ثمة تحول في اهتمامات المجتمعات المعاصرة. فقد حدث ان نحيت الفلسفة وابعدت عن مواقعها في المجتمع الاستهلاكي الجديد، فكرا وممارسة، ولم يعد لها مكان سوى في الدوائر الاكاديمية. فالفلسفة ومنذ امد بعيد، لم تعد سوى ترف فكري في مجتمع الوفرة والاستهلاك السريع. وعدم الاهتمام بها انما يعود، وبالدرجة الاولى، الى كونها لم تعد سوى خادمة للسياسة، بعد ان انهارت كثير من الايديولوجيات القديمة ووقف العالم على بداية نهاية الحداثة واصبح علم الاجتماع الوظيفي وعلم السياسة علما احتراف وعلم المستقبل موضة جديدة وارتفعت التجريبية الى مستوى الممارسة الخالصة التي تؤمن فقط بما هو قائم ومعيشي. وهذه جميعا نظريات عامة تقف بعيدا عن الوقائع الحقيقية. كما ان ظهور طرائق جديدة في السياسة والاقتصاد والتقدم الهائل في العلم والتقنية، وبخاصة في تكنولوجيا وسائل الاتصال الالكترونية، اكسبت ثقة المواطن العادي. والحال ليست التكنولوجيا هي هدف الانسان، وانما تحقيق السعادة الممكنة. فالتكنولوجيا هي مجرد وسيلة، وحين تصبح هدفا بذاتها فانها تتحول الى تقنية آلية. واذا انتصر العقل الآلي فلماذا هناك فلسفة؟!
الفلسفةـ كوعي عقلاني تنويري ونقدي _ وكموقف للانسان من العالم ومن الاخر، من الممكن ان تتحول اهدافها المبدئية ونشاطاتها في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد، او اي نظام شمولي غير متغير، الى عامل ازعاج ومشاكسة، لان الفلسفة الحقيقية تهدف، قبل كل شيء، الى تعريض النظام القائم الى التساؤل والنقد. هذه هي مهمة الفلسفة عند جورج لوكاش وارنست بلوخ ويورغن هابرماس، اولئك الذين لم يستمع الى كلامهم سوى القلة القليلة من الناس، لان كلامهم غير مرغوب فيه. وهكذا كانت الفلسفة عند رواد مدرسة فرانكفورت، الذين طوروا نظرية نقدية خلال منتصف القرن الماضي في الفلسفة وعلم الاجتماع. يقول هوركهايمر ان هدف الفلسفة هو نقد السلطة الكليانية لآلية العقل التي ساعدت الفلسفة التقليدية على الافتتان بها، لان النقد الواعي ينبغي ان يعكس الوضع القائم لاي نظام، وبذلك يستطيع تعرية سوء التنسيق للمدنية المعاصرة بقيمها ومعاييرها واخلاقيتها.
ان المبادئ العظيمة التي جاءت بها الحداثة تظهر اليوم مشوهة. وهذا التشوه انما يعكس في الحقيقة، احتجاج الطبيعة ضد الانسان وطرق استغلاله لها وضد حالة القهر والبؤس التي تلفه، وهي الشهادة الوحيدة المعبرة التي يمتلكها الفلاسفة اليوم. ومع ذلك ينبغي على الفلسفة ان لا تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة والحقيقة اللانهائية. وكما يقول هوركهايمر ينبغي ان يقاس محتوى الحقيقة للافكار الاساسية باصولها الاجتماعية التي نشأت عنها.(1)
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن: الى اي مدى يمكن ان تكون الفلسفة عملية؟ من الممكن ان يفزع هذا السؤال القارئ، لكنه لا يمكن ان يثير تعجبه. فالفلسفة، مثلما يفهمها رواد مدرسة فرانكفورت النقدية، تهدف دوما الى ان تكون وسيلة وليس غاية لذاتها تربط النظرية بالممارسة العملية، وهنا تكمن اهميتها. وفي المقابل فان الفلسفة الوضعية تحاول ان تبني عالما بديلا، وهذا ما وعاه المتسلطون عندما حكموا على سقراط بالاعدام.
ومهما يكن هيغل، في بعض افكاره الفلسفية، رجعيا، فقد اقتنع بقوة الافكار الفلسفية، حتى كتب الى صديقه شيلنغ، وكان في الرابعة والعشرين من عمره: quot;مع انتشار الافكار التي ينبغي لها ان تنتشر، يختفي جمود الافراد الذين يعتقدون ان كل شيء ثابتquot;. ثم كتب بعد ذلك: quot;تزداد قناعتي يوما بعد يوم بان العمل النظري يعكس لنا عن وضعيات العالم اكثر مما تعلمنا الممارسةquot;. واذا كان عالم الافكار عالما ثوريا، فان الواقع لا يستطيع ان يتحمل اكثر من ذلك في وقت اعتبرفيه ماركس quot; ان الثورة تبدأ في دماغ الفلاسفةquot; (2).
وعلى اية حال هناك دوما ربط جدلي بين الافكار وبين تطبيقها في الواقع فلا يمكن فصل احدهما عن الآخر.

