صدام هو الذي اجتث البعث

في 16 تموز 1979 أصبح صدام حسين رئيسا للجمهورية. وبعد يوم واحد، أي في 17 تموز 1979 وجه صدام خطابا أكد فيه (التزامه بمبدأ القيادة الجماعية في الحزب والدولة.) لكن، بعد خمسة أيام، لا أكثر، دعا صدام حسين كوادر الحزب المتقدمة إلى اجتماع عاجل في مبنى المجلس الوطني، وكانت نتيجته إطلاق رصاصة الرحمة على كل مبادئ القيادة الجماعية، والشروع، عمليا، في اجتثاث البعث كمؤسسة حزبية ظلت تخضع لقيادة جماعية، منذ أن كون سعدون حمادي أول خلية بعثية في مدينة كربلاء عام 1948. بعد انفضاض ذاك الاجتماع أعدم صدام عشرات القادة، بينهم من كان يمثل المؤسسة العسكرية (اللواء الركن وليد محمود سيرت)، ومنهم من كان يعتبر (عقل) الحزب (عبد الخالق السامرائي)، ومنهم من كان يمثل النقابات العمالية (بدن فاضل)، والبقية كوادر وأعضاء في القيادة القطرية. بعد تلك الواقعة لم يعد صدام مجرد قائد حزبي، أو مجرد رئيس جمهورية، وإنما (إله). فبعد ثلاث سنوات، أي عام 1982 وفي المؤتمر القطري التاسع، قال صدام: quot;إنني مؤمن بأن الإنسان (أقرأ صدام) يستطيع أن يفعل كل شيء مما هو ليس من واجبات الإله.quot; وقد (فعل) الإله صدام، بهذه المجاميع مسلوبي الإرادة، مجزرة الحرب العراقية الإيرانية. وبعد ذلك احتل صدام الكويت، دون أن تعرف بأمر الاحتلال القيادة القطرية، وبدون أن يعرف حتى وزير الدفاع ولا رئيس أركان الجيش، وهو أمر لم يحدث في أي بلد في العالم.
وهكذا، فأن حزب البعث اجتثه صدام وليس بول بريمر. هذا الأخير أطلق رصاصة الرحمة على جسد البعث. أما الجيش العراقي فقد تبخر وكأنه لم يكن، حال وصول القوات الأميركية إلى بغداد، بعد أن رفض قادة الجيش أن يتعرضوا للذل والهوان مرة أخرى، كما حدث خلال حرب الكويت. ولم يكن رجال الجيش العراقي مجاميع من الجبناء، لكنهم أدركوا، بخبرتهم العسكرية وفنون القتال التي تعلموها في معاهدهم العسكرية أنهم في مواجهة حرب جديدة خاسرة أرغموا على خوضها. وهكذا، فأن الجيش العراقي حل نفسه قبل أن تصدر أوامر بريمر، أيضا.
وانتقاما من حكم صدام، ونكاية به، لم يذرف كثيرون داخل المؤسستين الحزبية والعسكرية دمعوا غزيرة على سقوط صدام ونظامه. وأولائك الذين ذرفوا الدموع إنما ذرفوها خوفا على مصائرهم الخاصة، وقلقا على مستقبل أطفالهم وعائلاتهم. وكانوا على حق. فقد رأينا ما حل بهم في العهد الجديد الذي كانوا يراهنون على أنصافه لهم.

