فكرة المنقذ الإلهي
من الدوافع الاساسية لتطور العزاء الحسيني في عاشوراء هي العلاقة الجدلية بين تراجيديا كربلاء وفكرة الأمل المنقذ التي تضمنت طقوسا لها أهمية بالغة، ولكنها شديدة الخصوصية والحساسية، ترتبط بالبعد الرمزي الذي تجسده عاشوراء، والذي يفتح بابا واسعا على تأويلات عديدة تتخطى حدود هذه المناسبة الدينية وتخترق حدود الزمن الذي تنتسب اليه، بسبب ان تراجيديا كربلاء تعكس في الخطاب الشيعي الشعبي ابعادا عديدة، منها ثنائية الألم والأمل وثنائية الموت والحياة، كما جاءت في الميثولوجيا البابلية والفينيقية والمسيحية وغيرها من الاديان.
وإذا كان الاسلام السني لا يعرف فكرة المنقذ الإلهي، كما يعرفها ويعَرفها الاسلام الشيعي او يستوعبها بالشكل الذي جاءت فيه، فان القبول quot;بالخلافة الرسميةquot; جعل فكرة الشفاعة والإنقاذ غير ضرورية، لان الاسلام، الذي يعني التسليم لله وحده يحدد مسؤولية كل فرد امام الله يوم القيامة، هو طريق الانقاذ. ومعنى ذلك هو ان كل فرد يقف يوم القيامة لوحده امام الله ومن دون وسيط.
من هذا المنطلق ينعدم عند أهل السنة وجود مفهوم المنقذ الإلهي بالشكل الذي نجده عند الشيعة. وعلينا ان نبحث عن هذا المفهوم في فكرة quot;الشفاعةquot; التي نجدها عند أهل السنة ايضا، ولكن ليس السنة الرسمية وإنما الشعبية.
تاريخيا كان الشيعة أول من ادخل فكرةquot; المنقذ الالهي quot; في الاسلام وأول من ربطها بالشفاعة وبتراجيديا الألم واستشهاد الامام الحسين في كربلاء. وان حاملي quot; الشفاعةquot; عندهم هم النبي والأئمة من أهل البيت الذين يحملون وحدهم quot; اللطف الإلهيquot;، لأن الله كان قد اصطفاهم من الخلق منذ الازل من اجل انقاذ البشرية يوم القيامة.
ان تراجيديا الألم التي بدأت مع استشهاد الامام الحسين في كربلاء وإخفاق الشيعة على مر العصور في الوصول الى السلطة وانتظار من ينقذهم، عمل على توحيد فكرة الألم والأمل المنقذ وإنزالها الى الواقع العملي.
وهناك احاديث شيعية عديدة تشير الى هذا المعنى، منها ان الامام الحسين كان قد تحمل وأهل بيته وصحبه الكثير من الآلام والمحن، وقد وجد بأنه لا خلاص من هذه الآلام إلا بالتضحية والاستشهاد في سبيل المسلمين. وهكذا ارتبطت ثورة الحسين ومبادئه واستشهاده في كربلاء بالألم، والألم بالأمل، والأمل بالإنقاذ، من اجل تنفيذ الارادة الإلهية التي قررت ذلك الألم وتلك الشهادة وذلك الانقاذ، لان البشر لا يستطيعون التغلب على الألم البشري، ولذلك اصبح الاستشهاد طريق الشفاعة والإنقاذ وأصبح الحسين quot; سفينة النجاةquot;، لأنه ضحى بنفسه وأهل بيته بإرادته لإنقاذ المسلمين من ظلم واستبدادquot; يزيدquot;. وهكذا اتخذ الألم من معنى الشهادة مقدماته المثالية ومؤثراته التاريخية ومنها ما نشاهده في عاشوراء من تصورات درامية تعرض الامام الحسين كمنقذ للأمة الاسلامية وقد استشهد باختياره عندما وجد بان الأمر لا يستقيم إلا بقتله. وقد عبر الشاعر العراقي سليم ابو الحب عن ذلك بقوله :
ان كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني.
