كنت أتابع مساء 21/03/2010 ما كان يقوله السياسيون الفرنسيون، الخاسرون منهم والرابحون في الانتخابات الإقليمية التي جرت في بلدهم في صباح اليوم نفسه. لن أنقل ما قاله الجميع، وسأكتفي بالقليل. السيد جان فرانسوا كوبة، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الأكثرية الحاكمة الذي تكبد خسارة فادحة قال: علينا أن نسمي الأشياء بمسمياتها وأن نعترف بالحقيقة كما تم الإعلان عنها وهي، أننا منينا بهزيمة حقيقية، وما علينا الآن إلا أن نشرع فورا لدراسة أسباب الهزيمة. السيدة سيغولين رويال، المرشحة السابقة عن الحزب الاشتراكي لرئاسة الجمهورية، وأحدى أبرز الشخصيات في الحزب حاليا، قالت أمام حشد من أنصارها الذين تجمعوا للاحتفال بفوزها الساحق: هذا الانتصار ليس لحزب بعينه، ولا لمجموعة أحزاب، إنما هو نصر لبلادنا كلها. السيد فرانسوا فيون، رئيس الوزراء الحالي قال وهو يعلن، في خطاب رسمي بثه التلفزيون، هزيمة حزبه: أنا أتحمل حصتي في هذه الخسارة، وسأناقش، منذ الغد، هذا الأمر مع رئيس الجمهورية.

هذا نضج سياسي تفرضه اللعبة الديمقراطية ويتلاءم مع شروط اللعب، وهو نضج ظل يطبخ على مدى قرون من الزمن، مرة تحت نار ساخنة جدا، ومرة على نار هادئة، حتى أصبح كما هو الآن.

قطعا، لا نطالب السياسيين العراقيين أن يصلوا إلى هذه المرحلة من النضج، لأننا نحملهم أكثر مما يتحملون، فهم ما يزالون في بداية اللعبة. لكننا نطالبهم أن يرتفعوا إلى مستوى نضج الشعب العراقي الذي صوت لهم، لا أكثر ولا أقل. العراقيون أبلوا بلاء حسنا في الانتخابات الأخيرة (وهذا ليس تصفيط كلام، إنما هي المفردات التي يجب أن تقال). ففي الوقت الذي تجاوزت فيه نسبة الغياب في الانتخابات الفرنسية الأخيرة خمسين في المائة (في بعض المناطق وصلت إلى 68 في المائة)، فان نسبة العراقيين الذين صوتوا وصلت إلى 62 في المائة، رغم كل الظروف السيئة التي تمر بها البلاد. والناخبون العراقيون صوتوا، هذه المرة، بقدر كبير من الوعي والذكاء السياسيين. يكفي أنهم ثأروا لأنفسهم، بطريقة سلمية ديمقراطية، من مكيدة القائمة المغلقة التي دبرها لهم السياسيون بليلة ظلماء، قبل أربع سنوات. فبعد أن ظل العراقيون يتعذبون وهم يسمعون، على مدى أربع سنوات، (جعجعة) فرسان القائمة المغلقة، الذين وصولوا إلى البرلمان وهم ملثمين، طوحوا بهم أخيرا، الواحد تلو الآخر، بحثا عن النائب الذي يعتقدون أنه سيوفر لهم (الطحين). و هولاء الذين جعلهم الناخبون العراقيون كعصف مأكول ينتمون إلى كتل سياسية مختلفة، فيهم السياسي المعمم والأفندي العلماني ومن يضع العقال والكوفية، منهم من تساير أخر تقليعات الأزياء ومنهم المحجبة، فيهم الشيعي والسني والعربي والكردي. لا عصمة لأحد، هكذا قال الناخب العراقي.

