خلال القرون الخمسة التي سبقت ظهور الاسلام ظهرت معالم حضارية هامة تمثلت بظهورأول إمارة عربية في منطقة الحضر غرب العراق بالقرب من بابل القديمة في النصف الاول من القرن الثالث الميلادي التي دامت حوالي قرنين تقريبا. وكانت الحضر شبه مستقلة رغم تبعيتها الى الدولة الفارسية تارة والامبراطورية الرومانية تارة اخرى، مع تأثر واضح بالحضارة الرومانية. وقد اسست الحضر مركزا تجاريا محصنا يربط بين حواضر بلاد الرافدين. وقد اشتهر الملك quot; سنطرقquot; الذي كان يدعو نفسه quot;ملك العرابوquot;، أي ملك العرب. وفي تلك الفترة انتشرت المسيحية وتأسست في الكنائس مدارس لتعليم القراءة والكتابة وعلوم الدين باللغة الآرامية.
و في الحيرة ظهرت امارة المناذرة وهم بني لخم او اللخميين وكانوا يدينون بالمسيحية النسطورية ويتكلمون اللغة الآرامية. وكان لموقعها اهمية كبيرة لانها تقع على ملتقى اهم طرق التجارة البرية التي تربط بين الجزيرة العربية ووادي الرافدين من جهة وبين وادي الرافدين والشام من جهة اخرى، اضافة الى قربها من المناطق الزراعية التي تقع غرب نهر الفرات.
وعلى الصعيد الديني والثقافي لعبت الحيرة دورا ثقافيا متميزا حيث اصبحت مركزا لجذب الكثير من الشعراء والادباء ورجال الدين. كما تعايشت في الحيرة ،الوثنية العربية الى جانب المانوية والمزدكية والمسيحية النسطورية والمذهب التوحيدي لطبيعة المسيح. وكان المسيحيون quot;العبادquot; يشكلون الاغلبية. وكان الجو السائد في الحيرة جوا من الانسجام والتسامح، الاجتماعي والديني. واصبح دورها الثقافي والحضاري عظيما بعد ان تحولت الى مركز للثقافة والشعر العربي وملتقى لتيارات ثقافية مختلفة. كما قامت بدور فعال في الفصل بين العرب والفرس من جهة، وبين العرب والروم من جهة اخرى. وقد اخذت الكوفة التي نشأت الى جانبها، مكانها الثقافي والحضاري. كما ان تفكك الامبراطورية البابلية والانقسامات والحروب التي سادت تلك المنطقة ساعدت العرب على توطيد اركان دولتهم، مما ساعد على استقرار عدد من القبائل البدوية في تلك المنطقة والتكيف اقتصاديا واجتماعيا مع حياة الريف الزراعية.
وتشير المصادر الى ان اغلب سكان الحيرة كانوا من عرب الشمال العدنانيين بالرغم من ان ملوكهم اللخميون كانوا ينتمون الى عرب الجنوب القحطانيين.
وفي الحيرة ظهرت معالم الخط العربي الذي قام على نسق الخط الآرامي وعرف بالخط الحيري، نسبة الى الحيرة، الذي اخذ طريقه الى مكة وسائر مدن الحجاز. وكان الشاعر المشهور إمرؤ القيس (ت 328م) احد أمراء الحيرة وسمي quot;ملك العربquot;. كما اشتهر من ملوكهم النعمان الاعور الذي بنى قصري الخورنق والسدير.
وتعود بدايات احتكاك العرب بسكان وادي الرافدين الى الألف الثانية قبل الميلاد، وهي بداية قيام اقدم واهم طرق التجارة البرية التي تربط بين جنوب الجزيرة العربية مع مدن وادي الرافدين من جهة ومع الشام والعالم القديم من جهة اخرى، حيث تطورت مراكز تجارية ارتبطت بصورة خاصة بتجارة التوابل والبخور التي اشتهرت بها اليمن وحضرموت. وقد دلت بقايا المخلفات الاثرية على وجود اتصال بين شعوب الحضارات العليا القديمة وبين غيرها من الشعوب والاقوام التي كانت تستخدم الجمل، وبصورة خاصة القبائل البدوية. ورغم ان هذا الاتصال لم يكن وثيقا ومستمرا الا أنه لا ينفي وجود جماعات كانت تقتني الجمل العربي وحيد السنام منذ الالف الثالث قبل الميلاد وبخاصة على مشارف المنطقة ذات الحضارة العليا القديمة. كما ان اللغة العربية انتشرت بصورة مطردة في تلك المنطقة مع انتشار القبائل العربية، البدوية ونصف البدوية ونمو الحواضر العربية، ومعنى ذلك حدوث تمثل وتكيف لغوي تحت تاثير الامارات العربية الجديدة.
