التحديات المختلفة التي تجابهها الصحافة العربية اليوم، هي محور اللقاء السنوي لجريدة quot;الاتحادquot; الإماراتية، الذي سيعقد بعد أيام في أبو ظبي، متزامنا مع الذكري الأربعين ( 1969 ndash; 2009 ) لصدورها، فما هي أبرز هذه التحديات؟ وكيف يمكن مجابهتها؟.
منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومع ظهور laquo;الصحافةraquo; في العالم، بدأ ما يعرف بـ laquo;تسريع الوقت الاجتماعيraquo;. حيث أشركت الصحافة مجتمعات متباعدة في نفس الأحداث، بنشرها أخبار العالم بشكل مستمر، فشكلت بذلك أول محاولة laquo;للتوحيد الزمنيraquo; للعالم، وخلق quot;همquot; انساني عام.
ثم ظهرت laquo;الإذاعةraquo; لتدخل وسائل الإعلام عصر laquo;الحدث المباشرraquo; أو laquo;آنية الحدثraquo;، ثم أكمل ظهور التليفزيون الدائرة، عن طريق البث المباشر للصورة، وهو ما سمح بنقل الحدث في laquo;الزمن الحقيقيraquo;، وإن شئت الدقة فإن التليفزيون أحضر العالم كله أمام الإنسان، فأحدث هذا الشكل الاتصالي تحولاً حاسمًا في مجال الإعلام، وحقق بالفعل هدف laquo;الصحافةraquo; الأساس.
غير أن الصحافة حققت ما هو أكثر من ذلك، إذ أنها ظلت لعقود طويلة من الزمن ملجأ للمواطنين في وجه تجاوزات السلطات ضمن إطار ديمقراطي hellip; لذا عرفت بـ laquo;السلطة الرابعةraquo;، وquot; صوت الذين لا صوت لهم quot; في وجه السلطات الثلاث التقليدية للدولة: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
لكن، منذ عقدين من الزمان تقريبا، ومع تسارع وتيرة العولمة، بدأت هذه laquo;السلطة الرابعةraquo; تتآكل شيئا فشيئا، وتفقد وظيفتها الأساسية كسلطة مضادة، كما يؤكد laquo;انياسيو رامونهraquo; رئيس تحرير quot; لوموند دبلوماتيك quot; في مقالته laquo;السلطة الخامسةraquo;.
ومن يدرس عن كثب آليات العولمة ومسارها، يلاحظ انطلاق نوع جديد من الرأسمالية، أقل صناعية وأكثر مالية، قائم أساسًا على المضاربات. إذ نشهد في هذه المرحلة من العولمة مجابهة حادة بين السوق والدولة، بين القطاع الخاص والخدمات العامة، بين الفرد والمجتمع، بين الأنانية والتضامن الاجتماعي، والأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة هي أحد افرازات هذه الرأسمالية.
من هنا أصبحت السلطة الفعلية بين أيدي طيف من الشركات الكونية المتعددة والمتعدية للقوميات، يزيد وزنها الاقتصادي أحيانًا على ميزانية بعض الدول والحكومات. هذه الشركات تلتقي سنويًا في laquo;دافوسraquo; ضمن إطار المنتدى الاقتصادي العالمي، وهي التي تملي سياستها على ثالوث العولمة: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
وما يعنينا هنا أنه رافق ذلك كله تحول حاسم في حقل الإعلام الجماهيري، طال بنيته الصناعية نفسها، كما لاحظ رامونه أيضا، فباتت وسائل الإعلام الواسعة الانتشار الآن، من محطات الإذاعة والصحافة المكتوبة وشبكات الإنترنت والتليفزيون والأقمار الصناعية، تتجمع أكثر فأكثر داخل مجموعات إعلامية ذات بعد عالمي.
لقد كسرت laquo;الثورة الرقميةraquo; الحدود بين أشكال الاتصال التقليدية الثلاثة أي: الكتابة (الصحافة) والصوت (الإذاعة) والصورة (التليفزيون)، وفتحت المجال أمام ظهور laquo;الإنترنتraquo; وهو الشكل الرابع من أشكال الاتصال حتى الآن، ووسيلة جديدة laquo;ناجحةraquo; للتعبير والاستعلام والبحث والترفيه.
وقد استفاد الفضاء الالكتروني بالقطع، من امتياز التخفف من إكراهات الرقابة السياسية، والانفلات من القيود الأمنية التي تخضع لها الصحافة الورقية، خاصة في بلدان العالم الثالث، ناهيك عن أنه وفر أقصر السبل وأسهلها لعبور المسافة التي تفصلنا عن الغرب.
لقد أصبح الإعلام اليوم، يتلاعب بالحياة السياسية بقدر ما تتلاعب السياسة به، مما أدي إلي انقلاب مفهوم laquo;السلطةraquo; ذاتها، وجعلها - على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي laquo;جورج بالانديهraquo; - (خاضعة لتكنولوجيا المظاهر).
