مساءالخميس كنت أتابع، على شاشة أحدى الفضائيات العربية برنامجا عن الانتخابات العراقية، وعندما انتهى البرنامج أوعزت مقدمته لزميلة لها لتقديم نشرة الأنواء الجوية. بدأت هذه الأخيرة بأن وضعت أصبعها، أولا، على موقع العراق في الخارطة أمامها وقالت، وابتسامة عريضة على محياها: يشهد الطقس العراقي هذه الأيام تصاعدا في درجة الحرارة، يترافق مع تصاعد سخونة أجواء الانتخابات العراقية.
المذيعة ما قالت إلا الحق، وما نطقت إلا بالحقيقة. العراق يمور ويفور هذه الأيام، من راوة وعانة في الغرب، إلى بدرة وجصان في الشرق، من زاخو في الشمال حتى الفاو في الجنوب. مشاهد لا تصدقها العيون: شيوخ عشائر (كانوا) يقيمون الدنيا العراقية ويقعدونها بإشارة من أصابعهم، وها هم الآن يظهرون على شاشات التلفزيون يتوسلون الناخبين أن يمنوا عليهم بأصواتهم. رجال دين معممون (كانوا) يقولون لأتباعهم، موتوا فيموتون، والآن يطلون على الشاشة الفضية وهم يستجدون من الناخبين أصواتهم: صدقة لله يا ناخبين، صوتوا لنا ولن تضيع أصواتك سدى، إنشاء الله. وزراء عراقيون (كان) كل واحد منهم يتنمر على الناس كما الفرعون، والآن يتوسل بالمذيع الذي يحاوره: أرجوك، دعني أكمل جملتي، الله يخليك، أمنحني دقيقة واحدة لأشرح برنامجي الانتخابي. سيدة بزي ديني يغطيها فلا تظهر منها إلا العينان، وأخرى بزي غربي تبدو فيه كأنها عارضة أزياء، وثالثة بالعباءة العراقية التقليدية، تتواجد صورهن الشخصية في كل مكان، ويظهرن على شاشات التلفزيون، وكل واحدة منهن تشرح برنامجها الانتخابي، وتقسم أنها ستقف بالمرصاد للبرلمانيين الذكور خلال الدورة الانتخابية القادمة، بعد أن (كانت) كل واحدة منهن رهينة المحبسين، لا يحق لها حتى الحديث أمام الرجل لأن صوتها عورة. عراقيون متعبون، هضمت حقوقهم، (كانوا) لا يصدقون، حتى في الحلم، أن يظهروا على شاشة التلفزيون، والآن يشيحون بوجوههم عن مراسلي الإعلام وهم يرددون: أتركونا وشأننا، لن ننتخب أحدا بعد اليوم، لن ننتخب، فالجميع لصوص، وباعة وعود كاذبة وكلام فارغ. أحزاب تخشى تزوير النتائج، فتتوعد بالويل والثبور. أقليات دينية واثنية تحتج لأنها لم تحصل على حصص تناسبها. سياسيون غاضبون لأنهم اجتثوا من العملية السياسية، آخرون يحذرون من التأثيرات الأجنبية. مرشحون يستعينون بصورهم، وآخرون بالأغاني والأناشيد الحماسية، وآخرون بالمواعظ الدينية. مواثيق شرف يكتبها مرشحون ويمزقونها قبل أن يجف حبرها، وعمليات تفجير وتهديدات لمرشحين، ودعوات لحث الناس على المشاركة. دول أجنبية تتدخل في السر والعلانية في الشأن العراقي، أملا منها أن يفوز المرشحون الذين ترتضيهم.
الحابل يختلط بالنابل، داخل هذا المرجل العراقي.
نعم، عراق (الآن) يفور ويمور ويغلي، بعد أن (كان) يعيش سكون المقابر. العملية الديمقراطية الجارية صيرت العراق عراقين، العراق الذي (كان)، ذاك السائر مع الركب، وهو يردد أغنية العبيد: بالروح، بالدم نفديك يا ...، وعراق (الآن)، هذا النافر، الناشز، الذي لا يشبه إلا نفسه. العملية الديمقراطية الجارية في العراق هي واحدة من الأحداث التاريخية الكبرى التي حدثت في القرن الحادي والعشرين، إن لم تكن أكثرها أهمية.
ولأن عراق (الآن) لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد في الأنظمة العربية والإسلامية، على الصعيدين الرسمي والشعبي، فأنه لا يمكن أن يكون في عيون هذه الأنظمة إلا مذموما وقبيحا ومكروها ومصدرا للفتن، وهذا أمر طبيعي ومنطقي. فالذين يسعون لتوريث الحكم لأبنائهم داخل الجمهوريات الملكية لا يطيقون حتى السماع بأسم عراق (الآن) الذي أصبح كرسي الرئاسة فيه يجلس عليه (من هب ودب). والذين يمسكون بعصا الصولجان، يهشون بها على رعيته(م) ، يتعوذون بالله من الشيطان إذا ذكروا أسم عراق (الآن) الذي ما عاد فيه راعي ولا رعية، إنما مرشح يعرض بضاعته وناخب يشتري، قد يقبل وقد يرفض. وأولاءك الذين اعتادوا على تقبيل يد الولي الفقيه، حال اختيارهم لرئاسة بلدانهم، لا يطيقون، مهما أقسموا، رؤية نظام (الأكفأ والأصلح) الديمقراطي، المدني، ويصرون على تغيره، بأيديهم، فإن لم يقدروا فبلسانهم، فإن لم يقدروا فبقلوبهم. والذين دأبوا على تعديل دساتير بلدانهم ليجعلوها على المقاسات التي يرغبون بها، يتقززون إذا سمعوا باسم عراق (الآن) الذي لا يتم تعديل دستوره إلا باستفتاء عام.
