يبدو لنا بأن الجغرافيا تلعب دورا مهما الى جانب الاقتصاد والثقافة والسياسة في صنع التاريخ وقيام الحضارات العليا في العراق وكذلك ولادة أولى الامبروطوريات في العالم. ونجد مصداقية ذلك في تاريخ العراق الحضاري. ففي العراق ثالوث جغرافي صنع تواريخ وحضارات مختلفة ومتنوعة. فالسهل الرسوبي في الجنوب رسم تاريخ اقدم الحضارات الانسانية في سومر واكد وبابل ومهدها، والوسط رسم تاريخ الحضارة العربية-الاسلامية التي ازدهرت في بغداد، والشمال رسم تاريخ الآشوريين والكرد. وكل واحدة من هذه الحضارات تكمل الاخرى وتغنيها وتتواصل معها منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.

وهناك حقيقة هي ان طبيعة مجاري الانهار في العراق وانحدارها الشديد وعدم انتظام فيضانها في كثير من السنين سبب عنفا ودمارا كبيرا كان من الصعب السيطرة عليه. ولذلك واجه الانسان منذ فجر التاريخ واقعا صعبا وقد اجبرته تلك البيئة على بذل جهود كبيرة من اجل السيطرة عليها. ويعتقد بعض العلماء، ان تلك البيئة الفريدة تركت بصمات واضحة على اسلوب الحياة والفكر والطباع والسلوك في تلك المجتمعات التي قامت على ضفاف تلك الانهار منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا.

وفي هذا السياق يشير المهندس البريطاني وليم ويلكوكس الذي عاش وعمل في مصر والعراق في مطلع القرن الماضي الى الطبيعة الجغرافية للعراق وطبيعة نهري دجلة والفرات اللذين يرتفعان بدون سابق انذار وبصورة مفاجئة دوما ويحملان اطنان من الغرين ويحدث فيضانهما في اذار ونيسان وايار، وهو موسم متأخر جدا بالنسبة للمزروعات الشتوية ومبكر جدا بالنسبة للنباتات الصيفية، ويحتويان على كمية كبيرة من الاملاح المحلولة ويجريان بين صحارى جبسية واراضي مالحة. اضافة الى ان ارض العراق شديدة الانحدار وتؤدي الى قوة جريان الماء في الانهر بشدة وبشكل مفاجيء دائما، مما يؤدي الى كسر السدود واجتياح الاراضي الزراعية المجاورة واغراقها. وهو ما يدفع الى انشاء طرق ري وسدود وحوجز ترابية على ضفاف الانهار لدرء خطر الفيضان مثلما يؤدي بدوره الى المنازعات بين الفلاحين والرعاة وغيرهم.

كما ان من اثار فيضانات دجلة والفرات الاخرى طغيان المياه من مجرى النهر وتدمير السدود والشواطئ واندفاع المياه الى الاراضي المنخفضة من السهل الرسوبي وغمرها بالمياه وتكوين المسطحات المائية التي تسمى بالبطائح اوالاهوار التي تنتشر في الوسط والجنوب. وهو ما سبب هجرة السكان من الاراضي الزراعية والرعوية بعد غمرها بالمياه , وفي احيان اخرى يتحول قسما من هذه الاهوار والبطائح الى اراضي زراعية بعد جفافها. وهو ما يفتح الباب امام هجرات جديدة اليها والاستقرار فيها وتحولها الى اراضي زراعية خصبة.
واضافة الى ذلك، يرى لويس ممفورد بان بلاد ما بين النهرين هيquot; بلاد عالم الآلهة الكونية المرعبة.quot;فقد تميزت الارض التي نشأت عليها المدن كمراكز للعظمة والحرب، بالتنظيم والتخطيط والمركزية والقمع الشديد. وما قانون حمورابي الا نموذجا لهذا التنظيم الدقيق للعلاقات البشرية التي تكاد تكون بوليسية. كما بلغت الاعمال الوحشية ذروتها في شخص آشور بانيبال وغيره.
وما يؤكد خوف العراقيين القدماء ورعبهم من عنف الآلهة ما ورد في اسطورة الخليقة البابلية. فالآلهة تأمر مياه النهر بغرق العراقيين، لأن الإله آنو يريد ان ينام والعراقيون مستمرون بنقاشهم. وهي توَرية عن اهتمام العراقيين بالجدل.

