لا يتعامل يورغن هابرماس (دسلدورف 1929) الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني المعروف مع الفلسفة كموضوع جامد ومنفصل عن الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ومشكلاتها، لانه يؤمن بان دور الفلسفة ينبغي ان يكون فاعلا ومؤثرا. فهو لا يفصل بين

ملف خاص:
هجمات11 سبتمبر: الإرهاب والحرب المضادة

الفلسفة وبين المجتمع والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، ما دامت هي بحث متواصل في ماهية ودور الانسان ومصيره. ومن هنا يمكننا فهم التزامه السياسي ومواقفه الثابتة ضد العنف والحرب ودعواته المستمرة الى التسامح والتواصل والحوار العقلاني الذي يقود الى المواطنة العالمية التي تتفتح على الاخر المختلف. وربما يعود ذلك الى فترة طفولته ومراهقته البائسة التي عاشها في ظل الحكم النازي ومعايشته للاهوال والكوارث المرعبة التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، اضافة الى كونه آخر اعمدة مدرسة فرانكفورت النقدية في الفلسفة وعلم الاجتماع التي التزمت بقضايا الانسان والمجتمع والعدالة الاجتماعية.
ينتقد هابرماس العولمة حين تعني انفراد الرأسمالية بالسيطرة على العالم وخرق القانون الدولي ويدين السياسة الامريكية حين تتجه نحو الهيمنة على العالم. ومثلما دان هابرماس حروب القرن العشرين لأهوالها ومآسيها، دان حرب الخليج عام 1990 والحرب في كوسوفو وأولى حروب القرن الواحد والعشرين وقال: quot; ان على البشرية ان توجه كل اهتمامها لتجنب نكسة بربرية اخرىquot;. وعلى المرء الرجوع الى التاريخ لقراءته واستقراء احداثه المرعبة. وان اول ما يتعرف المرء عليه في احداث 11 سبتمبر من توترات بين المجتمع الديني والمجتمع المدني كان قد تفجر بشكل مختلف تماما، أولا لأن الارهابيين قرروا الانتحار واستخدموا طائرات مدنية في الهجوم على قلعة الرأسمالية في نيويرك، وثانيا ان كل منا يعرف ما في الكتاب المقدس وكذلك في اقوال اسامة بن لادن. ان الدافع هنا ديني وقناعة دينية، موجهة اساسا ضد الحداثة.quot;فالحداثة المغلوبةquot; هي في الواقع الهدف،لأنها تجسيد لرموزها. ومع ذلك، فاننا حين ننظر الى الهجوم الذي وقع على برجي منهاتن على شاشات التلفاز، نتسابق بنهم مازوخي يعيدنا الى الصورة التي رسمها لنا الكتاب المقدس وكذلك الى لغة الانتقام، والى رد فعل الرئيس الامريكي بوش الأبن غير المسؤول، الذي لا يمثل سوى نبرة مما تضمنه الكتاب المقدس.

والأصولية من جهة أخرى، على رغم لغتها الدينية، هي ليست سوى ظاهرة حديثة في الدول الاسلامية، التي دفعت الى الشعور بان وراءها يكمن دافع انعدام العدالة الاجتماعية وكذلك انعدام وسائل تحقيقها، وكذلك الآيديولوجية التكفيرية التي تختفي ورائها. وهذا يعكس توقيتا غير متوازن بين الحضارة الاسلامية والمجتمع في بلدان القائمين بهذه الاعمال الارهابية الذين صدموا بسرعة مما رأوا من تحديث مادي سريع ومجتمع استهلاكي.

وكان هابرماس في خطابه في كنيسة باول بفرانكفورت، خلال تسلمه جائزة السلام عام2001، دعا الىquot; تقدير ابعاد الاعمال الارهابية التي وقعت في نيويورك وواشنطن تقديرا سليما، حيث قال quot; مثلما توجد اليوم ارثودوكسية متحجرة في الغرب، توجد في الشرق والشرق الاقصى، بين المسيحيين واليهود، وكذلك بين المسلمين. وعلى البشرية ان تهتم، بان تتجنب نكسة همجية اخرىquot;.