ضياع فرصة تاريخية نادرة

كانت غالبية العراقيين يتوقعون أن ينقسم حزب البعث على نفسه، ويتشذرم إلى عدة شراذم، حال سقوط نظام صدام حسين، على غرار ما حدث بعد سقوط تجربتهم عام 1963، وأن يبادر قادة كثيرون في المؤسستين الحزبية والعسكرية إلى فضح النظام الصدامي، وإماطة اللثام عن الكثير من أسرار سنوات الرعب الصدامية. وكان العراقيون على حق في توقعهم. فقد رأينا كيف أن وطبان، أخ صدام، وأحد المستفيدين الكبار من النظام السابق، والذي ما كف طوال محاكمته عن توجيه الشتائم واللعنات ضد الوضع السياسي الجديد وضد الولايات المتحدة، قد أعلن في أحدى جلسات تلك المحاكمة نفسها، علنا وأمام الكاميرات، عن (وجوب محاكمة قيادة حزب البعث سياسيا وقضائيا جراء الخراب والدمار) الذي تسببت به للعراق. وإذا كان وطبان نفسه تجرأ وأعلن ذلك، فكم يا ترى كان عدد القادة في حزب البعث والجيش الذين كانوا سيقولون الشيء نفسه ويكشفون عن أسرار يملكونها، لو كانت الفرصة قد أتيحت لهم؟
لكن هذه الفرصة ضاعت. والتي ضيعها طرفان هما، الولايات المتحدة التي وضعت بإجراءاتها التي اتخذها بريمر، جميع البعثيين داخل سلة واحدة، وكل العسكريين في سلة واحدة، أيضا. والعامل الآخر الذي ضيع هذه الفرصة الذهبية هو الاصطفاف، ومن ثم التخندق الطائفي. فبسبب هذا الاصطفاف الطائفي لم يتم التعامل مع حزب البعث كحزب سياسي، ولم يتسن للبعثيين أنفسهم أن يفكروا ويتصرفوا ويحاججوا كأعضاء في حزب سياسي. فقد عاجلهم، شانهم شأن جميع العراقيين، الطوفان المذهبي، فغرقوا في مياهه، وراحوا يتخندقون داخل خنادق مذهبية، يتم قتل المتخندق في داخلها بسبب انتماءه المذهبي، بغض النظر عن مواقفه السياسية. وحتى صدام حسين فأنه لم يحاكم على خلفية سياسته (الديكتاتورية) (مثلا، غابت عن محاكمة صدام الأفعال التي نفذها ضد الحزب الشيوعي العراقي، وضد مسؤولين حكوميين وسياسيين في النظام العارفي، وضد قياديين في حزبه، أو ضد قتله لقادة عسكريين رفضوا الانصياع لأوامره أثناء الحرب العراقية الإيرانية، أو اغتياله لمعارضين له، مثل حردان التكريتي ومهدي الحكيم وآخرين، أو بسبب شنه للحرب الإيرانية العراقية، أو حرب الكويت).

لاعبون جدد أشد هولا على البعثيين من هيئة اجتثاث البعث

الآن مرت أكثر من ست سنوات على سقوط نظام صدام حسين. وخلال هذه السنوات اختفى (عالم) بأكمله وظهر إلى الوجود عالم آخر. ومهما كان حكمنا على هذا العالم الجديد، فأنه أفرز تطورات دراماتيكية. وأبرز ما أفرزته هذه التغيرات هو، تجاوزها الحقبة الصدامية وتحويلها إياها إلى ماض غابر. ولو ظهر صدام حسين من قبره هذه الأيام وسار في شوارع بغداد لما تجمع حوله غير من مجموعة من الصبيان والفضوليين.
إنه على حق ذاك الذي قال: لكل زمان دولة ورجال. وهم كثيرون أولائك الرجال الجدد الذين ظهروا على أنقاض حكم صدام، وبدأوا يحتلون الساحة نفسها التي كان يلعب داخلها صدام، وحيدا وبدون منازع. من هولاء الرجال، شيوخ العشائر ورجال الصحوات، وقادة جبهة التوافق، ورئيس قائمة الحدباء في نينوى، وقادة الحزب الإسلامي، وصالح المطلك، وخلف العليان وآخرون. كل شخصية من هذه الشخصيات السياسية إنما تعمل لخدمة مصالحها الخاصة، وتحقيق مجدها الشخصي، شأنها شأن كل الشخصيات السياسية، في العراق وخارج العراق، وهو أمر طبيعي. وليس من المنطقي، ولا من المتوقع، ولا من المعقول أن تقدم أي شخصية من هذه الشخصيات ما حصلت عليه من مزايا، هدية لعزة الدوري، مثلا. لقد هزم رجال الصحوات تنظيم القاعدة لقاء تضحيات غالية من أبنائهم. والجميع يتذكر كيف أن بوش، رئيس أكبر قوة في العالم، لم يذهب إلى العاصمة بغداد، في أحدى زياراته للعراق، إنما قصد محافظة الأنبار، وجلب معه أعضاء الحكومة العراقية، واجتمع بالشيخ ستار أبو ريشة رئيس مجلس صحوة الأنبار، وهو أمر يعني تكريس زعامة الشيخ ستار، ومن بعده أخيه. فهل من المعقول أن يتنازل الشيخ ستار لو ظل على قيد الحياة، أو أخوه الآن، عن هذه الزعامة لصالح حزب البعث، هكذا لوجه الله؟ هذا أمر قد يحدث داخل المضائف العشائرية، لكنه لا يحدث في عالم السياسة. وقل الشيء نفسه عن رئيس قائمة الحدباء، النجيفي، الذي حولته الانتخابات المحلية إلى زعيم وطني، وليس على النطاق المحلي فحسب. وهذا أمر ينطبق على الشخصيات الأخرى. وحتى إذا تصارعت هذه القوى السياسية الناهضة، وهذه الشخصيات السياسية الجديدة فيما بينها، فان صراعها لا يهدف إلى تقديم الولاء والطاعة لبقايا حزب البعث، وإنما للتنافس على الحصول على اكبر حصة من أصوات البعثيين الذين تمزقوا شذر مذر. وفي خضم الصراع الدائر بين القوى السياسية يصبح من الطبيعي أن تستفيد هذه الشخصيات من (ورقة البعث)، تخويفا لخصومها مرة، وتحصيلا لأكبر عدد من أصوات الناخبين. لكن، لو عاد حزب البعث من جديد للحياة السياسية، فأن أول من يقاتله هم هولاء القادة أنفسهم، قبل أن يقاتله أحد غيرهم، مثلما قاتل بعضهم تنظيم القاعدة وهزمه. فالأحياء، في عالم السياسة، وفي أي ميدان آخر من ميادين الحياة، لا يدافعون عن جثة. وحزب البعث أصبح جثة.

