من القلب، وتحايلهم أو احتيالهم علي الهم والغم والفقر، ولو بإستأجار بعض عناصر الفرح الذي لا يملكونه، ليلة واحدة فقط. وحسنا فعل الثلاثي : أحمد عبدالله (المؤلف) وأحمد السبكي (المنتج) وسامح عبدالعزيز (المخرج)، حين أختاروا بعناية أغنيتين شعبيتين عبرتا عن مضمون الفيلم، وعن الواقع المصري الراهن : الأولي بصوت عبد الباسط حمودة الشجي وهي (أنا مش عارفني)، والثانية للمتألق محمود الحسيني وهي (سيجارة بني)، حيث أكد تقرير الأمم المتحدة لعام 2009 عن المخدرات فى العالم، والصادر قبل أيام : أن مصر أصبحت رقم 12 بين الدول المصدرة للحشيش !
سيجارة بني
http://www.4shared.com/file/75507146/48d007c7/____.html?s=1
[email protected]