النعمة، النعمة الوحيدة، النعمة الحقيقة، النعمة المنجزة، التي يتنعم بها العراقيون، منذ سقوط نظام صدام حسين، هي حرية الصحافة، وحرية العراقيين للحصول على أي قناة فضائية يريدون مشاهدتها، وحرية الاطلاع على أي معلومة يبحثون عنها، وحريتهم في نقد ما يشاءون من الأحزاب والشخصيات والمسؤولين. وهذه الحرية تحققت على أيدي الأميركيين، وليس بفضل الطبقة السياسية، وقطعا ليس بفضل جماعات وأحزاب الإسلام السياسي العراقية، بكل ألوانها ومسمياتها. من المؤسف أن نقول ذلك، لكنها الحقيقة، أردنا ذلك أم لم نرد.
ومنذ الأيام الأولى وحتى الآن أثبت الإعلاميون العراقيون، أو لنقل الغالبية منهم، أنهم متأهلون لممارسة هذه الحرية، وهم على وعي بما تعنيه الحرية وبالتبعات المترتبة على ممارستهم هذا المكسب، خصوصا في ما يتعلق بالرقابة الذاتية التي يفرضونها على أنفسهم. فلم نجد مقالا واحدا، على كثرة الصحف العراقية، أثار نعرات طائفية أو شجع على الاقتتال الطائفي، أو تجرأ ولفظ صفتي (الرافضة) و(النواصب)، أو أساء إلى معتقدات الناس ومقدساتهم ورموزهم الدينية أو المذهبية، أو روج للإباحية وهتك الأعراض، أو زين للناس نهب ممتلكات الدولة، أو شجع على السرقة والرشا.
وكل مراقب، داخل العراق وخارجه، يعرف الظروف الصعبة والمعوقات، التي تشبه الأساطير أحيانا، التي يعمل في ظلها الإعلاميون العراقيون، وأي بسالة يتمتعون بها، خصوصا من يعمل منهم داخل العراق، وبالأخص منهم من لا تحميه مليشيا. فأنت إن سكت على الباطل جافاك النوم من وخز الضمير، وتبكيت ميثاق المهنة. وإن قلت الحقيقة كما وقعت أمام ناظريك ورويتها وفقا لما تمليه عليك مهنيتك الإعلامية، تناهبتك سيوف قاطعي الرؤوس، وإن سلم عنقك من هولاء تخاطفتك رماح خطباء المنابر وما أكثرهم هذه الأيام، وإن سلمت من هولاء وأولاءك، انتظرك سيف مالك الصحيفة أو رئيس تحريرها ليقطع، هذه المرة، لا رقبتك وإنما رزقك، خوفا أن يقطعوا عنقه ورزقه هو.
وعلى هذا الخيط الرفيع المعلق في الفراغ يسير الإعلامي العراقي، وعلى طريق من بيض يضع خطواته. وداخل هذا المجتمع الذي ما يزال يعتبر إبداء الرأي والنقد شتائم شخصية، ويؤمن بمقولة أنصر أخاك أو حزبك أو عشيرتك أو قائدك، ظالما أو مظلوما، يعمل الإعلامي العراقي. فما أشجعه. ما أشجعه حتى لو قال ربع الحقيقة، وليس الحقيقة كلها، وحتى لو كشف شظايا مما يعرف وليس كل ما يعرف. بالطبع، الحقيقة كما يراها هو، والمعلومات التي يحصل عليها هو، وليس كما يريد ويتمنى الآخرون. وإذا كانت الصحافة تسمى في دول العالم، مهنة البحث عن المصاعب، فهي في العراق مهنة البحث عن الموت، أو الخطف، أو التشهير، أو قطع الأرزاق، أو الركل بأقدام جنود حميات المسؤولين، أو كل هذه الجوائز، معا.

