خلال زيارتي الاخيرة للعراق، وبعد حوالي ثلاثين سنة من مغادرتي له هربا من النظام السابق، وبدعوة من الحكومة للمشاركة في المؤتمر الاول للحوار الفكري الذي انعقد في فندق بغداد بين 4-5 تشرين الاول 2009 والذي شارك فيه مثقفون من الخارج والداخل، طُرحت ولأول مرة اشكالية الثقافة والدولة والمواطنة والهوية للحوار والنقد بحرية وشفافية.

وحالما وطأت قدماي ارض المطار انتابني شعور غريب لا يمكنني وصفه اعاد لي ذكرياتي الجميلة عن بغداد الحضارة واخذتني هزة فرح غامضة عندما عادت بي الذاكرة الى بغداد الخمسينات عندما كانت تعيش فترتها الذهبية، حيث كانت من اخصب العقود في تاريخ العراق الحديث وأغناها من حيث التقدم الفكري والاجتماعي والاقتصادي والانجازات الثقافية والفنية والحضارية والتسامح الديني والاجتماعي والثقافي والسياسي حيث حفلت بانجازات ابداعية عديدة ومختلفة في الفكر والأدب والموسيقى والشعر والفنون التشكيلية وتميزت بالثراء والكثافة والابداع وكان تأثيرها عاما وشاملا على مجمل عملية التحديث في العراق.

هكذا كانت بغداد ايام زمان. اما اليوم وبعد نصف قرن تقريبا تبدو بغداد وكانها ثكنة عسكرية منهكة وما تزال آثار الحرب والدمار واضحة على واجهات المباني والمحلات التجارية والبيوت. فالشوارع والساحات والبيوت غبراء متربة وكأنها اطلال متروكة ليس فيها حياة ولا مسحة من جمال. كما ان البنايات التي تعرضت للتدمير بسبب التفجيرات ما زالت كما هي مهملة ولم يقم أحد باصلاحها وصبغها ورفع الازبال من امامها. وفي كل مكان تواجهك مفارز الشرطة والجيش. وكلما تسير عدة كيلومترات تصطدم بالحواجز الكونكريتية المرتفعة والمطبات العالية ومفارز التفتيش وو. ونتيجة للعواصف الترابية التي خلفها الجفاف والتصحر وشحة المياه وقلة الامطار، تيبست النخيل والاشجار وشحبت الوانها وكساها الغبار ولم تعد نخيل بغداد تختال بقوامها الرشيق، حتى الشوارع والبيوت والمباني هدها الكبر واضناها التعب وكساها لون مغبر كالح كالتراب، بحيث لا يستطيع المرء معرفة الشوارع والاحياء والمباني او التمييز بين القديم منها والجديد ، فقد تغيرت ملامح بغداد كثيرا واندثرت معالمها الجميلة ولم يبق منها الا القليل الذي اصبح باليا ومتهرءا وفوضويا.

وعندما جرني الحنين الى شارع الرشيد لأستعيد ذكرياتي ، طفرت الدموع من عيني وتذكرت بغداد الخمسينات والستينات وتذكرت شارع ابو نؤاس وسينما روكسي والقهوة البرازيلية وايام زمان، فلم تعد بغداد سوى مدينة متعبة واحياء عتيقة متهالكة واغلب شوارعها الفرعية متكسرة. اما شارع الرشيد
فلم يعد سوى مجاميع من الدكاكين الخربة والعربات العتيقة لبيع الخردة والبقالية والمواد الانشائية والآلات والعدد الكهربائية وغيرها. ولم تعد ترى واجهات المخازن المتلئلئة بالاضواء والوجوه الضاجة بالفرح. لقد اندثرت أنوار بغداد بعد ان زحف العسكر اليها من كل حدب وصوب واستباح عذريتها. ومع ان شارع الرشيد اليوم خال من السيارات، غير انك لا تستطيع المشى فيه براحة، فالعربات الخشبية والحمالين والباعة المتجولين ومن يسير بشكل عشوائي يحدثون فوضى لا تدري كيف يخرج الناس منها وتعجب في ذات الوقت، من مرور ذلك بسلام.
وكم تألمت عندما رأيت مقهى الزهاوي الذي يقع في بداية شارع الرشيد قرب باب المعظم وهو في حالة يرثى لها. كل شيء فيه يدعو للبكاء. فهذا المقهى كان يوما ما من اجمل مقاهي بغداد ومظهرا من مظاهرها الاجتماعية والثقافية حيث كان ملتقى للادباء والشعراء والمثقفين. ومثلما فقد مقهى الزهاوي رونقه واصالته فقدت المقاهي الاخرى والبنايات والبيوت التراثية اصالتها وهرمت شناشيلها الجميلة وتكسرت وفقدت جاذبيتها فمقهى الزهاوي هو من أقدم مقاهي بغداد وكان شاعر الهند الكبير طاغور زار المقهى المذكور في بداية الثلاثينات من القرن الماضي والتقى فيه بالشاعر صدقي الزهاوي.
ليس في شارع الرشيد فحسب، وانما في كل مكان تشاهد اثار الخراب والدمار والفوضى، في الشوارع الرئيسية والفرعية وفي الساحات العامة وفي الازقة والدرابين وكذلك في الدوائر والمؤسسات والمستشفيات والمدارس وحتى البيوت.

