في بداية الثمانينات من القرن الماضي كتب الفيلسوف الالماني دونغان في مجلة quot;دير شبيغلquot; الالمانية المعروفة, بان هيغل quot;وجد بان هناك ضرورة لوضع مشروع جديد لفلسفة اجتماعية quot;ثوريةquot; وانه شعر بوجود خلل واضح بين quot;روح الامةquot; وبينquot; السياسة الواقعية للدولة البروسيةquot;، واعترف quot;بان هذا الخلل هو نتيجة من نتائج التشاؤم من جهة والسخف من جهة اخرى، وفي ذات الوقت، مدعاة لامل جديدquot;. كما اضاف دونغان quot;ان هذه الرؤية كانت قد قادت هيغل، كما يبدو، الى مشروعه الجديد الذي تعرض اليه في محاضراته في جامعتي هايدلبرغ وبرلين بين عامي 1917 و 1919.

ان هذه الافكار quot;التقدميةquot; الهامة هي اكتشاف جديد كما يقول دونغان، لم نتوصل اليها الا مؤخرا، دفعت بعدد من الفلاسفة الالمان الى اخضاع مقولة هيغل المشهورة:quot; كل ما هو واقعي هو عقلاني، وكل ما هو عقلاني هو واقعيquot; الى الاختبار من جديد، في محاولة لتطبيقها على افكاره وفلسفته حول الدولة البروسية، التي اشاد بها باعتبارها حقيقة واقعية وعقلانية ومطابقة للعقل بحدود ما هي ضروريةquot;. غير ان الحقيقة الواقعية هي ليست صفة ملازمة لها دوما وفي جميع الظروف والازمان، كحالة اجتماعية- سياسية معطاة، وانما هي على العكس من ذلك تماما، ففي مجرى التاريخ يصبح كل ما كان واقعيا غير واقعي، وبذلك يفقد ضرورته وسمته العقلانية. وهكذا تنقلب مقولة هيغل، بلغة الجدل الهيغلي نفسها الى نقيضها، quot; كل ما هو واقعي في ميدان التاريخ البشري، يصبح مع الزمن عقلانياquot;.

طبعة جديدة من quot;فلسفة الحقquot;

صدرت خلال الثمانينات من القرن الماضي طبعات عديدة quot;لفلسفة الحقquot; لهيغل الذي صدر عام1821، غير ان المهم في الأمر هو صدور طبعة جديدة ومنقحة من الجزء الاول منه، وقام بتحقيقها الفيلسوف الالماني المعاصر ديتر هانيرش. كما صدرت ايضا طبعة اخرى جديدة ومنقحة للجزء الاول منه عام 1983 باشراف العاملين في ارشيف هيغل في جامعة بوخوم بالمانيا واثارت سجالا واسعا بسبب نشرها المحاضرات الكاملة لفلسفة الحق، مضافا اليها محاضرات جديدة لهيغل لم تنشر حتى هذا التاريخ، والتي تم اكتشافها مؤخرا، حيث عثر على محاضرات مخطوطة بخط يد احد تلامذة هيغل المنسيين، والتي كشفت عنquot; هيغل ثوريquot; quot;وهيغل تقدميquot; آخر، غير هيغل الاستاذ quot;الامبراطوري الرجعيquot; وفيلسوف الدولة البروسية و quot; خادم الانتكاسة الرجعيةquot; التي اعقبت اتفاقية كارلس باد وتوحيد المانيا الفدرالية عام 1819.

ومن الطبيعي ان يثير هذا الاكتشاف الهام تساؤلات عديدة منها quot; هل كان لمعارضي هيغل حق في لعنه عند صدور كتابهquot; فلسفة الحقquot; لاول مرة عام 1821؟!
ان اكتشاف quot; هيغل جديدquot; ليس حدثا بسيطا ومعتادا من الممكن ان يمر بسهولة، وان تكرار اطروحاته quot;التقدميةquot; تطرح بالتاكيد سؤالا حاسما آخر هو: هل كان هيغل فيلسوف الدولة البروسية quot; ثوريا حقاquot;؟!

