ليس من حق أي جهة في العراق حجب الحقائق عن الشعب


ما يزال العراقيون يعيشون حال من الذهول إثر وقوع جريمة سرقة مصرف الرافدين في منطقة الزوية ببغداد. فهذه ليست جريمة اعتيادية كعشرات الجرائم التي ما تزال مدن العراق تشهد حدوثها يوميا، ولا عملية إرهابية يسعى منفذوها لتأجيج جمرة الحرب الطائفية وإعادة البلاد إلى نقطة الصفر. إنها جريمة نفذها حماة القانون، الذين عهدت إليهم مهمة مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وباختصار، أنها جريمة ارتكبتها الدولة ضد نفسها.
ولهذا، فأنها فضيحة مدوية، بشقين سياسي وأمني. فالمنطقة التي يقع فيها المصرف محصنة تحصينا أمنيا لا يمكن لجماعات الجريمة المنظمة، ولا لأي جماعة إرهابية أن تصل إليها. والمال المسروق هو من أموال الدولة. والذين نفذوا الجريمة يعملون في أجهزة الدولة. وضحايا العملية موظفون عند الدولة. والدولة هي التي مهدت الطريق ل(أبنائها) لتنفيذ الجريمة. فالعملية نفذت بأعصاب باردة وبهدوء تام، فقد اختفت دوريات الشرطة (دوريات الدولة) من المكان الذي يقع فيه المصرف، ساعة تنفيذ الجريمة، كما نقلت صحيفة المدى البغدادية عن شهود عيان.
نعم، إنها جريمة نفذتها الدولة العراقية ضد نفسها، والغريب أنها تتم في وقت يكثر فيه الحديث عن بناء (دولة القانون).

هذا من ناحية التوصيف. إما ملابسات الجريمة، وما رافقها من تصريحات متباينة، بل ومتناقضة لمسؤولين حكوميين، وما نقلته بشأنها وسائل الإعلام العراقية من معلومات، فأنها مروعة، وخلفت مرارة العلقم في فم المواطن العراقي الذي أصبح، تماما، ك(الأطرش بالزفة)، زفة بلاده للمستقبل، الذي ما زال أولو أمر العراق يقسمون أغلظ الأيمان بأنه سيكون مستقبلا مشرقا.
فالسيد وزير الداخلية العراقي جواد البولاني أعلن، مباشرة بعد ألقاء القبض على الفاعلين، أن (جهات متنفذة تقف وراء الجريمة.) بينما (نفى)، لاحقا، اللواء عبد الكريم خلف الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية (دعم جهات متنفذة لمنفذي سرقة مصرف الرافدين.)
وقبل أن يعرف الناس شيئا عن تفاصيل الجريمة نشر موقع عراقي إليكتروني مشهور معلومات عن عملية السطو، وهي معلومات ستزلزل الأرض تحت الأقدام، إن ثبتت صحتها (نقول جيدا، إذا ثبتت صحتها، فالأمر كله متروك للقضاء ليقول كلمته).
قال الموقع: ( العصابة مقربة من المجلس الأعلى وكانت تختبئ في مقر صحيفة العدالة التابعة لعادل عبد المهدي. ضغوط من المجلس الأعلى ورئاسة الوزراء على الداخلية لعدم اطلاع الرأي العام على تفاصيل القضية. رئيس العصابة هو المجرم النقيب جعفر لازم شكاية خضير التميمي.) والمهم في هذه التفاصيل هو، أن اللواء عبد الكريم خلف أكد خلال مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد نشر خبر الموقع، المعلومة نفسها، فعرض على الحاضرين صورة شخصية للمنفذ الرئيسي لعملية السطو وقال إن أسمه( النقيب جعفر شكاية خضير التميمي).

وبعد سويعات نشر موقع اليكتروني مقرب من المجلس الأعلى خبرا قال إنه استقاه من (مصادر عليمة)، أوضح فيه بأن أحد المجرمين الذين نفذوا عملية السطو وقتل حراس المصرف، (اعترف بتخبئة المال في مكان عمله في حراسات جريدة العدالة).
وبعد نشر هذه المعلومات أصدر الأستاذ عبد المهدي بيانا رسميا قال فيه: quot;إننا ننأى بأنفسنا عن الدخول في مماحكات كلاميةquot;، كرد منه، على ما يبدو، على زج أسمه في هذه الجريمة.

أين تكمن الحقيقة؟ ونحو من ييمم الإنسان العراقي شطره ليعرف حقيقة ما يجري في بلده؟ لا يوجد في هذه الحال أمام المواطن العراقي غير اجترار الإشاعات، أو الاعتماد على ما ينشر في وسائل الإعلام؟

