بالرغم من سقوط بابل على ايدي الغزاة الفرس والاغريق، الذي احدث تدهورا اجتماعيا واقتصاديا مريعا وشكل اول قطيعة حضارية مع تاريخ العراق القديم التي استمرت حتى قيام الحضارة العربية ـ الاسلامية في العراق، فقد استعادت البصرة والكوفة ثم بغداد دورها الثقافي والحضاري من جديد.

مدرسة النحو في البصرة
تأسست البصرة عام14ه/635م. وقد جرى تخطيطها من قبل عتبة بن غزوان بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب. وقد توسعت واصبحت مدينة عامرة ازدهرت فيها الثقافة والحضارة والعمران ونمت فيها الحركات الفكرية والاجتماعية والثقافية. وفي مقدمة معالمها الثقافية quot;المربدquot; بالبصرة. وهوسوق يلتقي فيها البصريون بأعراب البادية ويتبادلون معهم البضائع ويعقدون فيه المناضرات الادبية ويتبادلون فيه الحديث والشعر. وقد ادى هذا الجو الثقافي الى نشوء مدرسة في النحو خاصة بها سميتquot;بمدرسة البصرةquot; تمييزا لها عن مدرسة الكوفة. حيث وجهت الاهتمام الى تأسيس علم اللغة في عهد مبكر وتطوير قواعد اللغة العربية فانجبت أبا أسود الدؤلي الذي يعتبر مؤسس علم النحو.
وخلال وجوده في العراق لاحظ الامام علي ان عند الناس quot;لحنا في اللغةquot; واراد ان يضع كتابا في أصول العربية. غير انه قدم الى ابي الاسود الدؤلي صحيفة عن quot;الاسم والفعل والحرفquot; وقال له تتبعها وزد فيها ما وقع لك. وأعلم ان الاشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء لا بظاهر ولا مضمر، وانما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر. وقام أبو الاسود الدؤلي فجمع من ذلك اشياء وعرضها على الامام علي فكان منهاquot; علم النحوquot;، وقد سماه كذلك لانه ينحو به منهاج كلام العرب افرادا وتركيبا وجعل للناس حروفا وحدد لها الرفع والنصب والجر. كما انجبت الخليل ابن أحمد الفراهيدي الذي وضع quot;كتاب العينquot; الذي يعتبر من أوائل معاجم اللغة العربية وصنف quot;كتاب العروضquot; quot;وكتاب النغمquot; وغيرها.

الكوفة حاضرة العرب الاولى

وبعد ثلاث سنوات على تاسيس البصرة جعل الخليفة عمر بن الخطاب عام 17ه/638م من الكوفة quot;دار هجرةquot; ومعسكرا للجند ثم اصبحت عاصمة للمسلمين بعد ان اتخذها الامام علي مقرا لخلافته.
وقامت الكوفة في موقع يدعى quot;كوفاquot; او quot;كوثاquot; في الارامية القديمة وتسكنها قبائل عربية من نصارى اليمن وكان فيها أديرة يزاول فيها الطب والفلسفة اليونانية. كما كان لها دور في تجارة القوافل المارة عبر الصحراء.
وبعد ان استوطنها العرب ازدهرت في الكوفة مختلف العلوم والآداب وتطور الخط العربي quot; الكوفيquot; بمساهمة من عرب الحيرة. وفيها عاش ابن مسعود ومعه تيار المحدثين في علم الكلام الذين سبقوا علم الحديث. وفي الكوفة ولد اتجاه الزهد والتصوف على يد الحسن البصري، وتطور علم التفسير والاخبار وجمع الشعر والابداع فيه.وفي العلوم برع جابر بن حيان في الكيمياء.اما في العلوم الدينية فقد نشأت مدارس فقهية على يد الامام جعفر الصادق مؤسس الفقه الجعفري وعلى يد الامام ابوحنيفة النعمان شيخ مدرسة الرأي في الفقه وابو مخنف احد كبار المؤرخين العرب والكسائي شيخ مدرسة الصرف والنحو في الكوفة.

