على هامش مؤتمر اصلاح التعليم العالي- بغداد
النظرية والممارسة
هناك مبدأ عام تقوم عليه عملية التربية والتعليم المستدامة هو: quot;علم الانسان كيف يتعلمquot;، أي كيف يدرس ويفهم ويستوعب ويتابع وكيف يصحح خطأه وكيف يمارس ما تعلمه في حياته العملية. وينطبق هذا المبدأ مع مثل صيني يقول: quot; لا تعطيني سمكة، بل علمني كيف اصطادها quot;.
هذان المثلان يوضحان العلاقة الجدلية بين المعرفة النظرية وبين تطبيقاتها العملية في الواقع، وبمعنى آخر أهمية الممارسة في توصيل المعرفة وترسيخها في الذهن. وترتبط الممارسة العملية بالمنهج والمنهجية، التي ترتبط بطرق تحصيل المعرفة العلمية. فمن الملاحظ ان الواقع التربوي والتعليمي في العراق، منذ المراحل الدراسية الاولى وحتى الدراسات العليا، تهيمن عليها علاقة سيطرة وخضوع تنعكس غالبا على الطريقة التي يتم بها توصيل المعرفة، اذ ان طرق التدريس وآلياته غالبا ما تقوم في جو تنعدم فيه الحرية والاستقلالية ويتم فيها توصيل المعرفة بأسلوب يقوم على التلقين وحشو الذاكرة والحفظ على ظهر قلب وبطريقة التطويع والتطبيع، التي تنتج بالضرورة عقلية تتقبل ما يقدم اليها من معلومات وكانها مسلمات نهائية من دون فهم وتفكير ونقد، وهو نموذج واضح من السيطرة القهرية والعقاب غير المباشر والمفروض من فوق، حيث ان سلطة المعلم لا يمكن ان تناقش أو ترد، وعلى الطالب ان يطيع ويمتثل، وخاصة في جو ينعدم فيه التفكير العقلاني النقدي القادر على اعادة تفسير الواقع وفق العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة.
ان طريقة التلقين والحفظ تمنع الطالب من التفكير بحرية وتحريك ذهنه وشحذه، وتضعف في ذات الوقت قدراته على استيعاب المعلومات وتجعله سلبيا غير قادر على الفهم والتحليل والنقد ومواجهة الامور المستجدة بتبصر، بل وتدفعه الى الجمود الذهني والتعصب والتطرف احيانا، وهي طريقة تؤدي، في اغلب الاحيان، الى انقسام الشخصية وازدواجيتها، واحدة متسلطة قمعية واخرى نكوصية عاجزة. كما ان هذه الازدواجبة تؤدي الى شل القدرات الذاتية للفرد وتجعله محبطا يتحين الفرص المناسبة للانتقام والثأر للذات العاجزة. وهي احدى اسباب نشوء الميل الى التعصب والعنف والعدوانية. وكما قال برتراند رسل: quot;الحرب تبدأ من رياض الاطفالquot;. فحين يتعلم الاطفال الصغار التلقين والتطبيع والتطويع، بدل التفكير الحر والنقد والتنافس والابداع، يتولد عندهم خوف وصراع وعدوانية فيردون العنف بعنف مضاد.
