ما هو العنف؟
بالرغم من اختلاف الاراء في تفسيرالعنف واسبابه ودوافعه واهدافه القريبة والبعيدة، فان اغلب علماء الاجتماع والفلاسفة والانثروبولوجين متفقون على انه ظاهرة اجتماعية وانه آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تواجه الانسان، ومن اجل البقاء والاستمرار في الحياة. وان هذه الآلية الدفاعية هي احدى الطاقات الغريزية الكامنة في الكائن الحي والتي تستيقظ وتنشط في حالات دفاعية او هجومية، يستوي فيها الانسان والحيوان على حد سواء.
والحال ان اشكالية العنف هي اكثر تعقيدا وغموضا، فالعنف يجد في النفس البشرية دوافعها، التي هي مصدر القوة والسيطرة والعدوانية، التي تتبدى في القابلية على الاستخدام غير المشروع للقوة، للضغط على الاخر واخضاعه. كما ان القابلية على فرض القوة تتخذ في اكثر الاحيان مسميات عديدة وتتلبس أوجه متعددة. فهناك من يمارس العنف بالقوة التي تضبط وتنظم وفق التشريعات الدينية والقانونية والعرفية. ومثال على ذلك الجيش الذي يمثل الصورة النموذجية للقوة من جهة، والجماهير التي تمثل الصورة المعاكسة لها من جهة اخرى. ومن هنا يظهر لنا بان العنف هو القوة التي تهاجم بصورة مباشرة افرادا أو جماعات بقصد السيطرة عليهم بالقوة ومحاولة اخضاعهم للهزيمة. غير ان هذا المعنى الضيق للعنف يرتبط فقط بالعنف الجسدي. ومن هنا فان جوهر العنف يتضمن احتمال شر ما يوقع الآذى بالاخر، وفي ذات الوقت، فان هذا العنف بالذات يطرح مشكلة اخلاقية، حيث يظهر العنف هنا كتطاول واعتداء على حقوق الانسان.
وبصورة عامة، فان العنف، الذي ينطوي على ممارسة القوة والضغط والاكراه ضد الاخر، اذا كان جسديا او نفسيا او اجتماعيا، فانه في جميع الاحوال يطال ما هو اساسي في الشخصية الانسانية. ولذلك فان جميع الاديان والرسالات والفلسفات والنظريات الاجتماعية تدين العنف وتعتبره من اعقد المشاكل والعقبات التي تواجه البشرية، لان العنف والعنف المضاد الذي ينتجه، انما يخلفان وقوع ضحايا بشرية هائلة وكوارث مادية ومعنوية كبيرة، خاصة عندما يتحول العنف الى فكرة أو أداة عقائدية ورفعها الى مستوى المقدس.

العنف المقدس
هناك عناصر كثيرة تضمها دائرة العنف، ومنها العنف المقدس باعتباره وجها من وجوهه. وبالرغم من ان هذه الوجوه في جوهرها ذات طبيعة دينية واجتماعية ونفسية، كاستخدام الشعائر والطقوس والمراسيم الدينية التي تصاحبها التراتيل والرقص والتعاويذ وتقديم الاضحية الرمزية او غيرها وحيث تراق دماء كثيرة خلال اجراء تلك المراسيم والطقوس. وغالبا يرافق ذلك نوبات هستيرية واضطرابات سايكو ndash; فيزيولوجية وهلوسات بصرية وهيجان جماعي ينعدم فيه احيانا الوعي والاحساس بالألم، نتيجة الضرب والجروح والحروق والصدمات النفسية. كما يصاحب ذلك جلد الذات وإيلام الجسد كالضرب المبرح على الرأس أو الأرجل حتى تسيل منها الدماء، كما في عيد القيامة عند المسيحين وفي احتفالات عاشوراء وتطبير الرؤوس بالقامات وضرب الظهور بالزناجيل عند الشيعة وغيرهم من الشعوب.
هذه الانفعالات الجماعية تحمل في الحقيقة بذور عنف يتطلع للانفجار، ولكنها من جهة اخرى، تكون صمام امان للتنفيس عن المكبوتات بدل الانفجار والتدمير. ولهذا تكون لغة الطقوس ضرورية احيانا، غير ان المبالغة فيها يخرجها عن محتواها وأهدافها وهو التعالي والتسامي الذي تشحنه رموزها.
