ان إعادة انتاج العملية التربوية والتعليمية في العراق، التي كانت عليها في النصف الثاني من القرن الماضي على أقل تقدير، تحتاج الى وضع أسس معرفية جديدة وصياغة فلسفة تربوية وتعليمية عقلانية رشيدة تعيد بناء مؤسسات التربية والتعليم في العائلة والمدرسة والجامعة وفق رؤى تستمد مقوماتها من فلسفة المجتمع وتاريخه وحضاراته وكذلك من الامكانيات المادية والمعنوية المتوفرة.
ان وضع أسس نظرية وعملية متناسقة ومترابطة جدليا، يهدف الى تطوير تربية شخصية وطنية مستقلة وهوية جامعة لكل العراقيين، ذات تفكير عقلاني متحرر ومتنور، لها قدرة على مواجهة التحديات والاشكاليات والتطور والتغيير وربط النظرية بالممارسة العملية، مع مراعات الظروف الذاتية والموضوعية والاستفادة من التجارب والخبر الداخلية والخارجية وكذلك الاعتماد على أحدث النظريات العلمية في فلسفة التربية والتعليم، التي تساعد على تطور الفنطازيا(الخيال العلمي) وإثارة روح الشك والنقد والنقد الذاتي الذي يذكي الطاقات الابداعية.

فلسفة التعليم في القرن الواحد والعشرين

ومن الممكن الاسترشاد بفلسفة وأهداف التعليم والتعلم في القرن الواحد والعشرين الذي اصدرته اليونسكو التي تتضمن اربعة مبادئ هي:
1 ndash; التعلم للمعرفة
2 ndash; التعلم للعمل
3 ndash; التعلم للعيش مع الاخرين
4 ndash; تعلم المرء ليكون
ان هذه المبادئ لا ترتبط بمرحلة ولا بزمن محدد، وانما هي مفهوم للتعلم مدى الحياة، أي التعليم المتكامل والمستمر الذي يجعل المجتمع كله مجتمعا دائم التعليم ويوفر فرص التعلم لكل فرد.
ان الثورة المعرفية في العلم والتقنية والمعلوماتية الاتصالية الالكترونية، تحتم على المؤسسات التربوية والتعليمية اعادة النظر في أسس بناء وتخطيط واختيار المناهج وفروعها ومحتوياتها وأساليبها في التعامل مع المعرفة المناسبة والمطلوبة وربطها بحياة الانسان والتطور الاجتماعي وفي مختلف الميادين الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ومن اجل تطويرها ودفعها نحو التقدم ومزيد من المعرفة والممارسة التي ترتبط بعلاقة وثيقة بالمجتمع وبالاهداف الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والانسانية العليا، من اجل تحقيق الشمولية والتكامل والتفاعل بين التربية والتعليم والتغير الاجتماعي، وهو ما يدفع الى تنمية القدرات والمهارات وإذكاء التطوير والإبداع.
ومن الاهداف الرئيسية لهذه الفلسفة تحقيق حاجات المجتمع الاساسية بفئاته وطبقاته الاجتماعية وجعل العمل والعمل الجماعي المنتج شرف، واستشراف الحاجات المستقبلية والتخطيط العلمي لها، وفي ذات الوقت، الربط الجدلي بين التراث والمعاصرة،عن طريق الحفاظ على الروح الوطنية والقومية وفهم ابعادهما وعلاقاتهما الجدلية وما يتصل بها من وعي بالتاريخ واللغة والحضارة، على ان تكون منفتحة وليست شوفينية في مبادئها الجوهرية.
ومن الضروري اعادة النظر في البنية التحتية للمؤسسات التربوية والتعليمية كالبنايات والمختبرات والتجهيزات وأدوات البحث العلمية المختلفة، وبخاصة الكتب والمجلات العامة والمتخصصة، ووسائل الايضاح والاتصال الالكترونية الحديثة وغيرها من الوسائل العملية التي تساعد الطالب على اكتساب معرفة أمبيريقية، كما في المثل الصيني الذي يقول quot; لا تعطيني سمكة، بل علمني كيف اصطادهاquot;.
ان تطوير النظام التربوي والتعليمي وتحقيق اهدافه الاساسية يحتاج الى اعادة النظر جذريا في مكوناته الاساسية الثلاثة وهي: المعلم والمناهج والادارة وذلك برفع مستوى الهيئات التربوية والتعليمية من المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات والمتخصصين التقنيين وكذلك الكوادر الادارية والموظفين المتخصصين، الذين يعملون في مؤسسات التربية والتعليم، لان عملية التربية والتعليم والمعرفة العلمية والتقنية هي عملية غير مطلقة وفي سيرورة لا متناهية من التطور والتقدم.