التنشأة الاجتماعية
يشير جون لوك (1632-1704)، الى ان الطفل يولد ودماغة كالصفحة البيضاء لم يخط عليها حرف ولا فكرة وسرعان ما تمتلىء هذه الصفحة بالكلمات والافكار والصور بواسطة الخبر والتجارب التي تمر على الانسان منذ اللحظات الاولى من حياة الطفل. ولذلك قيل quot;العلم في الصغر كالنقش على الحجرquot; كتعبيرعن التأثير الهام والبالغ للتنشئة الاجتماعية والتربية والتعليم على الاطفال حيث تترسخ في اذهانهم المعارف والمعلومات والخبر التي يتلقونها منذ سنوات الطفولة الاولى وتنقش في عقولهم وتبقى ملازمة لهم حتى الكبر، بالرغم من انها تهذب وتشذب عن طريق القيم والمعايير. كما ان كثيرا من الرغبات التي لا يستطيعون التعبير عنها أو اشباعها تترسب في اللاشعور وتظهر في السلوك والمواقف حين تثيرها دوافع واسباب اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية وغيرها. وبذلك تظهر هوة بين النظرية والممارسة، أي بين ما تعلمه الفرد وبين تطبيق ذلك في الحياة اليومية. فحين ينتقل الفرد الى الحياة العملية، فان هذه الهوة ستكون كبيرة، و تكون اكبر بين ما يتعلمه في البيت والمدرسة والجامعة وبين ما يمارسه في البيت والوظيفة والعمل. والحقيقة فان ما يحصل عليه التلميذ والطالب والمتخرج الجامعي من معارف نظرية مكدسة في دماغه قد لا يستطيع تطبيقها عند نزوله الى الحياة العملية، اذ لا يجد في اغلب الاحوال والظروف، الامكانيات المناسبة لتطبيقها او تطويرها او حتى الحفاظ عليها وعدم نسيانها. والامثلة على ذلك كثيرة. فالطفل يتربى في البيت على ما هو حلال وما هو حرام وما هو عيب وما هو واجب، دون ان يفقه اسباب ذلك. والتلميذ يحفظ النصوص والقصائد الشعرية، كالمعلقات وبعض النصوص النثرية القديمة، دون فهمها وتحليل معانيها واهدافها واستيعابها، التي تحول الانسان الى ببغاء يردد ما يسمع وما يحفظ دون فهم واستيعاب. وهناك عدد كبير من خريجي كليات الحقوق او الاقتصاد او الفيزياء اوالرياضيات وحتى خريجي اللغات الاوربية الذين يتم تعينهم في دوائر ومؤسسات ليس لها علاقة بدراستهم او تخصصهم، سرعان ما ينسون ما تعلموه خلال سنوات الدراسة بعد مرور بضعة سنوات على تخرجهم. وفي اغلب الاحيان يصطدم المرء بالواقع، حينما يحاول تطبيق بعض المفاهيم التي تعلمها والتي ترتبط باحترام المهنة والحرية والاستقلالية والوطنية والديمقراطية وحرية البحث العلمي واحترام الآخر المختلف وغيرها، خصوصا عندما يجد انها تتناقض مع ما في الواقع من ممارسات ومع ما تعلمه اثناء الدراسة من معلومات.
ويعود الانفصام بين النظرية والتطبيق الى المنهجية المتبعة في طريقة تحصيل المعرفة العلمية التي تقوم عموما على حشو الدماغ بالمعلومات وتكديسها كميا وليس نوعيا، وكذلك على الاسلوب الخطابي ـ الانشائي والعقلية الماضوية والشفاهية غير التدوينية، التي لا تستند على منهجية ميدانية استقرائية ولا تقوم على التدوين والتوثيق، وانما على المزاج العاطفي الخاضع للظروف الفردية التي سرعان ما تتبخر من الدماغ بعد مرور وقت قصير، خصوصا في حالة عدم استخدامها في الحياة اليومية.
المنهجية
المنهجية هي طرائق ووسائل ومناهج التربية والتعليم واساليب البحث والتدريس ونقل المعرفة العلمية والتقنية، (1) التي لا تزال تقليدية اجمالا وتذهب في اتجاه واحد حيث تنتقل المعلومات الجاهزة من المعلم الى الطالب مباشرة، الذي يفرضها عليه دون مشاركة ومناقشة ورد فعل ودون ان يشغل فكره وينشطه. وبذلك يصبح التلقين صورة اخرى من صور التسلط والضبط التي تجعل التلميذ يخضع و يستجيب سريعا لاكتساب المعلومات حفظا عن ظهر قلب، لا فهما وادراكا واستيعابا ونقدا. ويعود السبب في ذلك الى ان العقل العراقي يقوم على الاطلاق والاقصاء، فهو يرفض أي نقد أو تصحيح أو تعديل ويخالف كل من يعارضه في الرأي، وهو ما يطبع العقل بأحادية الفهم والاقصاء، والاقصاء يورث التعصب، والتعصب يثير التطرف، والتطرف يدفع الى العدوانية، لأن المرء يجد نفسه انه على حق وغيره على باطل وليس هناك حل وسط.