فكرة الشفاعة
ان استشهاد الامام الحسين في سبيل الحق والعدالة وتحمله آلام التضحية والفداء، لا ينفصل في ذات الوقت عن دور الامام في الشفاعة لشيعته يوم القيامة، التي تظهر بوضوح وبأشكال ومستويات مختلفة وبخاصة في طقوس العزاء الحسيني في عاشوراء وفي الأدعية والزيارات. فقبل توجهه الى كربلاء عرج الحسين على قبر جده رسول الله في المدينة وقال : quot;كيف أنسى شيعتي( يوم القيامة ) وقد ضحيت بنفسي من اجلهمquot;. ولذلك يرفع الشيعة شعار : quot;يا حسين يا سفينة النجاةquot;. وفي حديث آخر قال الامام الحسين وهو قادم الى كربلاء: quot; لقد اختارني الله تعالى منذ ان خلق السموات والارض وجعلني شفيعا لهم يوم القيامة.quot;

وحسب الاحاديث والروايات الشيعية، فان النبي الكريم قال في حديث له مع أم سلمه، احدى زوجاته الكريمات، quot; بان الحسين يشفع لشيعته يوم القيامة ويكون المهدي من ولدهquot;.
وهكذا اكتسب الحسين عن طريق الشهادة دور الشفيع المنقذ يوم القيامة.
وحسب هذا التصور فان مشيئة الله كانت قد قررت أمور هذا العالم والخلق منذ الازل، وبمعنى آخر، ان مشيئة الله كانت قد قررت مسيرة الكون والحياة وتاريخ المخلوقات البشرية وكذلك استشهاد الامام الحسين في كربلاء، الذي هو سر من اسرار هذا الكون الذي لا يعرفه إلا الله والراسخون في العلم. ومن الاسرار الاخرى ان جبرائيل كان قد اخبر رسول الله باستشهاد الحسين ووصف مقتله وآلامه في كربلاء. كما ان الانبياء آدم وموسى وعيسى كانوا قد علموا بمقتله في كربلاء فحزنوا عليه وبكوا.
وقد لعن عيسى المسيح قتلته وأمر بني اسرائيل بلعن قاتليه ايضا، كما علم يعقوب وكذلك يوسف بان الحسين وأطفاله سيتحملون من الظلم والآلام يفوق ما تحملوه. وان حواء وراحيل ومريم العذراء كانوا قد علموا ايضا بالآم فاطمة الزهراء وحزنها.
وهناك قصص وأساطير تتحدث عن ان النبي ابراهيم اطاع ربه وعمل بمشيئته حيث ارسل اليه جبرائيل ليخبره ان يختار بين أثنين، اما ان يضحي بابنه ابراهيم او بسبطه الحسين من اجل انقاذ البشرية، فقرر ان يضحي بحفيده الحسين وان يضحي بشاة بدل تضحيته بابنه اسماعيل، لان الحسين سوف يستشهد بكربلاء من اجل انقاذ البشرية.
وهناك حديث آخر يقول بان اخوه محمد بن الحنفية نصحه بالعدول عن التوجه الى كربلاء فقال له الحسين : لقد جاء جدي رسول الله وقال لي quot; يا حسين اذهب لقد اراد الله ان يخصك بالشهادةquot;.


المسيح والحسين
مما مر ذكره اعلاه يمكننا القول، بان فكرة الشفاعة والإنقاذ التي نجدها في تضحيات الامام الحسين وأهل بيته وصحبه واستشهاده الطوعي من اجل انقاذ البشرية، نجد ما يشابهها في المسيحية التي تعتقد ايضا بان انقاذ البشرية سيتم على يد السيد المسيح. فعيسى المسيح كان قد ضحى بنفسه طوعا من اجل انقاذ البشرية، كما جاء في الكتاب المقدس الجديد الذي يعتبر السيد المسيح بدون خطيئة، وهو لذلك ليس نبيا فحسب، بل جاء مخلصا للبشرية.
وتربط كثير من الاحاديث الشيعية فكرة الشفاعة والإنقاذ بين المسيح والحسين. ففي حديث ينقل عن الامام الصادق انه قال :quot; ليس هناك انسان كان قد ولد وعمره ستة أشهر إلا عيسى بن مريم والحسين بن عليquot;.
ان هذا التشابه بين المسيح والحسين ينبغي ان نفهمه على انه رفع الى ما هو quot;فوق طبيعيquot;، الذي يميز قبل كل شيء بين البشر العاديين quot; وفوق العاديينquot;. وهناك رواية اخرى تقول : quot;بان الحسين لم يرضع من صدر أمه بصورة طبيعية مثل باقي الناس وإنما كان يرضع من لسان جده رسول اللهquot;، كما ادعى البعض، بان الحسين لم يمت مثلما يموت الناس وإنما شبه اليهم مثل المسيح quot;. وما يشبه هذا القول ما يروى عن الامام الحسين نفسه انه قال : quot;لا يوجد سبب في اعتبار موتي تعاسة، كلا، انه سبب في سعادة العاصين من شيعتيquot;.