استقلالية الجامعة
وتعتبر استقلالية الجامعة والحرية الاكاديمية المرتبطة بها في مقدمة أولويات المجتمع المدني المنشود، الذي يعتبر الجامعة مؤسسة أكاديمية وليس معملا لتفريخ الموظفين فحسب، لأن من مهامها الاساسية تخريج كوادر علمية كفوءة ومستقلة في التفكير والعمل والقرار العلمي والابداع وتقوم على معايير التقدم العلمي والتقني والحضاري، التي هي مقياس تطور وتقدم المجتمع وتحديثه، كما ان هذه الاستقلالية وهذه الحرية الاكاديمية المرتبطة بها، انما تتمثل في حق الاكاديميين في الجامعات ومراكز البحث العلمي والتدريس والبحث والنشر والنقد والنقد الذاتي دون وصاية ورقابة من أحد، سوى الرقابة الذاتية والمجتمعية، وهو ما يحفظ للجامعة استقلاليتها وحرمة تقاليدها الاكاديمية وحقها في ادارة المؤسسات الجامعية بصورة مستقلة وكذلك حماية حقوق الجامعة والمنتسبين اليها وكذلك حماية الملكية الفكرية.
وعلى الجامعة العراقية ان لا تكون بعد اليوم جهازا بيروقراطيا يجند نفسه لخدمة الانظمة الاستبدادية الشمولية، مهما كان مصدرها، وانما يكون دورها الرئيسي كناقل للمعرفة والثقافة وتنمية النظريات العلمية والتقنية الحديثة، خصوصا ونحن نواجه تحديات كبيرة ومصيرية ترتبط بالتحديات الكبيرة التي يفرضها عصر العولمة وثورة المعرفة والاتصالات الالكترونية وتطورالجينوم البشري وتضع امامنا مسؤوليات كبيرة تفوق طاقاتنا وامكانياتنا، وهذا لا يتم إلا بردم الفجوة العلمية والتقنية والحضارية العميقة التي تفصلنا عن الدول المتقدمة حتى نستطيع اللحاق بها وتلبية متطلبات مشروعنا الوطني والنهوض بالعراق من جديد، ولذلك من الضروري اعادة النظر في مجمل العملية التربوية والتعليمية، والاهتمام بالنوع والكيف وليس بالكم.

ومن اجل ترسيخ منهجية علمية وعملية معاصرة تنسجم مع التحولات البنيوية في العراق الجديد، لابد لنا من وضع أسس جديدة يمكن تطبيقها في جميع المناهج وفي جميع المراحل التعليمية، ابتدءا من رياض الاطفال مرورا بالمدارس الابتدائية فالثانوية وصولا الى المعاهد والجامعات والمؤسسات الاكاديمية العليا، تهدف الى رفع مستوى الكفاءة والأداء العلمي وتدفع الى التطوير والخلق والإبداع.

أزمة الجامعة هي جزء من أزمة المجتمع

والخطوة الاولى التي علينا اتباعها هي ان نعي وعيا حقيقا وليس زائفا بأن أزمة الجامعة هي من أزمة المجتمع وان نفهمها فهما عقلانيا رشيدا وليس عاطفيا وفوقيا ومتسرعا، خصوصا ونحن نمر في مرحلة انتقالية صعبة ومعقدة فيها الكثير من الصراعات والانقسامات بين فئات المجتمع وطبقاته، بعد تركة ثقيلة من الفساد الذي ينخر في جسد الجامعة وعقلها، الذي هو انعكاس لفساد المجتمع ومؤسساته.