ما جدوى الفلسفة؟
ان التطور الجذري للنظرية النقدية في بعديها الفلسفي والسوسيولوجي يرتبط بالاجابة عن سؤال ما جدوى الفلسفة؟
والحال، ان الفلسفة quot;التأمليةquot; قد لا تكون ذات معطى ايجابي اذا لم تستطع تخطي جذورها الذاتية، بحيث تكون لها القدرة على استيعاب موضوعاتها الخاصة والاجابة على التساؤلات المصيرية التي تؤرق المفكر دوما فيها. كما لا يمكن الاستمرار في ذلك الا بفضل سوسيولوجيا نقدية جدلية تضع الاشياء والحياة والواقع موضوع التأمل والتساؤل.
يرى هابرماس، بان على الفلسفة ان لاتتخلى عن منهجها العقلاني لحساب منهج آخر من مناهج العلوم الانسانية، ولكن عليها ان تبقى مرتبطة بالمشكلة الاجتماعية بحيث تكون الفلسفة نقدا جذريا يكتسب محتوى اجتماعيا وسياسيا.
وبهذه المنهجية النقدية الجدلية وحدها تصبح الفلسفة قادرة على ان تكون معاصرة ومحايثة للواقع.

هل الفلسفة ترف فكري؟
وثمة سؤال مهم ومترابط مع ماقبله وهو: هل الفلسفة ترف فكري؟
ان الهدف والوظيفة الاجتماعية الحقيقية للفلسفة هي نقد ما هو قائم، ونفس الشيء ينطبق علي التذمّر quot;السطحيquot; لبعض الناس مما هو قائم بهدف تغييره. لان الهدف الاساسي لمثل هذا النوع من النقد هو تجنب فقدان البشر لافكارهم وطرائق سلوكهم التي تنبثق من المجتمع في شكله التنظيمي الحالي. وكما يقول هوركهايمر quot;يجب ان لا نسمح لأنفسنا بتحويلها الي ابواق دعاية، حتي لو كان للدعاية هدف نبيل ولو لمرة واحدة.quot; .(3)

والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه دوما هو: ماذا يمكن ان تقوم به الفلسفة وماذا ينتظر منها؟ يجيب شيخ الفلاسفة الالمان هانس جورج غادامر:
اولا: هناك مهمة كبيرة وهي أولا ان يتعلم الانسان كيف يتساءل، ولكن ليس عن كل شيء، وان يتمسك منذ البداية بالقواعد الاساسية، وان لا يتوقع بكل بساطة ان يحصل على كل شيء دوما.
وثانيا: وهو الأهم، كيف يمكن للمرء ان يوقظ في الناس روح التساؤل والنقد؟!

والحال ان هناك حاجة الى التساؤل، وان هناك دائما فضولا موقظا لمزيد من التساؤل. واذا لم يعر المستهلك العادي اهتماما خاصا بالفلسفة، فربما يكون الاغبياء من الناس اكثر اهتماما بها، وذلك لأنه ليس لديهم امكانية الاجابة على التساؤلات الفلسفية، وهنا يأتي دور الفلسفة أو ما ينتظر منها على أقل تقدير، خصوصا في ما يتعلق بأشياء مهمة كالموت والاولادة والحياة. كما ان هناك تساؤلات اكثر عمقا وأهمية مثل اشكالية الوعي التي لا تحتاج الى نظرية معلوماتية فحسب، وانما الى منهجية يستخدمها الفلاسفة لمعالجة هذه التساؤلات الدقيقة. وعلى الفلاسفة ان يشرحوا وبوضوح تام بأن ما ينتظرونه لا يمكن تحقيقه، فقد اختلف الأمر اليوم وما ينبغي التحدث عنه هو عالم اليوم الذي يحتاج الى مزيد من التواصل والتفاهم والحوار بين الأنا والآخر واحترام حقوق الانسان.
وأخيرا فالفلسفة لا تعرف الاوامر، ولا ترفع دعوى الخلاص ولا تعرف سوى الفكر النقدي الذي يجلبه الواقع وهي في الوقت ذاته، تهاجم الاساطير والاوهام التي تجبرنا السلطة الكليانية على قبولها. ان هدف الفلسفة، اذن هو تحقيق الحرية والسعادة والامن الداخلي.

1)Horkheimer,M,Kritik der Instrumentalen Vernunft,Ffm 1968
2) Franzel, Ivo,Zur Kritischen Theorie Max Horkheimer, in Kritik u. Interpretation, Lichtenstein, 1970,
3) Jean Grondin, Hans-Georg Gadamer, eine Biographie,Tuebhkgen,1999