quot;إن المراهنة على نشوب حرب أهلية وتفكك العراق وحدوث صراعات بين مكونات التركيبة الموزائيكية للمجتمع العراقي، فشلت كلها، بل أن الوحدة الوطنية العراقية لم تكن قوية في يوم من الأيام مثلما هي قوية الآن. ما من احد في العراق، ما خلا المسؤولون الكبار السابقون في حزب البعث، لا يقر بأن سقوط نظام صدام خلق العديد من التغيرات الايجابية في البلد. لقد أصبح العراقيون قادرين، لأول مرة، على التعبير عن أفكارهم بحرية وأمام الملأ. وبعد سنوات من السبات الثقافي والقمع السياسي بدأ العراقيون، شيئا فشيئا، يأخذون زمام أمور بلدهم بأنفسهم. لقد فكر العديد من المحللين بان سقوط نظام صدام حسين سيقود إلى تفكك البلد، ولكن شيئا من هذا لم يحدث. العكس تماما هو الصحيح. فالعراق يشهد هذه الأيام تناميا قويا في مشاعر الوحدة الوطنية العراقية وتترسخ المطالب باتجاه خلق عراق ديمقراطي وتعددي...quot;

هذا المقال لم يكتبه صاحبه هذه الأيام، ولم تنشره صحيفة أميركية مؤيدة لإدارة الرئيس السابق بوش، ولا صحيفة عراقية موالية للاحتلال الأميركي. المقال كتب في 17/06/2003، أي بعد مرور شهرين على سقوط النظام العراقي( كنا قد نشرنا، هنا في إيلاف، ترجمة المقال، في حينه).
الصحيفة التي نشرته هي لوفيغارو الفرنسية. وللقراء الذين قد يفوتهم الأمر، فأن صحيفة لوفيغارو تعتبر واحدة من أعرق الصحف الفرنسية، وهي صحيفة محافظة، أو يمينية، إن شئتم. و الفيغارو نشرته عندما كان السيد جاك شيراك رئيسا للجمهورية، ومثلما نعرف فأن الموقف الفرنسي الرسمي والشعبي وقتذاك، كان معارضا للحرب في العراق. وفوق ذاك، فأن لوفيغارو كانت مقربة من أوساط الرئيس شيراك، مثلما هي الآن مقربة من الرئيس نيكولا ساركوزي.
صحيفة لوفيغارو، أو بالأحرى مراسلها في بغداد وجد أمامه حقائق ونقلها للقراء حتى لو كانت تلك الحقائق تتعارض مع قناعاته السياسية، أو تمنياته. أي أنه أدى دوره كإعلامي حريص على أن لا (يخدع) القراء الذين يكتب من أجلهم. فالمقال أنتبه، خلال وقت مبكر جدا، لمسألة جوهرية هي، إصرار سواد العراقيين على العيش المشترك داخل عراق ديمقراطي، ورفضهم للطائفية، لو تركوا لوحدهم. وكان صائبا في التشخيص، بدليل أن هذا الخيار الوطني هو الذي يتقدم الآن، أكثر من غيره، بعد كل ما حدث ونعرفه جميعا.
وكان الكاتب والروائي البيروني الشهير ماريو فارغاس يوسا قد زار العراق تماما في نفس الفترة التي نشرت فيها لوفيغارو تقريرها المذكور في بداية مقالنا، أي في 25/6/2003. وعندما عاد يوسا من العراق بعد أثني عشر يوما، نشر مشاهداته في صحيفة البايس الأسبانية، وأعيد نشرها في كبريات الصحف العالمية وبلغات عديدة (كنا قد ترجمنا من الفرنسية في إيلاف ما كتبه يوسا في حينها). ولشدة المحتوى الإيجابي للمقالات، قال البعض أن يوسا بدأ يميل إلى الجانب الأميركي، بعد أن كان مناهضا للحرب على العراق. والحق أن الكاتب لم يغير مواقفه، بقدر ما نقل بأمانة ما كان قد شاهده في العراق.