يرى الفيلسوف الالماني بيوغلر، احد المشرفين على ارشيف هيغل في جامعة بوخوم بالمانيا، في مقدمته لكتاب هيغل quot;فلسفة الحقquot;، بان هيغل بحسب المحاضرات التي اكتسفت مؤخرا، قال quot; ان التصنيع يجب ان ينتج الغوغاء والبروليتاريا, ولكن ما الذي يختفي وراء هذه القوى الجديدة المتفجرة؟quot;.
يجيب بيوغلر، بان تاريخ الدولة البروسية يبين لنا بوضوح بان اساتذة الجامعات الالمانية كانوا مضطهدين انذاك وقد طردت إدارات الجامعات الاساتذة السياسيين وغير المرغوب فيهم من الجامعات وفرضت عليهم وعلى الكتب والمطبوعات رقابة شديدة. ومن المفروض ان تكون تلك السياسة قد ارغمت هيغل على الاذعان لها والانحناء امامها.

اما الفيلسوف الالماني إلتينغ فقد اكد بان هيغل كان صريحا في عرض ارائه وافكاره السياسية في جلساته ومناقشاته الخاصة وعلى من يثق بهم وكذلك على تلامذته المقربين في جامعة هايدلبرغ. ولكنه اضاف، بان هيغل طور quot; نظرية حول الثورةquot; مستندا في ذلك على تكراره لمقولته حول مسيرة العقل والحرية. ومن دون شك، فان ما املاه هيغل على تلامذته في هايدبرغ كان فيه كثير من النقد واعادة النظر في بعض مقولاته السابقة. ومما قاله هيغل في محاضراته التي اكتشفت مؤخرا quot;ان تقدم الروح من دون تقدم المؤسسات تقدما منتظما سوف يحدث تناقضا، ومن الممكن ان يتحول هذا التناقض الى مصدر ليس للشغب فحسب، بل وللثورة ايضاquot;. كما ان بؤس الانسانية انما ينتج عن الارتباط بالظروف التي تحدث صدفة. كما quot; ان المجتمع البرجوازي هو الفضاء الذي يفسح المجال لجميع الصدف الطبيعيةquot;.
وبحسب رأي إلتنغ، فاذا كان هيغل قد وضع أهمية فائقة على الدولة، التي هي في جوهرها عقلانية واخلاقية، فعليها اذن اصلاح المجالات التي تقوم بها القوى المتنازعة في المجتمع وتلافي الانفجار الاجتماعي المحتمل، عن طريق تطوير عقلاني لجميع المؤسسات التي تقف امام الاصلاح الاجتماعي.

هيغل والثورة

في مقال حول quot;حق الثورةquot; كتبه رنغهوت في مجلة دير شبيغل الالمانية المعروفة، تعرض فيها الى تحليل هيغل للمجتمع البرجوازي وتناقضاته التي لا ينبغي ان تكون غير ذلك. فقد ذكر هيغل بان البؤس الذي رافق تطور المجتمع البرجوازي هو غير ضروري، لان حق الفقراء لا يمكن تأمينه وذلك بسبب اما لكونهم لا يملكون رأس المال او لعدم توفر المهارات الفنية الكافية لديهم. كما ان حق الحياة هو حق طبيعي ومطلق للانسان وعلى المجتمع البرجوازي ان يهتم بما هو طبيعي وان يساهم في الوصول الى الهدف الذي رسمه وهو تحقيق الحرية الحقيقية. كما اشار رينغهوت، الى ان هيغل تطرق الى الامكانيات التي تتيح فرصا اجتماعية متساوية للفقراء، يستطيعون بموجبها المشاركة في الثروة الاجتماعية ويتمكنون من تكوين انفسهم وتطوير مؤهلاتهم في الحياة العملية. واذا كان مثل هذا التكوين يتطلب رأس مال، فان من واجب الدولة ان ترفع هذا العائق من امامهم، لان الشعور بالظلم وعدم المساواة يوقظ لدى الفقراء والعاطلين عن العمل الشعور بالتذمر. وقد اقترح هيغل تقديم المساعدات الى هؤلاء الفقراء عن طريق quot; الاعمارquot; الذي هو ضروري لشعب ذي صناعة متقدمة، ومن اجل ضمان تحقيق مطالب جميع مواطني الدولة واكتساب جوهرهم.

وفي المحاضرات التي اكتشف مؤخرا دافع هيغل ايضا عن quot; الحق الشرعي للفقراءquot; وتكلم عن العلاقة الوثيقة بين الفقراء والثورة وقال بان quot; الثورة هي ليست حقيقة تاريخية وضرورة فحسب، بل هي حق شرعي quot; منطلقا من تحليله للمؤسسات التي سيطرت على المجتمع انذاك، معتبرا quot; ان وضعية الفقراء والاغنياء هي فساد مزدوج من الممكن ان يهدد جوهر الاخلاق في المجتمعquot;.