هذا التشخيص من قبل الناخبين العراقيين وقبله مساهمتهم الواسعة في الانتخابات رغم عمليات القصف هما، أيضا، نضج سياسي، لكنه نضج عراقي (شعبي). وهذا احد الفروق بين التجربة الديمقراطية العراقية وبين الديمقراطيات الغربية. في الغرب يوجد سياسيون ناضجون ومتحمسون لخدمة الناخبين، وناخبون كسالى لا يقدرون النعيم الديمقراطي الذي يعيشون فيه، فتراهم يتغيبون حتى في الانتخابات المحلية التي تقرر مستقبل المدن التي يعيشون فيها. أما في العراق فيوجد ناخبون ناضجون يتحدون أزيز الرصاص حتى يصلوا إلى مراكز الانتخابات، وقادة سياسيون يتعاملون مع الاستحقاق الانتخابي مثلما يتعامل المتسابقون في (الريسسز)، إذا ربحوا اثنوا على (الجاكي) وإذا خسروا حملوه مسؤولية الخسارة.

هكذا، في الأيام الأولى أطرى جميع رؤوساء الكتل السياسية على نزاهة الانتخابات، وكالوا المديح للمفوضية. بعد ذلك اختلفت الأمور، خصوصا عندما اشتدت المنافسة بين قائمتي علاوي والمالكي: الانتخابات نزيهة، لا مزورة، لا نزيهة، لا مزورة، نشك في نزاهة المفوضية العليا، لا، نحن نشك في نزاهة بعض موظفيها.., وهكذا حتى وصل الأمر أخيرا بالسيد المالكي أن أصدر بيانا قال فيه laquo;... أنني بصفتي المسؤول التنفيذي المباشر عن رسم وتنفيذ سياسة البلد وبصفتي القائد العام للقوات المسلحة أدعو المفوضية العليا للانتخابات إلى الاستجابة الفورية (لإعادة الفرز اليدوي) حفاظا على الاستقرار السياسي والحيلولة دون (انزلاق) الوضع الأمني في البلاد وعودة العنف.quot; بعد ذلك (انطلقت، نعم انطلقت) مظاهرات واحتجاجات (عارمة، كالعادة) في الوسط والجنوب، وتم عقد اجتماع طارئ لعشرة محافظين (هي محافظات الجنوب والوسط).
نسأل: ما علاقة القوات المسلحة بنزاهة أو عدم نزاهة انتخابات عامة تجري في البلاد؟ ولماذا يذكر رئيس قائمة انتخابية، يفترض به أن يخضع، مثل بقية رؤوساء القوائم، إلى قانون الانتخابات، صفته الرسمية، كقائد عام للقوات المسلحة؟ وما هو مغزى اجتماع المحافظين؟
ليس لهذه الأمور كلها سوى دلالة واحدة هي، تراجع المالكي عن مواقفه وآراءه السابقة. وعندما يستقوي رئيس قائمة انتخابية بموقعه الرسمي ويشير، حتى ولو بمجرد جملة واحدة، حتى لو كانت صيغتها منمقة وقانونية، إلى استخدام الجيش، لحل نزاع انتخابي/ قانوني، فأن هذا أمر خطير، وخطير جدا، وسابقة تاريخية هي نذير شؤم في سماء العراق الجديد.
الجميع يعرف أن السيد المالكي يسمى الآن (رئيس الوزراء المنتهية ولايته)، وحكومته تعتبر، من الناحية العملية، حكومة تصريف أعمال. وحسب علمنا، فان التلويح باستخدام الجيش لا يتم إلا في ظروف استثنائية، كأن تتعرض البلاد إلى اعتداء أو تهديد خارجي، وعندها يصار إلى دعوة البرلمان للاجتماع لأخذ موافقته أو الاستئناس بآراء أعضائه، وربما يصار إلى فرض الأحكام العرفية، وهو أمر لم تصل إليه أمور البلاد، حاليا.