ان هذه الطرائق التربوية لا تساعد الطالب على استيعاب الموضوع الذي يدرسه ولا يتفاعل معه ولايهتم في الاخير به لانه مفروض عليه من فوق. انها منهجية قسرية والزامية لا تساعد على التفكير الجدلي المتحرر من وصاية الاخر وتحول المعرفة التي يتلقاها المرء الى معرفة مجردة ومطلقة ومقطوعة عن الواقع وليس لها علاقة بما يجري في الحياة اليومية، وبالتالي فهي لا تساعد على نمو المعرفة والخبرة والابداع وتطوير الشخصية العلمية المتحررة من سلطة التلقين والحفظ على ظهر قلب.
والحقيقة فان سلطة المعلم غالبا لا تناقش، حتى لو كان على خطأ، وعلى الطالب ان يستمع ويطيع ويمتثل، والا فالعقاب هو رد الفعل الوحيد الذي يدفع التلميذ الى الاستسلام.
ان هاجس الخوف من العقوبة المادية والمعنوية يضطر التلميذ الى التنازل والخضوع للمعلم ويمنعه من التمتع بالدروس ويبعده عنها، وهو ما يضعف شخصية التلميذ ويقيد حريته ويشل قدراته ويؤدي الى عجز العقل عن السيطرة على الواقع وبالتالي الى التوتر والقلق والانفعال، وهو ما يؤدي الى التردد في اصدار القرارات والفوضى في تحقيق الاهداف، وتخلق عنده في الأخير شخصية ضعيفة تعجز عن مجابهة المصاعب واتخاذ مواقف حاسمة.
أما المنهج Method فهو العلم الذي يعَلم عملية تنظيم الفكر وينظم طرق البحث المستخدمة في جميع فروع المعرفة في العلوم الطبيعية والانسانية، وهو لذلك يعتبر فرعا من فروع الابستمولوجيا.(2)
ويمكن تعريف المنهج على انه تحليل الطرق والمباديء او القواعد المطبقة في البحوث العلمية المختلفة. وبمعنى آخر، الاجراءات العلمية المطبقة في علم من العلوم، والطرائق التي يتبعها الباحث للوصول الى هدفه المعين. ويتكون من مجموع المعلومات والمفاهيم والحقائق والافكار التي تطرح للدراسة والفهم والتحقيق لبلوغ الاهداف المحددة.
اما عناصر المنهج فهي خطط البحث وطرق التعليم التي يمكن ايجازها بما يلي:
أولا ndash; الاهداف التعليمية التي ترتبط بالتوقعات المطلوبة في تنمية المعرفة المستدامة وتطويرالشخصية عن طريق الخبرة والتجربة والتفاعل معها.
ثانيا ndash; محتوى المناهج الذي يرتبط بالمشروع التربوي والتعليمي ويهدف الى تحقيق النمو المعرفي المتكامل.
ثالثا ndash; طرائق التدريس ووسائله الملائمة حسب المرحلة العمر والنوع والامكانيات، أي الفعاليات التي ترتبط بالكيفية والموقف من المعرفة والاداء والفهم والحوار والنقد، التي تؤدي الى تحريك الدماغ واذكاء الابداع.