أما على صعيد المثقفين والإعلاميين، فهم يستحقون المواساة، حقا. فهولاء الذين تكونت معارفهم، وصيغت عقولهم في حقبة الحرب الباردة، اعتادوا أن يكتبوا بيسر وبسهولة، يكفي أن يخرج أحدهم مسطرته التي يحملها داخل حقيبته دائما وأبدا، يقسم بها الناس الذين يريد التحدث عنهم، إلى يمين ويسار، ثم يبدأ بلعن أحد الفريقين وتمجيد الفريق الآخر، ومع قليل من التوابل اللغوية، يصبح المقال (رائعا). الآن، مع العراق النافر تبدو لهم الأمور مجموعة من الألغاز، فما عادت المسطرة تجدي نفعا، بعد أن زحف اليسار، هناك، نحو اليمين، وأصبح اليمين في حضن اليسار، فتعالت أصواتهم واختلطت.
قبل ست سنوات، لا أكثر، أي بعد أن أتيحت لهم فرص مشاهدة الفضائيات العربية، في الأيام الأولى بعد سقوط نظام صدام حسين، كان العراقيون يتسمرون في بيوتهم عندما تحين ساعات بث برامج السجالات السياسية في بعض هذه الفضائيات. الآن، لم تعد هذه البرامج تساوي عندهم جناح بعوضة. إذ، يكفي لأحدهم أن يجلس داخل مقهى في احد الأحياء الشعبية، حتى يستمع ويشارك في سجالات سياسية، لا أول لها ولا أخر: من يشتم الديمقراطية التي خربت بلده، ومن يناصرها حد الرمق الأخير، لأنها أنقذت بلده، من يشتم الحكومة، ومن يدافع عنها، من يطري على رجال الدين، ومن يلقي عليهم تبعات ما يحدث من خراب. وإذا نهرت أحدهم، قال لك على الفور: دعني أتحدث، أو ليس نحن في عهد ديمقراطي ؟
سيقول البعض، ونحن نؤيدهم: وهل بالديمقراطية وحدها يحيا الإنسان ؟ وسيقولون، إن الديمقراطية التي أوجعتم بها رؤوسنا ولدت مع الاحتلال الأميركي لبلدكم، وهذا صحيح. سيقولون، أيضا، أن ديمقراطيتكم ولدت على ضفاف أنهر من دماء مواطنيكم، وهذا كلام لا يبتعد عن الواقع، سيقولون كذلك، إن ديمقراطيتكم العراقية هي ديمقراطية طوائف وقوميات متنازعة، تنتظر أحدها الوقت المناسب لتبطش بالأخرى. سيقولون، إن بغداد ما تزال ثكنة عسكرية، تقسمها الحواجز الإسمنتية. سيقولون أن الرشا في العراق والفساد الإداري حطما أرقاما قياسية.
وهذا كله صحيح. لكن هذا كله سيصبح، إذا ترسخت التجربة الديمقراطية وتجذرت تقاليدها، مجرد تفاصيل تاريخية قد لا تتذكرها الأجيال العراقية القادمة، إلا إذا تصفحت كتب التاريخ. وهل يتذكر الشبان الفرنسيون، عندما يجلسون في المقهى الآن، شكل المقصلة التي كانت تهوى على الرؤوس، أو الحرب الطاحنة بين أجدادهم البروتستانت والكاثوليك ؟ هل يتذكر الشباب الألماني، هذه الأيام، إن كان هتلر طويل القامة أو قصيرها ؟ هل يتذكر الشباب الانكليزي، في الوقت الحاضر، كيف أخرج بعض من أجدادهم، وسط الحروب السياسية، جثة احد ملوكهم من قبرها، وعلقوها، وهي جثة على حبل المشنقة، تشفيا وحقدا ؟ هل يتذكر الشباب الايطالي في أيامنا هذه، لون بشرة موسوليني ؟ هل يتذكر الأسبانيون الشباب، الآن، كيف تقاتل أجدادهم خلال حربهم الأهلية، وهل يتذكرون كيف كان فرانكو يلقي خطاباته ؟ هل منعت جريمتا هيروشيما وناكازاكي اليابانيين من السير في ركب الحضارة الإنسانية، مع التمسك بهويتهم الوطنية ؟
نعم، الديمقراطية وحدها لا تجدي نفعا إن لم يرافقها عدل اجتماعي، وتوزيع منصف للثروات الوطنية، ومنح جميع المواطنين فرص متكافئة، والديمقراطية ليست وسيلة لإحصاء السكان، وهي لا تكتمل بالجانب السياسي وحده، وإنما يجب أن تصل إلى جميع ميادين الحياة. والديمقراطية تنتحر، أجلا أو عاجلا، إذا ظلت معدلات الفساد على حالها. لكننا نتحدث عن ديمقراطية عراقية لم يتم فطامها بعد. يكفي العراقيين الآن أن يستمتعوا بأولى ابتسامات طفلتهم، وأن يطيروا فرحا بأولى كركراتها. أما تهديدات أبو عمر البغدادي، ووعيد أبو شنب الأوغادي، وتحذيرات طكعان الارتدادي، و ... فأن الجسد العراقي سيمتصها، كما فعل مع الزرقاوي، وسيحولها إلى فضلات لتسميد كرمة الديمقراطية حتى تظهر عناقيد عنبها الأسود لتسر الناظرين، لكن الكثيرين من هولاء الناظرين يصرون على القول، من الآن، حتى قبل أن يتذوقوا: هو حصرم، لا أكثر.