لماذا كتبنا كل هذه المقدمة؟
لأن حادثة سرقة مصرف الزوية، وتداعياتها، هي التي حرضتنا. هذه الفضيحة السياسية/ الأمنية كتب عنها المعلقون، ونشرت عنها الصحف وتناولتها القنوات الفضائية بالتمحيص، وخصصت لها مواقع الإنترنيت مساحات واسعة. وهي تستحق كل هذا الاهتمام، وهو اهتمام يجب أن لا يتوقف حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
ومن هذه المواقع (كتابات) ومن هذه الصحف (الصباح). موقع كتابات انفرد بنشر معلومات عن جريمة سرقة المصرف وقتل حراسه، واحدة من هذه المعلومات، على الأقل صحيحة، أكدها بيان وزارة الداخلية وهي، اسم احد الجناة الذين شاركوا في تنفيذ الجريمة. إما صحيفة الصباح البغدادية فقد كتب رئيس تحريرها افتتاحية في 03/08/2009 حول الجريمة نفسها، ورد فيها: (جريمة الاعتداء على مصرف الزوية لا يمكن وصفها بالجريمة الجنائية كما جاءت بتصريح الناطق الإعلامي لوزارة الداخلية والمتقاطعة مع أشارات السيد وزير الداخلية الذي تحدث عن جهات متنفذة تقف وراء الجريمة، وتعهد بإعلان أسماء المتورطين والمجرمين خلال يومين.) ومثلما يجد القارئ فأن ما قاله رئيس التحرير ليس من عدنياته ولا من اختراعه، وإنما استند على أقوال تفوه بها مسؤولون حكوميون بمستوى رفيع. وحول الجريمة نفسها كتب الشاعر والكاتب في صحيفة الصباح، أحمد عبد الحسين، مقالا لم يأت، هو الآخر، بحيثياته من عنده، إنما اعتمد على حيثيات وردت على لسان السيد وزير الداخلية بأن (جهات متنفذة تقف وراء الجريمة)، ثم راح الكاتب ينوع على هذه المعلومة.
وهكذا نجد أن ما نشره موقع كتابات وما قاله رئيس تحرير الصباح، وما كتبه الشاعر احمد عبد الحسين، وما تحدثت عنه القنوات الفضائية، وما تناوله المعلقون في كتاباتهم هو، عن حادثة وقعت فعلا، وليس عن حادثة وهمية، لا وجود لها.
هل هناك مبالغة فيما قيل وفيما كتب ؟ ربما. هل ابتعدت هذه الكتابات والأقوال عن الدقة في نقل ما حدث ؟ ربما. ولكن هذا لا يبرر الهجوم على من أدلى بدلوه في هذه الحادثة، ونعته بالخيانة، ومناصرة البعثيين، وتخريب العملية السياسية الجارية. فموقع كتابات ينشر الرأي ونقيضه، حتى ليختلط في هذا الموقع حابل المدافعين بشدة عن النظام الجديد والأحزاب السياسية الحاكمة بنابل الرافضين للنظام والمعادين لهذه الأحزاب. وصحيفة الصباح البغدادية ما زال البعثيون يسمونها صحيفة حكومة الاحتلال ويناصبونها العداء، ويعتبرون العاملين فيها كلهم خونة، والشاعر والكاتب أحمد عبد الحسين بالإمكان نعته، كما نظن، بكل النعوت، ما خلا عداءه للتجربة السياسية الجديدة في العراق.
ونحن نكتب عن موقع (كتابات) دون أن ننشر مقالا فيه، اللهم إلا واحدا في الأيام الأولى لظهور الموقع، ولم ننشر مادة واحدة في الصباح، ولم نعرف الشاعر أحمد عبد الحسين، شخصيا. وكنا قد دافعنا، شخصيا، في مقال نشرناه في إيلاف، عن حرية قناة (الشرقية) في نقل الأخبار، ونحن نقف على مسافة بعيدة (على المستوى السياسي) من هذه القناة. وبعدها دافعنا عن الأستاذ فخري كريم رئيس مؤسسة المدى عندما تعرض لهجوم من قبل رئيس أحدى دور النشر. وعندما ستتعرض إلى هجوم وتشهير قناة الفرات أو صحيفة العدالة أو البيان أو البينة الجديدة أو التآخي أو الاتحاد أو طريق الشعب، أو أي منبر إعلامي آخر، سنقف بجانبه، وندافع عنه.
وعندما نفعل ذلك، فإنما دفاعا عن حرية التعبير. والحرية واحدة لا تتجزأ، وهي (تؤخذ) بالجملة وليس بالتجزئة، وهي ليست انتقائية. إذا تعاملنا مع الحرية بطريقة انتقائية مثلما نفعل مع الفواكه والخضروات في دكاكين البقالين، هذه ناضجة لي، وتلك (ممرودة) لك، فأننا نخون مبادئ الحرية ونهدم الحرية من أساسها.
إن ما يدور في العراق منذ ست سنوات هو، صراع سياسي آيدولوجي، وليس صراعا مذهبيا أو طائفيا. بعد غد، أو ربما غدا، عندما تهدأ الأمور ويستتب الأمن ويتعافى الوضع الاقتصادي، سينسى غلاة الطائفيين، وأشد المتزمتين الدينيين وأكثرهم تطرفا، خلافاتهم كلها، وسيتعانقون كما الرضيع مع رضيعه، وسيؤدون (صلاة) واحدة، بدايتها الهجوم على (الفوضى) و(الإباحية) اللتين (جلبتهما) الحرية للعراق، ونهايتها الهجوم على الديمقراطية التي سببت (الخراب) للقيم وللأخلاق وللدين. ويبدو أن هذه المعركة بدأت تلوح في الأفق.