لكننا نعرف أنه خلال الفترة التي تفصل بين تاريخ نشر تلك المقالات وهذه الأيام تغيرت الأوضاع داخل العراق رأسا على عقب، وغرقت البلاد في اقتتال طائفي رهيب. وقد رافقت لوفيغارو تلك التطورات، لكن نوعية التقارير التي بدأت تنقلها تغيرت تماما. فمثلما حرصت على نقل الوقائع كما كانت تراها في الأشهر الأولى بعد سقوط النظام، بدأت تنقل المستجدات الجديدة، فشرعت تنقل لقرائها ، بأمانة وبحيادية، مشاهد الجثث المرمية على الشوارع، وعمليات التهجير القسري المتبادل، وكل مشاهد الخراب الرهيبة التي عاشها العراق. وبخصوص عمليات تهريب النفط نشرت لوفيغارو على صدر صفحتها الأولى بتاريخ 21/12/2006 تقريرا بعنوان (البترول يمول الحرب الأهلية في العراق) سلط الأضواء على حجم الكارثة التي ينتظرها العراق.
بالطبع، لوفيغارو ليست الصحيفة الفرنسية أو الغربية الوحيدة التي فعلت ذلك، وإنما فعلت مثلها الكثير من الصحف الغربية، قدر المستطاع، لأننا نعرف أن الساحة العراقية خلت من وسائل إعلام أجنبية بسبب الإرهاب. وقد صار معروفا أن فضائح سجن أبي غريب كشفتها الصحافة الأميركية. وما يهمنا التأكيد عليه هنا هو، الموضوعية، قلت أو كثرت، التي اعتمدت عليها الصحافة الغربية في تغطية الأحداث العراقية خلال السنوات الست الماضيات، وصولا إلى عملية انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية التي تمت في الثلاثين من شهر حزيران الماضي.

عملية انسحاب القوات أفردت لها الصحف الغربية (ونحن هنا لن نستشهد إلا بعدد قليل منها) مساحات واسعة، ونشرت خبرها على صفحاتها الأولى، وخصصت لها بعض هذه الصحف افتتاحياتها.

ففي فرنسا، خصصت كبريات الصحف الفرنسية اليومية وهي، لوموند المستقلة، ولوفيغارو المقربة من الأكثرية الحاكمة، وليبراسيون اليسارية، ولومانتيه الشيوعية، ولوكروا المقربة من أوساط الكنيسة، أعدادها الصادرة بتاريخ 30 حزيران للحديث عن الانسحاب الأميركي.
صحيفة لومانيتيه كرست، تقريبا بشكل كامل، عددها الصادر في الثلاثين من حزيران، لشن هجوم لاذع ضد السياسية الأميركية في العراق،ووصفت السنوات الست الماضيات بأنها quot;سنوات الخرابquot;، ورأت أن القوات الأميركية تنسحب من المدن العراقية بعد أن quot;تركت وراءها بلدا مخربا، سياسيا وأمنياquot; وبعد أن تحولت quot;النزهة التي وعد بها صقور إدارة الرئيس السابق بوش، إلى كابوس: خراب، حرب طائفية، تعذيب أسرى أبي غريب.quot;
إما صحيفة لاكروا فقد عنونت صفحتها الأولى كالتالي: العراقيون يديرون قضاياهم الأمنية بأنفسهم. وظهرت تحت العنوان صورة لجندي عراقي وأخر أميركي يسيران في دورية مشتركة في شوارع مدينة بعقوبة. ورأت الصحيفة في افتتاحية بعنوان (انتقال محفوف بالمخاطر) بأن هذا الانسحاب يحمل دلالة رمزية، فبينما تنسحب القوات الأجنبية فان الفراغ الذي يفترض أن يخلقه الانسحاب، ملأته القوات العراقية التي أخذت على عاتقها مسؤولية تسيير الأمور.
ونبهت صحيفة ليبراسيون بأن تنظيم القاعدة سيستغل الانسحاب، بعد أن بدأ هذا التنظيم بإعادة بناء نفسه، وضم عراقيين جدد إلى صفوفه، خصوصا من الضباط البعثيين السابقين.