من سيخسر من سقوط الهيكل؟

قلنا، ونكرر الآن، وسنظل نكرر أن التجربة السياسية الجديدة ستسقط، إذا سقطت، بأيدي رعاتها وأصحابها الذين تبنوها ويحكمون الآن. لا القاعدة ولا حزب البعث بإمكانهما إسقاط هذه التجربة. القاعدة كانت عضوا غريبا تم زرعه في الجسد العراقي، وقد رفضه هذا الجسد. وإذا كان تنظيم القاعدة قد تسنى له أن ينشط لسنة أو سنتين أو ثلاث في بعض مناطق العراق فلأن سكان هذه المناطق كانوا بحاجة إليه بسبب مخاوفهم التي أشعلها التناحر الطائفي. لكن، بعد أن هدأت الأمور وبدأت الاصطفافات تتغير أصبح تنظيم القاعدة في عداد المفقودين في عالم السياسة العراقية. أما حزب البعث فلم يبق منه غير مجاميع صغيرة تلهث وراء الأميركيين علهم يجدون لهم موقع قدم. وإذا سمعنا طنطنة و شنشنة هذه الأيام لحزب البعث أو لتنظيم القاعدة فليس لأن هاذين التنظيمين عملاقان أو يتمتعان بشعبية عارمة، وإنما لأن العملية السياسية نفسها عرجاء، ولأن الحكومة العراقية ضعيفة وعاجزة وممزقة الأوصال. إنها حكومة تم تجميعها من أضداد لا يجمعها جامع، ويتحين كل طرف فيها للانقضاض على الطرف الأخر حتى لو انتمى الطرفان إلى لون مذهبي واحد، وحتى لو كانوا حلفاء سابقين.
فقد سمع الجميع تحذير رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي، قبل أيام، من (سقوط الهيكل فوق رؤوس الجميع) وقوله: (أدعو إلى عدم المزايدة بالدماء والمتاجرة بها وأن لا تكون هذه الفواجع فرصة لإثارة الخلافات تحت عناوين سياسية أو دعايات انتخابية، لأن الهيكل إذا سقط فسوف يسقط على الجميع ولن تستفيد منها كتلة أو قائمة انتخابية.) لا نظن أن المالكي كان يشير إلى تنظيم القاعدة أو لحزب البعث، أو لأعداء التغيير الذي حدث عام 2003، فهذه الأطراف لا توجد داخل (الهيكل) وهي، أصلا، تعمل ما في وسعها لتدمير الهيكل. المالكي كان يشير إلى مواقف حلفائه السابقين في الائتلاف. ولم يتأخر هولاء في الرد على المالكي، إذ سرعان ما قال قائلهم محذرا، وهو رئيس لجنة برلمانية، بأن الحفرة التي أخرج منها صدام حسين سيدخلها من يحكم الآن. وقبل هذا التحذير كان المالكي قد اشتكى بمرارة من محاولات بعض حلفائه السابقين تعطيل موافقة البرلمان على قوانين تخص شراء مولدات كهربائية، حتى لا يستفيد المالكي من هذا الانجاز، كما قال المالكي. وبعد المالكي اشتكى سامي العسكري، القيادي البارز في حزب المالكي، بأن إيران ظلت تواصل ضغطها على حزب المالكي وإجباره للعودة من جديد للائتلاف السابق. وهذه فقط الخلافات التي يتم الإعلان عنها أمام وسائل الإعلام، فما بالك بما يحدث في الخفاء؟ وأين مصلحة عموم العراقيين من هذه الصراعات؟ وأين سيمفونية (مظلومية الشيعة) التي ما برح بعض هذه الأحزاب من عزفها ليلا ونهارا؟