مثل هذه الاحاديث والروايات التي توردها بعض كتب المجالس الحسينية وبخاصة الشعبية منها، ويتناقلها بعض قراء المجالس الحسينية دون وعي وتمحيص، وكذلك بعض الكتاب والمستشرقين الى اعتقاد غير موفق، هو ان هناك منبع واحد للشيعة، مثلما هو للمتصوفة، وهو منبع يجب ان نبحث عنه فيما يسميه آدم ميتز quot; بـ الاغنوصيةquot; المسيحية التي هي فلسفة عرفانية تؤمن بروحانية النفس وإمكان المعرفة العامة بالإلهام والكشف وكذلك بالاحتفالات والطقوس التي تقام بيوم quot; الجمعة الحزينة quot; في عيد الفصح الذي يحتفل به المسيحيون في العالم منذ العصور الوسطى، وبخاصة المشاهد الدرامية التي تمثل على المسرح المأساوي والتي تعرض قصة آلام السيد المسيح ومحاكمته وتعذيبه وصلبه من قبل اليهود في اليوم الثالث متمما نبوته حسب اعتقادهم، وحيث تصاحب هذه الاحتفالات مواكب كبيرة ترفع فيها الصلبان والرايات والشعارات الدينية. وما زالت هذه الاحتفالات تجري في بعض المدن الايطالية والاسبانية وحتى في جزر الفلبين حيث يقوم المحتفلون حتى اليوم بتعذيب اجسادهم عن طريق جلد سيقانهم وأرجلهم بقضبان خشبية غليظة حتى تسيل الدماء منها، تعبيرا على مواساتهم لآلام السيد المسيح.
يبدو لنا مما ذكر اعلاه بان التصور الشيعي الشعبي الذي ربط بين شخصية الامام الحسين والسيد المسيح، وفي مستويات عديدة، لم ينطلق من مراسيم عيد الفصح والجمعة الحزينة، كما اعتقد بعض الكتاب والمستشرقين ومنهم آدم متز، بقدر ما ارتبط برؤية الاسلام الشيعي الشعبي للسيد المسيح وتقديسه.


البكاء والنواح الجماعي
ومن جهة اخرى يلعب طقس البكاء على الحسين دورا هاما في الشفاعة والخلاص، فالبكاء، كتعبير عن حزن وألم بفقدان المرء عزيز له وهو في ذات الوقت رثاء له وعزاء للباكي ومواساة لأهل الفقيد وكذلك تنفيس عما في صدره من كرب وكدر. وحسب الاحاديث والروايات الشيعية، فان البكاء على الحسين هو احد الشروط الهامة في طلب الشفاعة مثلما هو تعبير عن حب ووفاء له. وعلى كل محب لأهل البيت ان يشعر بان من الواجب عليه ان يذرف على الأقل دمعة واحدة على الحسين خلال حياته، وان كل قطرة يذرفها عليه تنجيه من النار، لان الحزن والبكاء هو طريق الشفاعة والإنقاذ يوم القيامة، معتمدين في ذلك على اخبار وأحاديث عديدة. وهناك مثل عربي يصف رقة العواطف الحزينة عند الشيعة فيقول: quot;رقيق مثل دمعة شيعي quot;، وهو تعبير عن حزن وألم محض. وهناك حديث يقول quot; فمن بكى أو تباكى ادخله الله الجنةquot;.
ومن ذلك التاريخ بقيت مأساة كربلاء حية في قلوب المسلمين وذاكرتهم يحتفلون بذكراها كل عام، حتى بات الاعتقاد لدى بعض الشيعة، بان quot;كل ارض مدماة هي كربلاء وكل يوم حزين هو عاشوراءquot;، كما اصبح البكاء طريقا للخلاص ووسيلة من وسائل الشفاعة والنجاة.
غير ان أرق الابيات الشعرية رأيتها مكتوبة على لافته كبيرة سوداء وبحروف بارزة علقت في مقر احد مواكب العزاء الحسيني في كربلاء وهي كما يلي:
شيعتي ما ان شربتم عذب ماء فاذكروني
او سمعتم بقتيل او شهيد فاندبوني
والحال، ان البكاء ليس فرضا اسلاميا ولا واجبا دينيا وشرعيا ولا ركنا من اركان التشيع، وإنما هو ظاهرة طقسية ارتبطت بحب أهل البيت والحزن عليهم وتوقع الشفاعة عندهم يوم القيامة، وكذلك من اجل اثارة عواطف المشاركين في العزاء وتبرير استدرار دموعهم.