وفي ما يخص الصحف الأميركية، قالت نيويورك تايمز في افتتاحيتها أن القوات الأميركية بدأت الانسحاب بعد ست سنوات دامية وباهضة التكاليف. ورغم ذلك فقد بدأت quot;تلوح الآن بداية لنهاية الاحتلال.quot; وانتقدت الصحيفة الحرب على العراق واعتبرتها quot;غير ضرورية وأنها بددت الجهود التي كان يفترض أن تركز على الجبهة الأفغانية حيث الجبهة الحقيقية لمواجهة الإرهاب.quot; وقالت رغم أن جميع العراقيين متلهفون لمغادرة القوات الأميركية، إلا أن ذلك لا يعني اختفاء المخاوف، إذ أن quot;المصالحة الوطنية لم تكتمل حتى الآن، بل أن هناك إشارات إلى أن الساسة العراقيين لن يفعلوا شيئا بعد الآن لتعزيز عملية المصالحة الوطنية.quot; وعبرت الصحيفة عن مخاوفها بان لا يحظى الملف العراقي بأهمية كبيرة بعد الآن من لدن إدارة الرئيس اوباما.
ومن جانبها غطت صحيفة الغارديان البريطانية نبأ انسحاب القوات الأميركية بنشر صورة للقوات العسكرية العراقية وهي تستعرض بهذه المناسبة، ونقلت كيف أن العراقيين بادروا إلى التجمع في الساحات العامة ابتهاجا، وهم يتحدون تعليمات السلطات الرسمية التي حذرت من وقوع عمليات عنف قد تنفذها جماعات معارضة للحكومة. وأوضحت أن انسحاب القوات الأميركية حظي بإجماع كل العراقيين، ما خلا عدد قليل منهم. وركزت الصحيفة على أظهار مشاعر الفرح، وكيف quot;عادت الحياة من جديد إلى شواطئ نهر دجلة خلال يوم الانسحاب بعد أن تحولت هذه الأماكن إلى مناطق مهجورة إثناء تصاعد عمليات العنف في السنوات السابقةquot;. ونقلت الغارديان فرحة الشباب العراقي وهم يرددون: إننا لن نرى بعد الآن وجوه الجنود الأميركيين. وقال عراقي لمراسل الصحيفة أن الأميركيين وضعوه في سجن بوكا وهو الآن حر بعد رحيلهم.

وبدورها، عنونت صحيفة الاندبندينت البريطانية مقال صفحتها الأولى كالتالي: quot;العراق: المهمة أنجزت.quot; وأعادت إلى الأذهان كيف كان الرئيس السابق بوش متسرعا وهو يعلن مبكرا انتهاء العمليات العسكرية. وشيدت الصحيفة بقوة وعديد الجيش العراقي حاليا المكون من 600000 عسكري ومعه أفراد الشرطة. واعتبرت الصحيفة انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية بأنه خطوة حاسمة نحو الاستقلال الكامل. وبينت كيف أن المالكي الذي يعتبر حليف مقرب من الولايات المتحدة وصف، مع ذلك، يوم الانسحاب بأنه (نصر عظيم).
ومثلما يرى القارئ فأن هذه الصحف الغربية عالجت مسألة الانسحاب الأميركي، كل من وجهة نظرها، وكل وفق قناعاتها، لكن هذه الصحف جميعا تعاملت مع هذا الحدث بما يستحقه، أي باعتباره حدثا مهما، وليس كحدث عابر وتافه.

وإذا كانت الصحافة الغربية، وهي صحافة أجنبية على أي حال، ويفترض أنها بعيدة عن هموم العراقيين، شغلت نفسها بهذا القدر بخبر الانسحاب، ، فأن الأولى بالصحافة العربية الشقيقة أن تبدي اهتماما أكثر، خصوصا وأنها تنتظر بلهفة انجاز هذا الحدث، أو يفترض هكذا.
لكن الذي لاحظناه هو أن بعض الصحف العربية (ونحن نتحدث هنا عن كبريات الصحف العربية) تجاهلت تماما هذا الحدث، وخلت أعدادها الصادرة في 30 حزيران الماضي من أي إشارة لخبر الانسحاب، لا على الصفحة الأولى ولا في تقارير المراسلين ولا في أعمدة الرأي.
إما تلك الصحف العربية التي تناولت خبر الانسحاب فأنها تعاملت معه ولسان حالها يقول للعراقيين: لا تفرحوا فأنتم محكومون بالفشل، آجلا أم عاجلا.
بعض من هذه الصحف قالت إن quot;مدن العراق من دون أميركيين اليوم ... والمالكي للضباط لا يهم المتحججون بحقوق الإنسان.quot;
ما الرسالة التي يريد أن ينقلها هذا العنوان لي أنا القارئ، وما الغرض من ربط موضوعين مختلفين ومتغايرين في عنوان واحد؟ الرسالة هي: لا فائدة من انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية وها هو رئيس الوزراء نوري المالكي يهدد بخرق قوانين حقوق الإنسان.
ووضعت صحيفة عربية أخرى على صدر الصفحة الأولى في عددها الصادر في الثلاثين من حزيران هذا العنوان: quot;نجل الطالباني يطالب ببقاء المارينز بحال عدم الاستقرار.quot; أليس في هذا العنوان quot;خفةquot; إعلامية، حتى لا نقول فيه تحامل كبير ؟ يعرف الجميع أن نجل الطالباني هو واحد من ملايين العراقيين، وكل عراقي بمقدوره أن يقول ما يشاء. لكن الصحيفة، كما يبدو، ترى أن نجل الطالباني هو الذي يقرر أمور البلاد وأن ما يصرح به هو كلام رسمي يعكس سياسة الحكومة العراقية، وإلا فأنها ما كانت ستنقل تصريحه. لنفترض صحة افتراض الصحيفة، ونسأل، أيضا: ما الفائدة من عنوان كهذا وفي مناسبة كهذه، وما الرسالة التي يراد إيصالها للقراء؟ الرسالة هي: لا انسحاب ولا هم يحزنون، فها هو نجل رئيس الجمهورية يطالب ببقاء القوات الأميركية في العراق.
صحف عربية أخرى لم تتجاهل، مثلما زميلات لها، خبر الانسحاب، ولكنها نقلت الخبر على طريقة (وكفى الإعلاميين العرب شر التمعن والتدقيق)، فنشرت التغطية نقلا عن بعض وكالات الأنباء، ولم تتعب نفسها بتكليف أحد مراسليها بالتغطية الميدانية للحدث، رغم أنها تصدر في عاصمة عربية لا تسكت قنواتها الفضائية لحظة واحدة عن الحديث عن مساوئ الغزو الأميركي للعراق.