عرض كوميدي لواقع تراجيدي

حديث المالكي عن سقوط الهيكل وردود أفعال منافسيه، أو بالأحرى حلفائه السابقين هو، (لقطة) واحدة، من فصل واحد، من عرض كوميدي لواقع تراجيدي مغرق في مأساويته الدامية، يتم عرضه على خشبة المسرح العراقي منذ أكثر من ست سنوات، ليس في السياسية فحسب، وإنما في كل شئ.

فطوال السنوات الماضية لم نسمع كلاما إلا عن الإسلام، ولا حديثا إلا عن عدل الإمام علي والخليفة عمر بن الخطاب، ولا يضرب مثلا إلا عن مبدئية الإمام الحسين. لكن النتيجة العملية هي مزيد من الظلم، ومزيد من التخلي عن المبادئ، ومزيد من الرشا الذي أصبح جزءا من المنظومة الأخلاقية، ومزيد من الفساد، ونهب المال العام، وضياع حقوق الفقراء. وبدلا من القضاء على هذه الأمراض الأخلاقية- الاجتماعية الكبرى، لم تكف الأحزاب الدينية الحاكمة من الاستمرار في إعلان (نفير عام) مذهبي: خلق المزيد من المناسبات المذهبية ودفع الناس دفعا للاحتفال بها، تشكيل مئات الجمعيات والمؤسسات المذهبية تحت مسميات ثقافية واجتماعية مختلفة، لا يعرف أحد من يمولها، إقامة المزيد من الولائم على امتداد الطرقات، لا يعرف أحد من يدفع تكاليفها المالية. وكل هذه الهستريا ليست لها علاقة بالطقوس وبالمشاعر العفوية الشفافة الصادقة التي اعتاد الناس إقامتها والتعبير عنها منذ عشرات السنين، بقدر ما لها علاقة بالكسب الحزبي الذي لا يمت للدين والمذهب بأي صلة، ولأن هذه الأحزاب تدرك أنها لن تعيش ولن تستمر في الحياة السياسية إلا بالشحن المذهبي.
أما على المستوى السياسي، فأن النتيجة أكثر مرارة من طعم العلقم: برلمان (يسلق) أعضائه أي قانون يضمن مصالحهم وامتيازاتهم المالية، لكنهم يستغرقون أكثر من عشر جلسات لتشريع قانون يهم المصلحة العامة، حكومة مشلولة تسير على كرسي متحرك، يشتكي رئيسها من عدم امتلاكه صلاحية لنقل ضابط صغير وتعيين أخر مكانه، فوضى لا مثيل لها، وتضارب في الصلاحيات بين رئاسة الجمهورية وبين رئاسة الوزارة، بين الوزير وبين رئيس هذه الهيئة الأمنية أو تلك، بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، بين السلطة المركزية وإدارات المحافظات، بين الوزير ووكيله، حتى وصلت الأمور إلى أن يعلن الموظف الفلاني أو رئيس الجامعة العلاني عصيانه، ويرفض أمر فصله الصادر من وزارة يفترض انه يتلقي أوامره من وزيرها، ويستلم راتبه الشهري من ميزانيتها. وداخل هذا البازار السياسي يراد لأصوات المتفجرات الإرهابية أن تهدأ. وهذا أمر مستحيل. وفي ظل هذه الأجواء التآمرية يتم استجواب الوزراء ومحاسبتهم. وهذه عمليات بهلوانية، و استعراض لعضلات لا وجود لها في أجسام أصحابها. وعندما تنتهي حفلة صراع الديكة هذه، ويدرك كل مراهن منهم خلو جعبته من أي شرح يوضح بواسطته للعراقيين أسباب هذا الفشل المريع، فأن المراهنين كلهم يلتفتون إلى مشجب البعث ليعلقوا عليه كل ما حدث ويحدث في البلاد من إخفاقات.
يا للبعث من حظوظ كبيرة. جثة ويتبرع أعدائها لبث الحياة إليها.