وهكذا يظهر لنا هيغل جديد يتكلم عن البؤس الظاهري للفقراء وعن التجريد الاخلاقي الذي ينبثق عنه. فهو يقول: quot; فالفقير والعاطل عن العمل هو شخص مخدوع في شرف وظيفته، مثلما هو مخدوع في اعتراف الآخرين به، وان شرف اية وظيفة هو الذي يحقق وجود الفرد في المجتمع.

كما ذكر هيبوليت، بان هيغل صدم من quot; مجتمع السوقquot; الذي ينبغي ان يحقق فيه الافراد حريتهم الفردية والذاتية ووصفquot; التمزق الداخليquot; الذي ساد مدينة quot;ينَا quot; الذي يقوم على مبدأ quot; دعه يعمل، دعه يمرquot; وكانه quot; دراما المجتمع الحديثquot;، حيث ان تبدلات السوق العمياء سوف تتحكم بالتدريج بطبقة كاملة من الفقراء، في الوقت الذي يكدس فيه بعض الناس الاموال الطائلة، بحيث يتحول الاسراف في الغنى والفقر الى تمزق داخلي كبير يطال الارادة الاجتماعية وتتحول بالتدريج الى حقد وتمرد داخلي. كما ان هذه الوضعية تعكس تناشزا في طبيعة المجتمع البرجوازي, وتدفع الى quot; جواز ثورته الداخلية، لان للفقير وعيه الحر غير المحدود ايضاquot;.

ومثلما تكلم هيغل عن الثورة في محاضراته في هايدلبرغ تكلم عنها في برلين ايضا، حيث قال، بان الثورة تتفجر عندما لا تتطابق مؤسسات الوجود الاجتماعي مع الوعي الذاتي للفعل وحرية وضمير الروح الانسانية. فالفقير معرض دوما الى بؤس طبيعي، مثلما هو معرض الى صدفة انسانية، ومن هنا تنشأ ضرورة الدعوة الى تطابق الوجود الظاهري بالوعي الذاتي. كما قالquot; ليس للفقير حق غير حريته في الوجود، فاذا قمعت الحرية الفردية فسوف يختفي، في الوقت ذاته، الاعتراف بالحرية العامة في المجتمع، ومكان ذلك سيحل الشعور بالغوغائية بين الفقراء والاغنياء.. وان عدم الاعتراف بهذا الحق وفوضوية الفقراء التي تنتج عن استلاب حريتهم تدفع الغوغائي الغني ايضا لان يصبح خارجا على القانون. ومقابل ذلك ينشأ الفقر من الصدفة، مثلما ينشأ عن القهر الاجتماعيquot;. وقد علق هاينرش على ذلك بقوله quot;بان الحق الشرعي للفقراء هو اعلان عن الحق ضد المجتمع نفسه، الذي رفض ارادة الفقراء ووجودها وكذلك تنفيذ تحقيقهاquot;.

ثورة الفقراء

ان اراء هيغل حول ازمة المجتمع البرجوازي وعدم تكامل نموه ووعيه وكذلك اراءه في شرعية
quot; ثورة الفقراءquot; لم تكن ماركسية متقدمة ولم تكن نداءا لثورة اجتماعية تهدف الى قيام quot; دكتاتورية البروليتارياquot;، لانه، بالرغم من كل هذا وذاك، كان قد وقف ضد سلطة الشعب في دفاعه عن الملكية البروسية. وبالرغم مما قاله في محاضراته في جامعة هايدبرغ عام 1817 حول الديمقراطية quot; بكونها بداية الارادة , غير ان الديمقراطية لا يمكن ان تقوم في دولة نظامية شمولية، وفي ذات الوقت، فبدون ديمقراطية لابد وان تنشأ صراعات مخيفةquot;. واخيرا ان مقولته الاخيرة: quot; بان حق العمل هو شرط لديمقراطية حديثةquot; تكفي لان تتركنا نشك، بان هيغل لم يدرك بحق قوة الانفجار الاجتماعية التي افرزتها الثورة الصناعية وكذلك التحولات الكبرى التي صاحبها في المجتمع البرجوازي الجديد. وكما قال هيغل في كتابه quot;فلسفة الحقquot;، quot;ان بوم منيرفا لايبدأ بالطيران الا في بداية الغسقquot;.