والحال ان العنف المقدس هو عنف جماعي دوما ويشترك فيه الجميع. وكل مجموعة يسيطر عليها العنف تبحث عن quot;ضحيةquot; أو quot; كبش فداءquot;، من شأنه ان يقدم قربانا على مذبح العنف، وهو يعني وضع حد للعنف عن طريق الاجماع الذي يحققه.
والطقس هو العنصر الدائم في جميع الانفعالات الجماعية وبخاصة الطقس الديني، الذي هو عبارة عن مجموعة من الممارسات النمطية المتوارثة التي من الصعب تغيرها وتعديلها.
وكانت التضحية بالأشخاص احدى الطقوس الدينية البدائية لدى الشعوب القديمة. ففي اليونان القديمة كانت طقوس التضحية الدينية محور الثقافة الاجتماعية حيث كانوا يقدمون ضحية بشرية كقربان للآلهة ndash; وهو في الحقيقة ارهاب غير مباشر للبشر من اجل الاستمرار في اخضاعهم والتسلط عليهم، لان السلطة كانت تقوم على ركيزتين اساسيتين هما الدين والقوة، اذ كان الحاكم آنذاك يأخذ احدى صيغ الإله. وكان طقس quot;الفارماكوسquot; في اليونان القديمة يقام به عندما تحل المحن والكوارث بمدينة ما، حيث تتم التضحية بانسان اوحيوان محتفظ به لهذا الغرض.

خداع العنف
غير ان تجارب البشرية افرزت في الاخير فكرة جديدة تمثلت في ابدال الضحية. ففي الاساطير الاغريقية كان الأخوة متعاونون تقريبا وعلى الدوام مثلما انquot; المؤمنون اخوة quot; في الديانات الابراهيمية التوحدية. ومع ذلك، فانهم كبشر مدعوون لممارسة العنف ضد بعضهم البعض، ولا يمكن تبديد هذا العنف الا بضحايا اخرين يكونون طرفا ثالثا ويتم التضحية بهم، لأنه لا يمكن خداع العنف الا بتقديم بديل عنه، ولابد وان يأتي ذلك من الخارج، أي من الجماعة او القبيلة. وهكذا، فان آلية القتل المؤسس، التي اكتشفها الناس كدواء مؤقت (للعنف الجماعي)، تمت بنقل العداء الى ضحية واحدة وحيدة، اصبحت موضع كراهية جماعية، وأضفت عليها صيغة quot;العدوquot; من الجماعة كلها، وبهذا تم تخفيف أو ايقاف الصراع والعنف بين الجماعات.
من قراءتنا لجميع الاساطير القديمة يظهر لنا بانها تضم بين طياتها مراحل تطور العنف المقدس. وفي المسيحية مثال متطور وواضح يعبر عن طقس quot;كبش الفداءquot; كما جاء في العهد الجديد. وكذلك اسطورة تضحية النبي ابراهيم بكبش بدلا من ابنه اسماعيل.

العنف المؤسس
من المعروف عند العديد من الشعوب البدائية القديمة، ان الانسان ما فتئ يقلد ويحاكي بوعي وتصميم فعل القتل الجماعي، الذي كان في البداية تلقائيا، ثم اصبح بالتدريج مؤسسيا، اذ يتم اختيار ضحية ما، ويتم التضحية بها في طقس فداء جماعي. ان هذه الطقوس هي تكرار رمزي لعملية القتل المؤسسي التي غالبا ما تؤول على انها بمثابة تجلي للآلهة. وبهذا يصبح فعل التضحية بذبيحة آلية او ميكانزم للاحتفاظ والاختزان، فكلما مارس مجتمع ما فعل التضحية بكبش فداء تناقص مستوى العنف فيه.
هذه الآلية السايكولوجية (فعل التضحية) تعبر عن رد فعل انعكاسي. فمثلا، حين نكون في حالة غضب وانفعال نركل ما امامنا بضربة قدم أو نرمي ما في أيدينا بقوة. وهذه الضربة تجعلنا نهدأ ونسكن. وبالرغم من اننا نعرف بان هذه النوع من رد الفعل لا معنى له، ولكن هذا على أية حال يمنعنا من الاعتداء على الاخر.