ان عالم الآلهة المرعبة واستبداد الملوك والجبابرة و تحديات البيئة والطبيعة التي ظهرت في انحدار مجرى الانهار الشديد وخطر الفيضانات المدمرة وتطرف المناخ القاري الشديد الحرارة صيفا وقارص البرودة شتاء والحدود المفتوحة والغزوات المتلاحقة، كل ذلك يتطلب ردود افعال واستجابات متطرفة، انعكست في صراعه مع الطبيعة واخضاعها لارادته وانتاجه لحضارات عليا قديمة من جهة، وفي تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على طبيعته وثقافته وكذلك على النظم والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بحيث جعلته يشعر بالضعف والعجز من جهة اخرى، مثلما تركت تأثيرات سلبية على سايكولوجيته وشخصيته ومجتمعه وكذلك على تفكيره وعمله وسلوكه وعلى مجمل حياته التي شابها كثير من الخوف والقلق والتذبذب.

بين العجم والروم بلوة ابتلينه

كان سقوط بابل على ايدي الفرس الاخمينين عام 539 قبل الميلاد قد مهد الطريق لبسط نفوذ الساسانيين على بلاد الرافدين الذي استمر حتى القرن السابع الميلادي. وقد مثلت تلك الفترة التي استمرت حوالي 11 قرنا فترة مظلمة وقطيعة حضارية كبرى تم خلالها احتلال روماني دام حوالي قرنين بدأ بدخول الاسكندر المقدوني بابل منتصرا على الفرس عام 331 قبل الميلاد. ومذاك تحولت بلاد الرافدين الى ساحة حروب وصراعات بين القوتين الكبيرتين المتنافستين، الروم والفرس، وقد استمر الصراع قرونا عديدة واصبح العراق مسرحا لهما ووقع ضحية لتلك الصراعات التي خلفت ورائها آثارا مدمرة ظهرت في مثل شعبي ما زال العراقيون يضربونه بحزن وألم حتى اليوم:
بين العجم والروم بلوة ابتلينة ردنه الرفق منهم ما صح بدينه.
وكان الرومان ينظرون الى غيرهم على انهم quot;برابرةquot;، أما الفرس فينظرون الى العرب كونهم بدو رحل، في حين يتعالى العرب على غيرهم ايضا ويطلقون على ما عداهمquot; بالعجمquot;، احتقارا لهم.
والعجم والاعاجم في معاجم اللغة العربية هم خلاف العرب،أي من ليس بعربي ومن لا يفصح ولا يبين كلامه وان كان من العرب. يقول احمد ابن فارس: quot;الرجل الذي لا يفصح هو أعجم، والمرأة عجماء.وقولهم العجم الذين ليسوا من العرب. وقال ذي الرمة:
ديار مية اذ مي تساعدنا ولا يرى مثلها عجم ولا عرب.

والاعجمي او العجمي من كان جنسه العجم، أي المنسوب الى العجم. والعجم هم الروم أي الاغريق أساسا وتوسع ليشمل الفرس والهنود وغيرهم .
ان استعلاء العرب على ما عداهم يظهر من انهم يسمون الاخرين quot;عجماquot;، والواحد اعجمي، والعجماء هي البهيمة. ولشدة استعلاء العرب على غيرهم، فقد رفض النعمان الاذعان الى كسرى، فكانت معركة ذي قار التي انتصر العرب فيها. وما زالت التفرقة بين العرب والاعاجم مستمرة.

وبعد احتلال العراق من قبل الفرس ورثوا نظام الري البابلي ولم يقوموا سوى بتحسنه وحفر بعض القنوات الاضافية، ولكنهم طبعوا جوانب اخرى من البلاد بطابعهم وبخاصة في نظام الادارة وتوزيع الاراضي، وجعلوا من المدائن (طيسفون) عاصمة لهم، وخاصة في العهد الساساني حيث اصبح العراق مركز الامبراطورية الفارسية. ومع ذلك فقد بقي العراق متميزا عن بلاد فارس ذاتها. وكان الخط الفاصل بشريا هو الحد الشرقي من حلوان الذي يقع اسفل جبل زاغاروس.

واذا كان التاريخ يعيد نفسه ولو بشكل آخر، فقد انطبق هذا المثل على الصراع الدامي بين الصفويين الشيعة (العجم) والعثمانيين السنة (الروم) على السيطرة على العراق واستغلاله وكل منهما كان يرفع سيف الاسلام على روؤس المسلمين للدفاع عن طائفة دون أخرى.