وتصل التغطية quot;الموضوعيةquot; لخبر الانسحاب الأميركي من المدن العراقية إلى ذروتها القصوى عندما نطالع على صدر الصفحة الأولى لصحيفة عربية هذا العنوان الرئيسي: (حواسم في مقرات عسكرية أخلتها القوات الأميركية.)
من يقرأ العنوان المذكور سيشعر بالهلع ويظن (وهو على حق تماما) أن عمليات النهب والسلب للممتلكات العامة التي حدثت غب سقوط النظام العراقي السابق أثر دخول القوات الأميركية لأول مرة إلى بغداد، عادت من جديد. أي أن الفوضى قد عادت مرة أخرى، وغرقت البلاد في حالات اضطراب شامل.
لكننا، ونحن ننتهي من قراءة المقال، وهو مطول، لا نعثر فيه، في ما يتعلق ب(الحواسم)، إلا على هذه السطور : quot; فور بدأ القوات الأميركية بعملية إخلاء لأماكن تواجدها في المراكز الأمنية التي كانت تتخذها كمقار عسكرية بمشاركة قوات عراقية في مناطق متفرقة في بغداد، حدثت عمليات نهب وسرقة للمخلفات التي تركها الجنود الأميركيون، كالأجهزة الكهربائية والأسرة الحديدة وبعض الأخشاب التي تستخدم في بناء الغرف السكنية.quot; وتضيف الصحيفة أن جنود عراقيين أكدوا لمراسلها أن quot;عددا من زملائهم وضباط برتب مختلفة شاركوا في عمليات النهب.quot;
هل هذه رصانة وهل هذه مهنية راقية تنتهجها صحيفة تحترم نفسها وعقول قرائها، أم هو إسفاف لا يليق إلا بصحيفة فضائحية من الدرجة العاشرة ؟ الصحيفة، أو مراسلها نفسه في بغداد يقول أن (الممتلكات) التي (نهبها) الجنود العراقيون ليست سوى (مخلفات تركها الجنود الأميركيون)، أي أنها مجرد أسمال، لا أكثر ولا أقل، تخلى عنها الأميركيون فتركوها ورائهم، فالتقطها الجنود العراقيون. فكيف تجرأ صحيفة على لي أعناق الحقائق والوقائع، فتستل (خبرا) تافها وثانويا من ثنايا تقرير مطول، وتجعل من هذا (الخبر) عنوانا رئيسيا لموضوع مهم وخطير، هو انسحاب القوات الأميركية ؟ لو كان المشرفون على تحرير هذه الصحيفة جادين وحريصين على نقل الحقائق لكانوا قد رفعوا أصواتهم ونادوا على أشقائهم العراقيين في مدينة البصرة القريبة منهم ليتأكدوا من موضوع (الحواسم) قبل أن يتورطوا في نقل هذه الأكذوبة. لكن هولاء الإعلاميين يصرون على أن ينقلوا الوقائع مثلما يتمنون هم أن تكون، وليس مثلما هي على الأرض.
وهذا هو الفرق بين وسيلة إعلامية (تنقل) الحقائق وبين أخرى (تفبرك) الحقائق.