وهذا يفسر لماذا تسعي كل الأطراف اليوم داخل المجتمع (من أفراد ومراكز ضغط ومؤسسات غير حكومية ورجال أعمال وسياسيين معارضين) إلى امتلاك قواعد اللعبة، والاستفادة قدر الإمكان من سلطة الإعلام، لأن المجتمع المعاصر لم يعد مجتمعًا إعلاميًا وإنما أصبح laquo;موجهًا إعلاميًاraquo;.
فأي دور يمكن أن تلعبه الصحافة العربية اليوم؟
ماتزال quot; الموضوعية والمهنية quot; هي أهم المبادئ التي يجب أن تعض الصحافة عليها بالنواجذ، خاصة وأنها تعرضت لشكوك كثيرة مع تدفق الفضائيات المتعددة، منذ تسعينيات القرن العشرين، والموضوعية والمهنية تؤدي حتما إلي quot; المصداقية quot; التي تسبق quot; الصدق quot; دائما، والعكس غير صحيح.
والمصداقية تفترض أن تتشبث الصحافة أيضا بالوظيفة quot; الدلالية quot; للكلمة، وليست الوظيفة السحرية لها. فقد حققت quot; اللغة quot; عبر تاريخها الطويل وحتي اليوم، مهمتين مختلفتين: مهمة دلالية، ومهمة سحرية. وبدون المهمة الدلالية يصعب ان يتحقق الفهم والتواصل، وأن تصبح الصحافة quot; سلطة حقيقية quot;. بينما تظل المهمة السحرية للكلمة غامضة، لأنها تحاول إحداث أثر معين في نفس القارئ أو المشاهد، وهو ما تقوم به معظم الفضائيات اليوم، عن طريق الاستعانة بالصورة والصوت والموسيقي، لتحريك انفعالات معينة في اتجاه معين، ولو كان خاطئا.
وعلي الرغم من أن وسائل الاعلام الأخري لديها ميزة نسبية، لا تتوفر بالقدر نفسه للصحافة الورقية، وهي وجود آليات ( كالصوت والصورة والمباشرة ) للحوار والتواصل الانساني، فإن أغلب هذه الوسائل قد فشل حتي الآن في الاستفادة من هذه الميزة النسبية، وهو ما يمكن للصحافة تفعيله بآلياتها الخاصة، عن طريق التفاعل مع القراء والكتاب وإدارة الجريدة الكترونيا وهاتفيا عبر الأقمار الصناعية.
في كل حوار ndash; يفترض ndash; أن هناك quot; هدف quot; أساسي هو: quot; المعني quot;، وليس الإطار أو الشكل فقط، وهدف آخر وهو: quot; التواصل quot;، فإذا لم يصل المتحاورون إلي نقطة التقاء وسط، وإذا لم يتطور الحوار وينضج ويثمر، فيتحقق quot; المعني quot;، يبقي علي الأقل أن يحافظ المتحاورون علي التواصل، فالخلاف لا يفسد للود قضية.
وحسب علمي، لم يخرج اثنان من ضيوف البرامج الحوارية علي الفضائيات العربية، إلا وهما في حالة عداء تستمر وتتأصل بعد اللقاء وتنتقل لوسائل اعلامية أخري، وكأن الإعلام أصبح وسيلة لتكريس الفرقة والخلاف، والتنابز والتناحر، وتفتيت المفتت أساسا.
وهذا معناه أن التواصل كمفهوم أوسع وأشمل من الحوار، وما نراه اليوم في وسائل الاعلام المختلفة أو حتي منابر السياسة، ليس حوارا وإنما شئ أشبه بصراع الديكة، لأن الحوار يتطلب التفكير النقدي والاستغراق الذاتي والتسامح والاعتراف والاعتذار إذا أقتضي الأمر، وهو ما توفره مقالات الرأي والرأي الآخر، وتعليقات القراء وملاحظاتهم.

ان آفاق العلاقة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، كما قال quot; يورجن هابرماس quot;، تتلخص في: ضرورة بناء مجتمع حواري يقوم علي قبول الآخر quot; المختلف quot;. وإن كان ينطلق من استراتيجية تأكيد الذات والتأثير في الآخر، فإنه يهدف في العمق إلى بناء ما يسميه هابرماس بـquot; الفضاء العام quot;، كفضاء للعلاقات القائمة على الاختلاف والحوار وسيادة روح الديمقراطية والتسامح.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال الصحافة الورقية والالكترونية، إذا نحن شيدنا نموذجا آخر للتواصل، يعوض التعاقد الاجتماعي التقليدي بين الفرد والمجتمع، بتوافق تبلوره المناقشة بين جميع الأفراد بهدف تحقيق quot; المواطنة الديموقراطية quot;.
ويؤكد هابرماس بأن هذا الأمر سيسمح بخلق علاقات تشاورية تشكل مستوى أرقى من الديموقراطية التمثيلية [البرلمانية]، لأنها ستؤدي إلى تبادلات أوسع يتم فيها إعادة الاعتبار إلى الذات الفاعلة في فضاء المجتمع، وهنا فقط تستعيد الصحافة سلطتها ودورها التاريخي.

[email protected]