اما مدينة بابل فكانت نموذجا اعلى للمدينة الشرقية القديمة، وهو نموذج خاص ببلاد الرافدين امكن تطبيقه في الكوفة ثم في بغداد فيما بعد. وكانت بابل مدينة مزدحمة بالبشر ومحاطة بسورين مضاعفين وخاضعة لحراسة مشددة وبهذا يمكن القول بان بابل كانت تجسيما اعلى لنموذج المدينة المغلقة المتشعبة والملتوية الشوارع المنظمة. ورغم التغيرات الكثيرة التي حدثت فيها في عصر الاحتلال الفارسي، وبخاصة في القانون، فقد بقي الاقتصاد الاجتماعي بدون تغير يذكر.

لقد كانت بابل نموذجا للمدينة المشعة ثقافيا، التي امتد نورها الى مدن بلاد الرافدين من الجنوب الى الشمال وحتى الشام، بفضل جاذبية الحضارة والثقافة والفنون وحركية التجارة وتنظيم المدينة. وهي ظاهرة استمرت في المدينة الاسلامية وخاصة بغداد فيما بعد.

غير ان الاحتلال الهلنستي سبب تدهورا كبيرا لبابل افقدها دورها كعاصمة وحاضرة مركزية وحولها الى مدينة ضعيفة ومفككة وفاقدة لمقوماتها الاقتصادية والتجارية والزراعية. وقد حاول بيغانوس عام 275 ف. م ادماج بابل بالامبراطورية الهلينية، غير انه لم ينجح في ذلك، وبقيت بابل حاضرة عظيمة لم تقبل التأثير الهيليني بالقوة، رغم انها كانت احدى الولايات المركزية في الامبراطورية السلوقية التي مثلت الحضارة الهيلينية. وكان الاسكندر المقدوني الكبير يهدف الى جعل مدينة quot;بابلونquot; عاصمة لامبراطوريته الرومانية. وربما كان موته المفاجيء والمبكرحال دون ذلك.

ورغم الضعف السياسي والعسكري والاقتصادي الذي ساد العراق حينذاك، فان العراقيين تمكنوا من الحفاظ على هويتهم الثقافية امام الثقافة الفارسية والاغريقية حتى القرن الاول الميلادي حيث حلت الديانة المسيحية الشامية محل عبادة الكواكب والكتابة الآرامية (السريانية) محل الخط المسماري واصبحت لغة الثقافة والعلوم في الامبراطورية الفارسية نفسها.
وكانت المسيحية تتسرب الى العراق من بلاد الشام الى بابل وميسان والاهواز في الجنوب. ومنذ القرن الخامس الميلادي اصبحت المسيحية ديانة الغالبية من سكان وادي الرافدين. مع تواجد ديانات اخرى الى جانبها كاليهودية والصابئة والمانوية وغيرها.

وقد برزت مظاهر الثقافة السريانية في العلوم والاداب والفنون والعمارة، وبخاصة في بناء الكنائس الشرقية والاديرة التي اتخذت طابعا شرقيا متأثرة بالعمارة البابلية والاشورية. وقد اشتهر في فن العمارة الطراز الحيري الذي تميز ببناء القبب والأواويين والاعمدة المقرنصة التي تخالف الطراز الروماني. الى جانب العناية بالطب والاعشاب والتعليم والمكتبات. وقد غطى الاطباء السريان بلاطات الخلفاء الامويين والعباسيين. كما ساهم السريان في حركة التأليف والترجمة في بيت الحكمة
ببغداد وغيرها.

المصادر:
1- وليم ويلكوكس، من جنة عدن الى عبور نهر الاردن، بغداد،طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات، بغداد 1965
2- عبد الامير الرفيعي، العراق، بيروت 2002، تقي الدباغ، البيئة الطبيعية والانسان، بغداد 1985
3- Lewis Mumford,The City in History,New York,1961f
4- جعيط، نشأة المدينة العربية الاسلامية- الكوفة- دار الطليعة، ط3، بيروت 2005
5 - يوسف عز الدين، الشعر العراقي الحديث والتيارات السياسية والاجتماعية، دار المعارف، القاهرة1977
6- معجم مقاييس اللغة، مجلد 4
7- انظر المنجد في اللغة والاعلام، ومحمد عابد الجابري، العرب والفرس والعجم، فضاءات حضارية.
8- خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الاسلامية، دار سيناء، القاهرة،1990
9- جورج انطون كيراز، عقد الجمان في اخبار السريان، هولندا 1987