رابعا- التقييم والتقويم: التقييم هي عملية اختبار وقياس مدى تحقيق اهداف المناهج والبرهنة عليها، وكذلك على كفاءة التدريسيين وقابليات المتعلمين وتفاعلهم مع المنهج. اما التقويم فيهدف الى تصحيح وتطوير الاهداف وتحسين المناهج وتطوير الكفاءات.
وترتبط عناصر المنهج الاربعة بعضها مع البعض الآخر بعلاقة عضوية حيث يؤثر كل منهما على الآخر.
قصور المنهجية
من القضايا الاساسية في قصور منهجية التعليم في العراق هي عدم وجود فلسفة تربوية شاملة ومستدامة وخطط شاملة لتحديث المناهج وتطوير الكوادر التعليمية والادارية حتى تواكب متطلبات العصر واستيعاب مشاكل الحاضر وأفاق المستقبل ومتطلباته من جهة، وعدم تمتع المؤسسات التربوية والتعليمية بالاستقلالية الكاملة في تلقي المعرفة وتفسيرها ونشرها وممارسة النقد والنقد الذاتي، وذلك لانعدام الحرية والاستقلالية، وهو ما يسبب ركودا في الفكر وعدم استيعاب المعرفة بصورة جدلية، الذي ينبع اصلا من نزعة التسلط الأبوية ـ الذكورية التي تفرض الخضوع والانصياع في تلقي المعلومات وعدم مناقشتها ونقدها، وهو ما يسبب انقطاعا ذهنيا لعدم وجود علاقة جدلية في تلقي الافكار وتراكمها وتفاعلها وادائها بشكل صحيح. فالفكر النقدي السالب هو الفكر الخلاق القادر على اعادة تفسير الوقائع بدقة وادراك العلاقة الجدلية بين ما يتعلمه المرء وما يطبقه في الواقع العملي.
كما يعود قصور المنهج والمنهجية الى عدم توفر الدراسات الميدانية والقيام ببحوث عملية ومختبرية تربط بين ما يتعلمه المرء وما يمارسه في الحياة اليومية، كما يجري في كثير من المدارس في بريطانيا مثلا، حيث يقوم تلاميذ المدارس الابتدائية منذ الصغر وكذلك طلاب المدارس المتوسطة والثانوية بتقديم بحوث ميدانية وعملية وتجارب مختبرية واحيانا بحوث أمبيريقية مبسطة تزودهم بالتجربة والخبرة العملية والتفاعل مع واقع الحياة اليومية.اضافة الى ما توفره المدارس الحديثة من دروس ترفيهية وتشويقية تجعل التلميذ ينشد الى الدروس ويستمتع بها. اما في الجامعات ومراكز البحوث العلمية فلا يمكن الفصل بين البحوث النظرية والميدانية والامبيريقية والمختبرية، لان كل منها يرتبط بالآخر ويكمله.
والى جانب هذا وذاك فان الانقطاع الحيوي بين المعلم والتلميذ وبين الاستاذ والطالب وبين المدرسة والمجتمع وكذلك عدم الاعتماد على المصادر والمراجع والمجلات العلمية المتخصصة والوثائق وعدم توفرها في اغلب الاحيان يحدث انتقالا سريعا وغير عميق في اكتساب المعرفة العلمية وعدم توثيقها علميا التي ترتبط بكل مرحلة من المراحل الدراسية.
كما ان نمط الامتحانات والتقييم والتقويم ما زالا مرتبطان بالاهواء والمصالح والآيديولوجيات. وما زال العقاب هو وسيلة الاذلال والقمع وتحول التلميذ الى شخصquot; مؤدبquot; مطيع وسلبي، لا تتوفر لديه فرص التقدم ودوافع الابداع، حيث يمتلكه هاجس من الخوف والشك والريبة ويحرمه من متعة المشاركة والتفكير الحر والحوار وبالتالي تعطيل الحس النقدي الذي هو محرك التطور والابداع وهو ما يضطره في الاخير الى الاستسلام الى الامر الواقع فتضعف شخصيته وتقيد حريته وقدراته.
التعليقات