وفي الوقت الذي اسهمت فيه الكوفة في بلورة الثقافة العربية الاسلامية على امتداد القرنيين الاول والثاني للهجرة وذلك باستعادة التراث الشعري العربي، ازداد الاهتمام بتفسير القرآن وتطور علم الكلام وعلم الانساب. وبتطور علم الكلام الذي ارتبط بتطور المجتمع اصبحت الكوفة اكثر عقلانية ونقدا وشكلت البؤرة الاولى والاساس لفكر المعتزلة العقلاني الذي تطور فيما بعد ببغداد.
وفي الكوفة تأسست جماعة أخوان الصفا وخلان الوفا، الذين عرفوا بجرأتهم العلمية وافكارهم النقدية الثاقبة حين جمعوا بين الدين والفلسفة والسياسة في حركة علمية جدلية متقدمة على عصرها وكان من مبادئهم العظيمة دعوتهم الى حرية الفكر والرأي وعدم التعصب لمذهب من المذاهب. وقد اطلق عليهم الفيلسوف الالماني أرنست بلوخquot;أوائل التنويرين في الاسلامquot;.

وتعتبر الكوفة اول عاصمة للخلافة الاسلامية خارج الجزيرة العربية بعد ان نقل الامام علي مقر الحكم من المدينة المنورة اليها. ويبدو ان هذا الاجراء كان ضروريا لمتابعة ما يجري في الاراضي التي تم فتحها من قبل المسلمين عن قرب.وجاء تأسيس الكوفة لسببين مهمين الاول هو عسكري وذلك لتوغل العرب في فتوحاتهم الى مناطق واسعة خارج الصحراء ابعدتهم عن عاصمة الخلافة الاسلامية في المدينة وجعلها قاعدة عسكرية تنطلق منها الجيوش نحو الشرق. وهو ما عبر عنه الخليفة عمر بن الخطاب بقوله: quot;دار هجرة ومنزل جهاد..يحرزون ثغورهم ويمدون أهل الامصارquot;.اما الثاني فهو جغرافي بسبب انتقال العرب من بيئة صحراوية الى اخرى حضرية سهلة لم يألفوها فغيرت من صحة الجند العرب وسلوكهم، مما جعل سعد بن أبي وقاس يتخذ من الكوفة quot;دار هجرة وقيرواناquot;، بعد ان كتب اليه الخليفة عمر:quot;ان العرب بمنزلة الإبل، لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل..ولا تجعل بيني وبينهم بحراquot;.وهكذا اختيرموضع الكوفة لتوفر جميع الشروط فيها وسميت حاضرة العرب الجديدة، كما ذكر البلاذري.

وشيئا فشيئا تعَود الجند العرب على الحياة في الحواضرفاستبدلوا الخيام ببيوت من القصب والبردي اولا ثم استبدلوها ببيوت من اللبن والطين ثم الآجرثانيا، كما كان جاريا في بلاد الرافدين.
وهكذا رسمت الكوفة طريقها نحو المدينة الحضرية حيث بنى سعد اولا المسجد ثم دار الامارة وبيت المال ثم وزعت قطع اراضي لسنكى القبائل حولها واحيطت بعدها بخندق لحمايتها. وبمرور الزمن حدث تمازج وتزاوج وتثاقف بين العرب الفاتحين وسكان العراق من العرب وغيرهم، بحيث بقيت الجماعات التي لم تعتنق الاسلام على مسيحيتها ويهوديتها وصابئيتها، وكان المجال امامها مفتوحا لكي تلعب دورا هاما للمشاركة الفعالة في تطويرالثقافة والحضارة العربية- الاسلامية.


وبالرغم من ان الكوفة هي امتداد غير مباشر لمدينة بابل وتطور الحركة العلمية والثقافية فيها، فان العرب لم يبدو أي اهتمام بالعلوم والاداب والفنون البابلية وتطويرها مما سبب غياب الكثير من المعارف العلمية والفنون والملاحم والاساطير واندثارها وعدم الاهتمام بما تبقى منها في الذاكرة الشعبية مع أهميتها الحضارية والعلمية والانثروبولوجية وذلك لاسباب عديدة من بينها موقف الاسلام من اساطير الأولين التي أخرجها المؤرخون العرب والمسلمون من اطار الادب والعلم والتاريخ والاجتماع باعتبارها ترتيط بالوثنية، الى جانب اعتبارات اجتماعية وسياسية وثقافية اخرى. ولذلك فان الموقف من التراث الحضاري لوادي الرافدين بقي سلبيا ومهملا ومغمورا حتى العصر الحيث.

المصادر:
1-الفهرس لابن النديم
2-هشام جعيط، الكوفة-نشأة المدينة العربية الاسلامية، بيروت1986
3-طبقات فحول الشعراء لابن سلام
4-مهذي المخزومي، مدرسة الكوفة في اللغة والنحو، بغداد 1955
5-
J.Van Ess,Theologie und Gesellschft im 2. Und 3. Jahrhundert Hidschra,Eine geschichte des religioesen Denkens im fruehen Islsm,Bd 1-6,Vorwort,Berlin,Beirut,1992-1997