ان طقوس التضحية هي امتداد وتطور جماعي لرد الفعل التلقائي، وهي بمعنى آخر الرمز البديل عن الشر الذي هو حاضر في كل فرد وفي كل مكان. وعلينا الرجوع الى الاساطير القديمة التي هي المفتاح الرئيس لدراسة تاريخ العنف، وبصورة خاصة السياسي والديني منه، الذي يطال تاريخ جميع الحضارات القديمة والحديثة.
وخير مثال على العنف المؤسس، نلاحظه في ملحمة الخليقة البابلية التي اطلق عليها البابليون عنوان quot;حينما في العلىquot; التي تحدثنا عن سؤال البداية، أي عن البدايات الأولى للخليقة، حيث لم يكن هناك سوى quot; ابسوquot; و quot; تيامةquot; ومنهما تحدر الى الوجود كثير من الابناء. ولكن عندما كثر ضجيج هؤلاء الابناء الذي يزعج الأب quot; ابسوquot;، قرر بالتعاون مع وزيره quot;مموquot; التخلص منهم. ويذهب quot; ابسو quot; الى الأم المقدسة للتشاور فيفضي لها بعزمه على القضاء على الابناء، ولكن quot; تيامةquot; الأم، تنهره بقولها quot; ما حدا بنا لكي نهدم ثمرتنا التي انتجناها quot;. اما وزيره فيشير عليه بقتلهم حتى ينعم بالراحة. غير ان الابناء يتمكنون بفضل quot; أياquot; وتدبيره وسحره من قتل الأب quot; ابسوquot; والحلول محله.
وقد استشاطت الأم quot;تيامةquot; غضبا على قتل زوجها فتنصب الشيطان quot; كنكوquot; خلفا له وتسلمه قيادة الجيش المؤلف من وحوش مسعورة يرتعد منها الابناء ويقررون ان يتصدى quot; مردخ quot; لتيامه وجيشها المرعب. ويقبل مردخ ذلك بشرط ان تكون السيادة له على الجميع فيقهرها ويقطع أوصال جسدها.
وهكذا يشكل العنف بنية اسطورة الخلق حيث يقدم quot; الأب الكليquot; قربانا على مذبح النظام الذي يرسي دعائمه quot; أياquot; إله الحكمة، بكل ما يمثله هذا الذبح من حضور أوديبي / فرويدي. ويظهر ذبح ابسوquot; بوضوح كنتيجة لصراع سياسي على السلطة، بين آلهة العالم القديم والآلهة الجدد، الذين تكاثروا مع الزمن واخذوا يقضون مضجع السكون ويزعجون الإله quot;ابسوquot;. كما جاء في ملحمة الخلق البابلية:
لقد صالو وجالو في المقام المقدس،
وما وسع quot; ابسو quot; ان يخفف من ضجيجهم
ورضخت تيامهquot; الى افعالهم، ولكن سلوكهم آذى quot; ابسوquot; اذ استهتروا في فعالهم.
ومنذ بدء الصراع السياسي بين آلهة النظام القديم وآلهة النظام الجديد ظهر الصراع كنتيجة لهذا العنف الذي انتهى بذبح ابسو. ان هذا الذبح الميثولوجي هو مكسب لضمان سير نظام ثقافي جديد يقوم على الاختلاف والوقوع في دائرة العنف الجماعي حيث مارس الجميع العنف ضد الضحية، من اجل وضع تنظيم جديد للعالم، كما عمل مردخ، وتأسيس ما يطلق quot; العنف السياسي المؤسسquot;. وبهذا يصبح القتل الجماعي سببا في اعادة بناء العالم، وشاهدا على انه لا ولادة بدون ألم.

المصادر:
1-تركي علي الربيعو، العنف والمقدس والجنس، بيروت 1995
2-ابراهيم الحيدري، النظام الابوي واشكالية الجنس عند العرب، بيروت 2003
3-عصام عبد الله، ثقافة الانتقام (كتاب ايلاف في 26 مايو 2007)
4-فرنسوا لوجارنو، وجوه العنف المتعددة، 1972
5-رينيه جيرار، العنف والمقدس، دمشق 1992