كل ضياع هو ذريعة للقاء
فالرسائل الضائعة..
تبتكر على الدوام هذا الذي عليه أن يجدها
(روبرتو خواروث)

يستعير الفيلسوف الفرنسي (الروماني الأصل) quot; بسراب نيكولسكو quot; تعبير quot; الموقف عبر المناهجي quot; - The attitud transdisciplinairty، من الشاعر الأرجنتيني quot;روبرتو خواروثquot;، ويقصد به quot; القابلية الفردية أو الاجتماعية للحفاظ على توجه ثابت لا يتبدل، مهما كان تعقيد وضع الحياة وتقلباتها quot; (1) مشددًا على ضرورة الحفاظ على موقف ثابت، يكفل فاعلية متنامية عند اجتياز مستويات الواقع، ووجدانًا عند اجتياز مستويات الإدراك. وتكمن أهمية هذا الموقف في أن: quot;التوافق بين الذات والموضوع يفترض سلفًا، التناغم بين الفضاء الخارجي للفاعلية والفضاء الداخلي للوجدانquot;(2) وهو يعتبر أن الواقع بمستوياته المختلفة يدل على ذكورة عصرنا، وأن الإدراك بمستوياته المختلفة يدل على أنوثة العالم، وبتناغمهما تتم ولادة ثانية، أو quot; رنيسانس quot; جديد (عصر نهضة جديد).
إن نيكولسكو يعارض بشدة تنامي الذكورة في العالم، ويرى quot;أن كل مشروع حضاري للمستقبل يمر بالضرورة بالتأنيث الاجتماعيquot;(3) وتجنبًا للمجانسة التي تؤدي إلى الاختزال، يقترح اكتشاف روابط اجتماعية جديدة، عن طريق إيجاد quot;معابرquot; - passerelles، وبذلك، فإنه يعتبر: quot;العبر مناهجيةquot; علم وفن اكتشاف المعابرquot;(4) لأن غياب هذه المعابر بين الكائنات والأشياء ينفي إمكانية قيام حوار حقيقي بين أمم الأرض. ولإنشاء معابر كتلك يجب إنجاز ثورة حقيقية للفطنة قادرة على فتح معابر بين الطبيعة والكيان الداخلي للفرد، الفطنة التي قوامها الوجدان، مما يوجب إضفاء بعد شعري للوجود.
من تجليات ذكورة العالم، ظاهرة عبادة الشخصية (الصورة، القناع). أقنعة عدة لوجه واحد، وأنياب كثيرة لشخصية واحدة، بحيث تؤدي تناقضاتها إلى انحلال الكيان الداخلي. وهو يعزو سُعار الاستهلاك في عصرنا إلى هذه التعددية (السلبية). وبالتالي، كلما زادت شخصيات الفرد الواحد زاد استهلاكه، وكلما زاد الاستهلاك تقزمت كينونته. يقول: quot;إن واقعًا متعدد الأبعاد ومتعدد المراجع غير متوافق مع عبادة الشخصية hellip; إن مجتمعًا قابلاً للحياة يمر عبر التوافق المتعدد الأصوات بين الذوات، بين مختلف مستويات إدراكها ومختلف مستويات معرفتهاquot;(5)
وهو يذكرنا بالفيلسوف الألماني المعاصر quot;يورجن هابرماسquot; Habermas (1929) ونظريته في الفعل التواصلي Theory of communicative action التي عنون بها مؤلفه الرئيسي عام 1981، حيث يحاول إعادة بناء منهجية جديدة للاجتماع من خلال الفعل التواصلي.
إن هذا الطموح إلى علم نقدي للمجتمع ولبنيته التواصلية على وجه الخصوص، هو الذي جعله يرفض الكثير من أطروحات النظرية النقدية الأصلية، ممثلة في الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت: هوركهايمر، أدورنو ثم ماركوز، ليفتح آفاقًا جديدة لتوجه - Praxis، أو الفاعلية والنشاط الإنساني، وهو ما أخرجها من عزلتها العلمية والسياسية.(6)
يدعو هابرماس إلى ضرورة التحرر من quot;فلسفة الوعيquot; التي ترى العلاقة بين الفعل واللغة، كالعلاقة بين quot;الذاتquot; وquot;الموضوعquot;، وهو ما يجعلنا أسرى للعقل الأداتي، مؤكدًا على أن الفعل التواصلي هو فعل (لا أداتي) يرمي إلى الوصول إلى الفهم والتفاهم، وأي تفاهم لا يمكن أن يفرض فرضًا من قبل أي من المشاركين في عملية التواصل، وهو ما يفسر لماذا يفشل الحوار غالبا؟.
وعلى ذلك فإن العقل التواصلي هو فعل أساسي لا يمكن اختزاله إلى الفعل الغائي العقلاني الذي ترتبط به quot; فلسفة الوعي quot; منذ ديكارت مرورًا بكانط وهيجل، ويترتب على إعطاء الفعل التواصلي الأولوية عند هابرماس عدة أمور منها:
أولاً: إن العقلانية بهذا المعنى ليست مثالاً نقتنصه من وسط السماء، بل هو موجود في لغتنا ذاتها، وهي تستلزم نسقًا اجتماعيًا ديمقراطيًا يشمل الجميع ولا يستبعد أحدًا، لأن الهدف ليس الهيمنة بل الوصول إلى التفاهم.