لكن الناطق باسم وزارة الداخلية اللواء عبد الكريم خلف يقول بأن (وسائل الإعلام تناولت تحليلات ليست ذات صلة بالموضوع وقد تثير المشاكل.) حسنا، لنتفق. ماذا، إذن، عن تصريحات المسؤولين الحكوميين نفسها؟ هل حلت المشكلة، أم زادتها تعقيدا، وأثارت المشاكل؟ هل توجد قوى متنفذة وراء هذه الجريمة، كما قال وزير الداخلية، أم أن الأمر مجرد مماحكات، كما قال السيد نائب رئيس الجمهورية؟
ثم ماذا عن تصريح اللواء خلف نفسه الذي ورد فيه أن الرأس المنفذ للجريمة، النقيب جعفر (حسن السيرة والسلوك، وما حدث كان مفاجأة بأن يتزعم عصابة.) إلا توحي هذه المعلومة بأن جهات عليا أصدرت أمرا لهذا النقيب وأجبرته إجبارا على تنفيذ الجريمة رغما عنه، ما دام هو ليس من أصحاب السوابق، وأنه عفيف اليد ومن أصحاب (السيرة والسلوك الحسنين)؟
إما ما قاله اللواء خلف في مؤتمره الصحفي بأن على (وسائل الإعلام أخذ المعلومات من مصادرها الرسمية) فهي نصيحة قد تكون صالحة للتطبيق في أمور تخص حفظ الأسرار العائلية وما يقال في جلسات الأصدقاء الخاصة، وقد تطبق في بلد تسيطر الدولة على وسائل الإعلام فيه، لكنها لا تنفع مع القضايا العامة، وخصوصا مع فضيحة كبرى كهذه التي نتحدث عنها، وفي بلد يتمتع بحرية الصحافة. لو أن وسائل الإعلام في العالم كله ألزمت نفسها (بأحد المعلومات من مصادرها الرسمية) لما تم اكتشاف فضيحة واحدة. جميع الفضائح في العالم إنما تم اكتشافها، بالضبط لأن وسائل الإعلام التي كشفتها لم تأخذ المعلومات من مصادرها الرسمية، وإنما حصلت عليها من مصادرها الخاصة.

إن هذه الجريمة، التي حدثت والعراق يتهيأ لمعركة الانتخابات التشريعية، تثبت للمرة الألف عن أن صراعا شرسا يدور داخل الكواليس بين مختلف القوى السياسية، ليس دفاعا عن مصالح الشعب، إنما دفاعا عن مكاسب حزبية، وأن هذا الصراع سيشتد ضراوة كلما أقترب موعد الانتخابات، وستستخدم فيه جميع الأسلحة النظيفة منها والقذرة، وعلى حساب المصالح العليا للشعب. وداخل هذا الصراع، لا خارجه، يتوجب وضع الشكوى الأخيرة لرئيس الوزراء السيد نوري المالكي، بأن قوى سياسية تشارك في العملية السياسية فعلت المستحيل لعرقلة توريد مولدات من شأنها تحسين الخدمات الكهربائية، حتى لا يسجل النجاح لصالح المالكي، وبالتالي منعه من الفوز بولاية ثانية في الانتخابات القادمة.
ولا نظن أن جريمة مصرف الزوية بعيدة عن هذا الصراع. فقد يكون الهدف منها هو تلويث سمعة الأستاذ عادل عبد المهدي، وإخراجه من الحلبة السياسية، مثقلا بالاتهامات السياسية والأخلاقية. وإلا، فهل يعقل طفل رضيع، ناهيك عن إنسان عاقل، أن يوعز عبد المهدي، بكل ما عرف عنه من إباء وعفة يد، وعزة نفس، وخبرة، وحصافة، وذكاء سياسي، والموقع الرفيع الذي يحتله كنائب رئيس الجمهورية، لمجموعة من العسكريين لسرقة مصرف حكومي، وإيداع المال المسروق داخل بناية صحيفة يمتلكها، أو يشرف عليها؟ هذه قصة من قصص الخيال العلمي.
وربما كانت عملية السطو تهدف لتلويث سمعة المجلس الأعلى، وإطلاق رصاصة الرحمة عليه. وقد تكون العملية محاولة لإبعاد السيد وزير الداخلية عن منصبه، وحرمانه من الانجازات الأمنية التي تحققت في عهده. ولعل الجريمة كانت استهدافا للسيد رئيس الوزراء، نوري المالكي، وإظهاره بمظهر العاجز عن ضبط الأمور.

وحتى تتضح الأمور فأن على الجميع أن يضعوا النقاط على كل حروف هذه الجريمة، وبسرعة لا تقبل التأجيل، أبدا. لقد وعد السيد وزير الداخلية أن يكشف الجهات المتنفذة التي قال أنها تقف وراء تنفيذ الجريمة. ووعد نائب رئيس الجمهورية، السيد عادل عبد المهدي بأنه (سيصدر بيانا أو تقريرا تفصيليا بالوقائع والأسماء بتواريخها ومستنداتها عندما ننتهي من القضية ليأخذ كل ذي حق حقه.)
إما السيد رئيس الوزراء فالعراقيون ينتظرون منه أن يحدد، أولا، وبالأسماء، الجهات السياسية التي قال أنها عرقلت توريد المحطات الكهربائية. وعليه، ثانيا، إصدار بيانا رسميا لتوضيح جميع ملابسات سرقة المصرف، فهو رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، ورافع شعار دولة القانون.

إنها قضية خطيرة لا يتوجب حلها بالمجاملات وتبويس اللحى.
نعم، من حق الساسة أن يجامل بعضهم البعض الأخر، ومن حقهم أن يتستروا بعضهم على البعض الأخر، شرط أن يكون ذلك في قضايا شخصية تخصهم. لكن، عندما يتعلق الأمر بمصائر الناس، وبمستقبل بلاد بأكملها، فليس من حق كائن من كان أن يحجب الحقائق عن الشعب.

ألا تكفي العراقيين العواصف الترابية التي تحول حياتهم اليومية إلى جحيم حقيقي، حتى تهب عليهم هذه العواصف السياسية لتطفئ بصيص الأمل الذي بدأ يلوح في نهاية هذا النفق المظلم؟