ان خراب البنى الفوقية والتحتية وانعدام الامن والراحة النفسية فكك شبكة العلاقات الاجتماعية الحميمة ومزق النسيج الاجتماعي والعائلي والاخلاقي وافقر العراق من ثوابته الوطنية وجعل العراقي يركض هلعا وراء مصالحه الشخصية مما سبب تسيبا وانحلالا خلقيا واستهتارا بالمصلحة الوطنية. وهو ما سهل شيوع الحيلة والمحسوبية والمنسوبية والرشوة والابتزاز كوسائل لاشباع المصالح الذاتية ولهذا اصبح من الصعوبة بمكان اكمال معاملة في الدوائر الرسمية دون واسطة او دفع رشوة او محسوبية ومنسوبية، لحزب او عشيرة او طائفة.

والحال ان الاحتلال المشؤوم وضعف الدولة والفوضى والصراعات المستشرية في مفاصل الدولة والمجتمع هي كلها عوامل جذب قوية لتدخل دول الجوار، ومن السذاجة الاعتقاد بعدم تدخلهم المباشر وغير المباشر، وذلك لان لهم مصالح ومخاوف وحسابات، خصوصا حينما تكون الدولة ضعيفة وعاجزة عن السيطرة على جميع مفاصل البلاد والبنى التحتية مهدمة والحكومة غير قادرة حتى الان على توفير العمل لملايين العاطلين وتوفير ابسط الخدمات الضرورية كالكهرباء والماء والدواء وغيرها والنهوض بالتربية والتعليم بعد التدهور التربوي والثقافي والقيمي والاخلاقي ، وفي الوقت الذي تكون فيه النخب السياسية الجديدة منشغلة بتعزيز مواقعها واشباع مصالحها دون الاهتمام بما يجري من تخلف وتمزق وخراب ومن دون ايجاد الحلول المناسبة لملايين العاطلين عن العمل واليتامى والارامل والمشردين وغيرهم.

والحقيقة والواقع فقد هد التعب كاهل العراقيين وكسر ظهورهم وانطبع العجز والقهر والذل على وجوههم وأكل الموت والانكسارعيونهم ، وبدأ البؤس واضحا على ملامحهم القاسية ووجوههم الحزينة المتربة ولم تعد ترى البسمة على شفاههم.

ولكن، مع كل هذا الخراب هناك مؤشرات ايجابية منها بدايات شيوع الأمن، الذي يظهر في حركة الناس والازدحام في الشوارع وانشغال الناس بأعمالهم وكذلك عودة الحياة الى شارع المتنبي وهو يضج بانواع الكتب من جديد وعودة جزء من شارع ابو نؤاس الى الحياة وكذلك ساحة التحرير من جديد.

ان الاصرار على الحياة وتحدي الموت تجعل الناس يتشبثون بأية بارقة أمل توصلهم الى شاطيء الأمان. فرغم الموت المجاني وقسوة الظروف ورتابتها تجد العراقي يمزح وينكت ويهزء ويصرخ عاليا ويشتم الحكومة وفي ذات الوقت، يستمتع بهامش الحرية الشكلية الذي لم يكن يعرفها ويشارك في الانتخابات ويضع بذلك حجرا في بناء quot;الديمقراطيةquot;.
ان هذا الاصرار على الحياة وتحدي الموت هو مؤشر على ان quot;كلكامشquot; يستطيع ان يكتب من جديد ملحمة عراقية جديدة.