ان الجامعة كوسيلة انتاج ومعرفة وحاضنة متفتحة للعلوم والتقنيات الحديثة، ما زالت لم تدرك بعد وظيفتها العلمية والاجتماعية والاقتصادية، ولذلك فهي تعكس تناقض الوضع الاجتماعي وتخلفه، وعليها مسؤولية أن تدرك دورها الطليعي وكذلك شروط بقائها واستمرارها حتى يتم تذليل أزمتها وتأزمها. ومتى ما أدركت الجامعة دورها العلمي والاجتماعي الخطير ووعت وظيفتها ووضعها الحالي المتأزم، فانها تستطيع ان تطالب القوى الاجتماعية بضرورة تحريك متطلباتها الهامة ودفعها الى الواجهة الامامية.
والحقيقة هي ان المدرسة والجامعة، الى جانب العائلة والمؤسسات الثقافية الاخرى، هي من أهم مصادر تقييم وتقويم وبناء المنظومات القيمية والمعايير الاجتماعية والاخلاقية للتلاميذ والطلاب، لذلك فان من أولى مهامها الاساسية هو تعزيز القيم والمعايير الاجتماعية والاخلاقية العقلانية وتهذيب السلوك وترشيده، وذلك بإعادة الهيبة الى المؤسسات التربوية والتعليمية التي تفككت بفعل الاستبداد والقمع والارهاب وإعادة الاحترام الى المعلم والمدرس والأستاذ الجامعي وكذلك الى الاختصاصي التقني.
والخطوة الثانية هي اشاعة جو من الحرية وروح الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، فكرا وممارسة، حتى يتخطى المجتمع العراقي مرحلة الصراعات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي تتحكم في مسيرته.

ان قيام عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المدرسية على مبادئ ديمقراطية هي أهم الأسس والعناصر الحيوية الأولية في بناء ثقافة الديمقراطية. وهي عملية تبدأ من البيت مرورا بالمدرسة ولا تنتهي بالجامعة. وهي تتطلب، قبل كل شيء، بناء ذاكرة جماعية موحدة بهوية وطنية تزرع بذور الأمن والاستقرار والتسامح والسلام وتنبذ العنف والخوف والعنصرية وتسعى لترسيخ المبادئ العامة لحماية الحريات واحترام حقوق الانسان واستقلاليته وتفتح نوافذ الأمل والتفاؤل لمستقبل أفضل.
كما ان التربية الديمقراطية مشروطة بسياسة عقلانية- نقدية تنبذ الاذعان والخضوع والطاعة العمياء لأولياء الأمور أيا كانوا وتتجاوز طرق التربية والتعليم القديمة في التطويع والتطبيع وتربية الاطفال على القمع بحجة التأديب (إلك اللحم وإلي العظم) وكذلك تسلط الرئيس على المرؤوس وخضوعه له.
ان التربية الديمقراطية التي نأمل الوصول الى تطبيقها هي هدف أي مجتمع يريد التقدم والازدهار، وهو اعداد مواطنين صالحين، مستقلين وعقلانيين، يتميزون بالفكر النقدي التساؤلي والتحليلي في نظرتهم الى أمور الحياة والمجتمع والآخر ويمارسون الديمقراطية بشكل صحيح انطلاقا من جوهرها وهو الحرية، ويرسخون مبادئها القابلة للتطبيق العملي على ارض الواقع.
اما الخطوة الثالثة فهي العمل على بناء مجتمع عراقي جديد يستطيع تجاوز مرحلة التخلف الاجتماعي والثقافي والركود الاقتصادي وإعادة بناء البنية التحتية التي تهدمت بفعل الاستبداد والحروب والحصار ثم الاحتلال، وتطويع الاقتصاد الريعي الذي استغلته الدولة في هيمنتها على المجتمع وتطويره لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة، فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، تعمل على تطوير امكانيات المجتمع وتحفز طاقاتة وتحقيق حاجات المجتمع الاساسية وإشباعها بامكانيات وطنية للقضاء على البطالة والبطالة المقنعة وذلك باعتماد طرق واساليب تربوية وتعليمية وتدريسية حديثة هدفها تغيير عقلية المجتمع وتنمية قدراته وطاقاته وقابلياته وتطوير كفاءاته العلمية المبدعة، وليس مجرد اعداد كوادر من المدرسين والعاملين والموظفين البيروقراطيين،التي تشبع حاجة النظام الاجتماعي القائم.
بهذا المنهج والمنهجية الحديثة والاسترشاد بفلسفة تربوية وتعليمية عقلانية رشيدة يمكننا الدخول في القرن الواحد والعشرين والتعامل مع مطالبه وتحدياته واستحقاقاته وان نكون قادرين على البقاء والاستمرار في العطاء والابداع واعادة نظام التربية والتعليم كما كان عليه في منتصف القرن الماضي على أقل تقدير.

المصادر:
(1)ابراهيم الحيدري، منهج ومنهجية الكتابة التاريخية، مجلة معهد الدراسات العربية والاسلامية- لندن، العدد الاول، كانون الثاني 1999،
(2)عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، مكتبة وهبة، القاهرة، 1982
(3)Unesco, International Co-operation in Higher Education,Paris,1998 وكذلك منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، التعليم العالي في القرن العشرين- الرؤية والعمل، باريس 1998