أما الاجتماع الطارئ الذي عقده محافظو المناطق الجنوبية والوسطى (الشيعية) فهو أمر غريب، حقا. فالمحافظ، بغض النظر عن التزامه الحزبي، وقناعاته الآيدولوجية، وبصرف النظر عن القانون المحلي الذي يتخذ المحافظ (بعض) قراراته بموجبه، ما هو إلا موظف إداري، شأنه شأن بقية موظفي الدولة. صحيح، هو يحتل منصب كبير، لكنه يظل موظفا إداريا يستلم أوامره من هيئة أعلى هي، وزارة الداخلية. فما علاقة اجتماع كهذا بقضية سياسية عامة هي، الانتخابات ونتائجها؟ من ناحية أخرى، فأن هذا الاجتماع يسجل ضد المالكي، وليس في صالحه. فقد بنى السيد المالكي شعبيته، وحصد المزيد من الأصوات استنادا على أمور كثيرة، منها رفضه القوي للمحاصصة الطائفية، وتمسكه بقيام دولة القانون والمؤسسات التي تعتمد مبدأ المواطنة، و رفضه لفكرة قيام إقليم شيعي، أو ما سمي بإقليم جنوب بغداد، وهذه هي أسباب ابتعاده عن شركاءه السابقين في الائتلاف العراقي، كما أوحى المالكي في خطاباته السابقة. وظل المالكي يطالب منذ أيامه الأولى في رئاسة الوزارة بتقوية الدولة المركزية. الآن، وبمجرد تعرضه ل(وعكة) انتخابية تراجع السيد المالكي عن مواقفه السابقة، وعاد يهدد باستخدام نفس السلاح الذي رفضه في البداية. كيف، إذن، تتعزز مصداقية مسؤول سياسي، أي مسؤول كان، وكيف تتوطد ثقة الناخبين به، وكيف يعاد انتخابه مرة أخرى، عندما يتنكر هذا السياسي لمواقفه السابقة أو يتراجع عنها، حالما يصاب بخيبة أمل شخصية؟
أما فيما يخص (المظاهرات والاحتجاجات في الوسط والجنوب)، فهي طريقة لا ترجى منها فائدة بعد الآن. انتهى ذاك الوقت العراقي الذي كان فيه المسؤولون الحكوميون يتعاملون مع الناس كقطيع غنم، أو مجموعة من الرعاع والجهلة، وبدأ زمن تظهر فيه امرأة أمية بسيطة، يوميا، على شاشة أحدى الفضائيات العراقية، وهي ترفض ما تسميها (ولية غمان/ تعني حكم الذين لا يأتمنهم أحد، ولا يردعهم رادع) الذين يديرون شؤون البلاد، وتحلف (بالعباس أبو فاضل) على قولها. ولو أن العراقيين في الجنوب الشيعي يكترثون بأقوال الساسة، ولو أنهم يتوقدون حماسة لإعادة انتخاب الأحزاب الحالية التي تقول أنها تدافع عن مظلوميتهم، لما كانت نسبة الذين صوتوا في الانتخابات الأخيرة في محافظة ميسان (العمارة)، وهي أكثر المحافظات تضررا في تاريخ العراق كله، أقل النسب بين جميع محافظات العراق.
نعم، هناك عمليات تزوير وغش قد حدثت في الانتخابات الأخيرة، وهو أمر ردده جميع رؤوساء القوائم، تقريبا. والطريق الصحيح، القانوني والديمقراطي هو، اللجوء إلى القضاء، وليس التلويح بعودة أعمال العنف، أو الاستقواء بمؤسسات الدولة، أو بتحشيد الشارع، وتأجيج المشاعر الطائفية.
نقول هذا كله، ونحن شخصيا، لسنا من أنصار علاوي ولم نصوت لقائمته. ولو خيرنا شخصيا لقلنا أن التجديد للمالكي لولاية ثانية هو في مصلحة البلاد العليا، أقله لتراكم التجربة، والسير قدما في استتباب الأمن، والقضاء نهائيا على النزعات الطائفية، والمضي قدما في بناء دولة القانون والمؤسسات. لكن مواقفنا الشخصية شيء، وقول الحق والحقيقة، كما نراهما، شيء آخر مختلف تماما.

باختصار، الانتخابات الأخيرة كشفت أن الناخب العراقي يتمتع بعافية سياسية لا تتوفر مثلها عند النخب السياسية. هذه الأخيرة كانت وما تزال تعاني من الكثير من أمراض الطفولة: مرض الطفولة الديني، ومرض الطفولة المذهبي، ومرض الطفولة القيادي، ومرض الطفولة العشائري. ومرض الطفولة المناطقي، والآن أصيبت، كما يبدو، بمرض الطفولة الديمقراطي. وهذا المرض الجديد بالإمكان تلخيصه بالدراجة العراقية كالآتي: لازم ألعب، ولازم أصير سيد الملعب، وإلا فسأمنع اللعب وأخرب الملعب.