ان فلسفة التاريخ عند هيغل،كما يقول ماركس، هي آخر تعبير حصيف بلغ اعلى مراحل الصحة والصفاء التي توصل اليها الالمان في كتابة التاريخ، التي لا تعني بالشؤون الواقعية والمصالح السياسية وانما بالافكار المجردة. ولكن المغزى الحقيقي والسمة الثورية للفلسفة الهيغلية، التي كانت نتيجة لمجموع الحركة الفكرية منذ كانت، تتمثل بالتحديد في انها وضعت وبصورة نهائية حدا للصفة النهائية القاطعة لكل نتائج الفكر والنشاط البشريين. ومن هنا فان الجانب الثوري في فلسفة هيغل يصبح مخنوقا تحت ضغط تضخم جانبها المحافظ.. ومع ذلك، فان ذلك لا يمنع فلسفة هيغل في ان تعانق ميدانيا اوسع بما لا يقارن مع اية فلسفة سابقة وان تنمي ثروة في الفكر مازالت تدهشنا حتى اليوم. وبما انه لم يكن عبقرية خلاقة فحسب، بل عالما موسوعيا ايضا، فان اعماله تشكل عصرا اذا تغلغلنا بعمق اكثر في الصرح الجبار، نكتشف فيه كنوزا لا تحصى ما تزال تحتفظ حتى اليوم بقيمتها.. وان هيغل رغم ومضات الغضب الثوري الكثيرة في مؤلفاته كان يبدو،في الحاصل، اكثر ميلا الى الجانب المحافظquot;.

ان الجانب المحافظ في فلسفة هيغل يظهر بوضوح في مقولته الشهيرة: كل ما هو واقعي هو عقلاني، وكل ما هو عقلاني هو واقعيquot;. ان هذه الفلسفة تعرض نفسها كفلسفة مادية للقرن التاسع عشر وترتبط بنظام مثالي وتتماثل مع المخطط المثالي للتاريخ، الذي خطط له هيغل. فالتاريخ هو تحقيق للعقل وهو بذلك تقدم دائم، حتى لو كان ذلك على حساب الفرد، والعقل لا يساعد الذات على التنوير، كما عند كانت، وانما هو مبدأ تاريخي. والتاريخ هو العقل الواقعي او الواقع العقلاني، كما في مقولة هيغل المشهورة quot;الحقيقي هو الكليquot; التي تضع فلسفة التاريخ في الصدارة.

ان هذه المقولة، بحسب هوركهايمر، تعكس مظهرين مختلفين في الفكر الهيغلي: مطلقا موجودا في الفكرة وبشكل ماهوي، وفلسفة للتاريخ تفهم ما هو موجود وما كان موجودا وان تبقى الاولى على صحته بمقدار تشبثها بما هو معطى. وهنا يبدو لنا هيغل وكانه من فلاسفة القرن الثامن عشر، مع انه يتعارض معهم جذريا.

ومع ذلك تبقى أهمية هيغل ومنظومته الفكرية بالنسبة للفلسفة عموما من الوضوح الصارم الذي ربط به الميتافيزيقيا بالاسطورة المثالية المتعلقة بوحدة الفكر والوجود. ولان الميتافيزيقيا تنزع الى ان تكون معرفة الواقعي، الذي يؤسس الدراسة العلمية للعلاقات العيانية والذي من شأنه الا يتوقف على هذه الاخيرة، التي هي عند هيغل الغاء اثباتها لنظام حقيقي للعالم، وهي المهمة التي على الفلسفة ان تقوم بها. وان الطابع التجريبي في عمله، هو وحده كاف لان يجعله يقف في صف العظام من بين اولئك الذين درسوا التاريخ والمجتمع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.


المصادر:

,
Hegel,G.F., Vorlessungen, Bd 1 , Naturreeht und Staatswissenschaft,1817-1818, Flix Meiner Verlag, Hamburg 1983
Negel, Vorlessungen Zur Rechtphilosophie, Der Spiegel, No. 52, Hamburg1983
Ilting, Karl, Vorlessungen Zur Rechtsphilosophie, Der Spiegel, Nr. 13 und Nr. 52, 1983
Ringghuth, Rudolf, Recht Zur Revoluthon, Der Spiegel, Nr, 52, 1983,
Dongan,Philosophiedes Rechtes, Der Spiegel,No.52, Hamburg1973

Heinrich, Ditrich, Hegels Vorlessuugen Von 1918-1920, Frankfurt, 1983,
كارل ماركس وفردريك انجلز, الآيديولوجية الالمانية, دار الطليعة, بيروت 1974
ماكس هوركهايمر, بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية, هيغل ومشكلة الميتافيزيقيا, بيروت 1981.