عندما سأله احد الصحفيين عن رأيه في الارهاب والحرب، اجاب هابرماس بأن quot;الارهاب له جذور يجب التغلب عليها، ولكن قوام الارهاب هو الفقر والشعور بالاهانة، اما الحرب فليست الحل المناسب للقضاء على الارهابquot;، ومن يريد تجنب الحرب بين الحضارات عليه ان يفكر مليا وبجدلية منفتحة وان يستعيد في ذهنه سيرورة العلمانية في الغرب، ومآسي الحرب العالمية الثانية، التي مثلت منعرجا خطيرا بالنسبة الى اوربا عامة والمانيا خاصة، حيث لم يعرف العالم عنفا يماثل العنف الذي تفجر خلال النصف الاول من القرن الماضي. وبطبيعة الحال، علينا ان لا ننسى القمع والمجازر الفظيعة التي ارتكبت فيه. ان الحرب ضد الارهاب ليست حربا، فالارهاب يعبر عن نفسه اليوم في الصراع بين الحضارات وكذلك بين الدول، ولكن بذهول ومن دون ان يشعر المرء بعواقبه الوخيمة.وعلى العقلانية الغربية ان تراجع قصر نظرها وذلك عبر التعلم من الثقافات الاخرى وعبر تواصل عقلاني وحوار مفتوح. وحين تستحق هذه المواجهة الاسم الصحيح، يتطلب ذلك ان تخرج الى النور العناصر العقلانية المغمورة من التقليد الغربي وان تستخدم امكاناتها الكامنة في النقد و النقد الذاتي وقدرتها على التحول الذاتي حتى تتمكن من رؤية ذاتها بشكل جذري وكذلك الآخر وفهمه بشكل صحيح.
وفي كتابه quot;الدين في المجال العامquot; الصادر عام 2005 شدد هابرماس على المنافع العملية للتسامح الديني واستيعاب التأثير الاجتماعي الهدام لاختلاف الاراء، الذي ما زال قائما. وان الرابطة الاجتماعية التي تربط بين quot;المؤمنينquot;، كأعضاء في مجتمع عالمي واحد يجب ان لا يتمزق.ان هدف التسامح هنا هو تامين السلام الاجتماعي للجميع، وهو كل ما يمكن للمرء ان يطلبه واقعيا. كما ان التسامح وفصل الدين عن الدولة يتطلبا نوعا من التكيف من جانب جميع الاديان والطوائف. وهذا يعني ايضا ترك الذات تتفاعل مع هذه القناعات عن طريق التواصل والتفاهم والحوار بين المجتمعات والحضارات.

وبالنسبة الى العالم العربي يقول هابرماس، بأنه quot;ما زال هناك في العالم (الغربي) من يقول لحظة نكوصنا المظلمة: ان العالم العربي مبني على واحدة من ارفع الحضارات القديمة وان في الاسلام يجد العرب يد العون من تراث ديني مكافئ للمسيحيةquot;. غير ان العرب يواجهون اليوم ارباكا ملحوظا من الحذر والحساسية التي يغمز بها في قضية الصراع العربي- الاسرائيلي، ولكن يجب ان لا يؤخذ هذا بمعزل عن النقد القاسي الذي يوجهه هابرماس الى اسرائيل وسياستها العدوانية و كذلك الى الدول الاوربية في قضايا الهجرة واللجوء والتعدد الثقافي والاعتبارات العنصرية التي تقف خلف هذه المواقف.

والمفارقة، كما يقول هابرماس، هي ان العرب افاقوا فجأة على أنباء الهجوم على برجي منهاتن، واخذوا يشعرون بعمق المأساة التي يعيشونها، ليس ماساة الضحايا فحسب، بل مأساتهم هم، التي تكشف الواقع على حقيقته. فالصدمة نبشت عن الكثير من المشاكل التي تعترض المجتمعات العربية والخلافات والاختلافات بينهم. لقد انتبهوا، ان ما يقولوه لا يتطابق دوما مع ما في الواقع من غياب للحريات وعدم تطبيق الديمقراطية وتطور مؤسسات المجتمع المدني واحترام حقوق الانسان.