وكانت اقدم اشارة عن العرب في المدونات الاشورية تعود الى العام 853 ق. م. حيث خاض الملك الاشوري شيلمنصر الثالث عددا من المعارك مع الآراميين الذين تحالفوا ضده. وقد ورد اسم الملكquot; جندبو العربيquot; الذي انظم الى ذلك الحلف وجاء بجيش من الصحراء قوامه الف جمل.
ومنذ ذلك التاريخ اخذ اسم quot;عرابوquot; يذكر في السجلات الاشورية وكانت الملكة quot; شمسquot; قد قدمت للملك الاشوري تجلاتبلاصر عام 734 ق. م. ثلاثين الف جمل وعشرين الف رأس ماشية وخمسة الآف كيس من التوابل والبخور كجزية. كما اضطر الملك quot;سرحدونquot; عام 671 ق.م. عندما اراد اجتياز الصحراء للوصول الى مصر بجيوشه الجرارة، الى ان يكسب ود العرب ويعقد حلفا معهم.

وتشير اغلب المصادر التاريخية الى ان تحولات بنيوية واضحة حدثت في شمال الجزيرة العربية التي قامت على طول طريق تجارة التوابل والبخور، وفتحت آفاقا جديدة للقبائل العربية التي تجاوز اقتصادها مرحلة البداوة والترحال والرعي الى الاعتماد على التجارة وما يرتبط بها من خدمات ترتبط بالقوافل التجارية التي تربط بين جنوب وشمال الجزيرة العربية(رحلتي الشتاء والصيف). وكذلك تطور مستوطنات زراعية وظهور بدايات الملكية الفردية الصغيرة ونظام العبودية. وبسبب الصراعات بين القبائل على الماء والكلىء وبينها وبين الدول والامارات ، عبرت كثير من القبائل العربية نهر الفرات واستقرت هناك.
غير ان سقوط بابل على ايدي الساسانيين وانهيار الادارة المركزية كان له نتائج سيئة على تجارة التوابل والبخور والقوافل التجارية التي اعتمدت عليها تلك القبائل التي كانت تعمل في نقل البضائع او حراستها او تربية الجمال وجباية الرسوم التي تمر في مناطقها. كما تكبد التجار العرب خسائر كبيرة نتيجة تحول طريق التوابل والبخور من غرب الجزيرة العربية الى شرق دجلة وسيطرة التجار الفرس عليها. وهو ما دفع بالكثير من افراد القبائل العربية الى الاستقرار في ارياف العراق وبصورة خاصة في منطقة الفرات الاوسط والتكيف اجتماعيا واقتصاديا مع حياة الاستقرار والزراعة. وقد ذكر الطبري بان بعض القبائل العربية من قيس وتغلب وأياد وعطفان، الذين تجمعوا في البحرين، استفادت من انقسام الفرس فنزحوا الى غرب الفرات في خط متواصل يمتد من الانبار حتى الحيرة. وقد سميت تلك القبائل quot;عرب الاطرافquot;. وبعد انهيار الحيرة استوطنوا الجزيرة الفراتية. واخذوا يكتبونquot; بالقلم السريانيquot;.

المصادر:
1- هشام جعيط، الكوفة، بيروت 2005
2- فالتر دوستال، تطور حياة البدو في الجزيرة العربية في ضوء المادة الاثرية، مجلة فكر وفن، العدد31، ميونيخ 1978
3- روبرتسون سمث، ديانة الساميين، لندن 1894،(ترجمة) القاهرة 1997
4- ابراهيم الحيدري، النظام الأبوي، دار الساقي، بيروت 2003
5- لويس ماسينيون، خطط البصرة وبغداد، ترجمة ابراهيم السامرائي، بيروت 1981
6- محمد سعيد الطريحي، الديارات والامكنة النصرانية في الكوفة وضواحيها، بيروت، ص1981
7- ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة نجرانية