ثانيًا: ثمة نظام أخلاقي ضمني يحاول هابرماس الكشف عنه، هو quot;الكلية الأخلاقيةquot;، وهي فكرة مرفوضة عند أنصار ما بعد الحداثة، إذ كيف يمكننا مجرد التفكير - حسب زعمهم - بنظام أخلاقي ينطبق على جميع البشر بشتى مشاربهم وأنماط حياتهم؟quot;(7)
ووجهة نظر هابرماس تتمثل في أنه يمكن التوصل إلى المعايير الأخلاقية عبر نقاش حر عقلاني، تبحث فيه نتائج كل معيار من تلك المعايير الأخلاقية انطلاقًا من خاصيته الكلية، أي القبول والرضا العام عن طريق الاقتناع العقلي لا القوة والقسر، وهو الأمر الذي يكشف بجلاء عن انحيازه للحداثة ودفاعه عنها، إذ أن الحداثة تستدعي أن يقوم النظام الأخلاقي على أساس عقلاني.
وخلاصة رأي هابرماس أن الصيغ الفردية لعقلانية القيمة لا حيلة لها إذا لم ترتبط بمفهوم: quot;الفعل التواصليquot; بين الأفراد حتى يمكن مقاومة القيم التي فرضها العقل بعد تحوله إلى مجرد quot;أداةquot;، وذلك بفضل مجموعة القيم الموضوعية والمتعارف عليها، وصدق quot;توماس مكارثيquot; -McCarthy في تقديمه لكتاب هابرماس: quot;الخطاب الفلسفي للحداثة، حين قال: quot;إن مفتاح موقف هابرماس هو رفض quot;نموذج الوعيquot; المرتبط بفلسفة الذات (ديكارت)، مفضلاً عليه نموذج التفاعل المستمر بين الذوات من خلال الفعل التواصليquot;(8)
غير أن quot;نيكولسكوquot; يطور من مقولة هابرماس الشهيرة: quot; الحداثة مشروع لم يكتمل بعدhellip;quot;(9) في ضوء المعطيات الجديدة للعبر مناهجية، مؤكدًا على أن تغيير منظومتنا الحالية، أو مرجعيتنا التي درجنا عليها، تغييرًا جذريًا، وبناء منظومة جديدة، أمر ممكن. وذلك من خلال (انحراف طفيف)، هو وحده الكفيل بالقيام بهذه الطفرة، يقول: quot;إن منظومة كلية القدرة، اجتماعية أو ثقافية، ليست إذن إلا انحرافًا يفلحquot;(10) ولنجاح هذا الانحراف لابد له من أن يعمل في مستوى للواقع يختلف عن مستوى واقع المنظومة الراهنة. وهو بذلك يعتبر quot;العبر مناهجيةquot; انحرافًا لا انشقاقًا، تاركا تقويم مدى نجاحه للأجيال القادمة. ولكنه في الوقت نفسه، يحذر من العوائق التي قد تعترض طريق quot; العبر مناهجية quot; وأهمها عدم الاعتراف بالتعدد داخل (التعددية)، تعدد مستويات الإدراك وتعدد مستويات الواقع، وهو ما قد يؤدي إلي الأحادية واللبس والخلط في عصر ما بعد الحداثة، أو قل علموية جديدة (المبالغة في تقدير قيمة العلم علي حساب الفاعليات الإنسانية الأخري).
إن العبر مناهجية تقود في النهاية، إلى سمة جديدة هي (التسامح)، الذي quot;ينتج عن اكتشاف وجود أفكار وحقائق (دائما) معاكسة للمبادئ الأساسية لهاquot;(11) مما يعني أن هذه المبادئ ليست مطلقة وإنما نسبية تقبل التعديل والتطوير والتغيير، بإستمرار.
الهوامش:
1 -: نيكولسكو (ب): بيان العبرمناهجية، تقديم: أدونيس، ترجمة: ديمتري أفيرنيوس، دار مكتبة إيزيس، سلسلة quot;آفاقquot; 2، دمشق، 2000، ص - 103.
2 - المرجع نفسه: ص - 104.
3 - المرجع نفسه: ص - 106.
4 - المرجع نفسه: ص - 109.
5 - المرجع نفسه: ص 116.
6 - بول - لوران أسون: مدرسة فرانكفورت، ترجمة: د. سعاد حرب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1990، ص - 121.
7 - إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: د. محمد حسين غلوم، مراجعةquot;: د. محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، العدد 244، الكويت 1999، ص: 350.
8 - Habermas (J): The Philosophical discourse of Modernity - Twelve Lectures, Translated by Fredrick Lawrence, The MIT Press (Cambridge, Massachusetts) 1987, P. X.
9 - Ibid: PreFace.
10 - نيكولسكو: بيان العبرمناهجية: ص - 131.
11 - المرجع نفسه: ص - 143.

عصام عبدالله
[email protected]