فها نحن بدأنا نسمع هذه الأيام (ونتمنى أن ما سمعناه أو قرأناه مجرد شائعة) عن ضغوط تمارس لتشريع قانون جديد لمراقبة وسائل الإعلام، وتشديد الرقابة على الكتب والمطبوعات الواردة للعراق. الذرائع التي يتذرع بها أصحاب هذا القانون الذي يراد تشريعه هي، أن الكتب التي سيتم منعها هي (فقط) تلك التي تروج للطائفية وتسيء للوحدة الوطنية، والمواقع الاليكترونية التي يراد حجبها هي التي تروج للإباحية. وهاتان ذريعتان قد تكونان صحيحتين في كل مكان في العالم إلا في العراق.
الطائفية في العراق لم تخترعها الكتب، ولا مواقع الإنترنيت، ولا الفضائيات، ولا الصحافة. الطائفية ابتدعتها وروجت لها، وما زالت، الأحزاب والجماعات الدينية المتطرفة. والعراقيون ليسوا بحاجة لقراءة كتاب صادر خارج العراق حتى يتخندقوا طائفيا، إذ يكفيهم أن يستمعوا إلى بعض خطباء المنابر في بلادهم، بمختلف مللهم ونحلهم، ويكفيهم أن يشاهدوا الفضائيات التابعة لبعض أحزاب الإسلام السياسي، ويكفيهم أن ينظروا إلى مساكن جيرانهم الفارغة بعد أن تم تهجير أصحابها لأنهم من هذا المذهب أو ذاك.
إما محاولة حجب مواقع الإنترنيت بحجة ترويجها لفساد الأخلاق وللإباحية، فهي نكتة سمجة، حقا، لسبب بسيط هو، أننا نعيش في عصر ثورة الاتصالات التي حطمت الحدود والسدود. ثم، لماذا لا يثق المتيمون بمفردة (منع) بعقول وبضمائر وباختيارات العراقيين؟ لماذا يصرون على معاملة العراقيين باعتبارهم دون سن الرشد ؟ قلنا ونقول من جديد أن المجتمع العراقي أكثر نضجا وأكثر وعيا من الطبقة السياسية.
إن أي إجراء لتقييد الحريات، أو تقنينها هو إعادة اعتبار للنظام الديكتاتوري. لنتذكر أن نظام البعث بدأ حكمه بمطاردة الفتيان والفتيات في الشوارع وقص سوالف الذكور وملابس الفتيات بحجة مكافحة التخنث والميوعة، وأنهى حكمه بالحملة الدينية المشهورة، وكتابة اسم لفظ الجلالة على الراية الوطنية. وبين الأولى والثانية سالت دماء وقطعت رؤوس وشرد أبرياء واجتذت أحزاب، وشنت حروب، وعم خراب شامل. تجربة البعث علمتنا درسا لن ننساه: الديكتاتورية تبدأ ب(قطع) سوالف الشباب و (تنورات) الفتيات، وتنتهي بقطع رؤوس كل المخالفين لها.
وكل ما يقوله الديكتاتوريون (أي ديكتاتوريين، وبأي عباءة تغطوا، وتحت أي أسم تسموا) بأنه لا حرية لأعداء الحرية، ولا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، ولا مكان لأعداء الشعب في (صفوفنا) هو، هراء صاف، لكنه خطير وقاتل. الحرية لا تزدهر ولا تترسخ إلا إذا مارسها أعدائها، والديمقراطية لا تنمو ولا تصبح شجرة باسقة إلا إذا حصل عليها أعدائها، وأعداء الشعب لا يمكن كشفهم إلا إذا مارسوا نشاطهم بحرية. إما ما يقال هذه الأيام عن (الفوضى) الإعلامية، والحزبية، وعن ضرورة ضبطها، فهو يشبه أن يقدم لك أحدهم سما وقد وضعه داخل علبة مذهبة وأنيقة.
علينا أن لا ننسى أن الفوضى والحرية ينتميان إلى عشيرة واحدة، بل فخذ واحد، بل إلى أسرة واحدة، مثلما أن الضبط والديكتاتورية ينتميان إلى أسرة واحدة.
ولهذا، فأن المسألة أبعد من أن تخص هذا الموقع الإليكتروني أو ذاك، أو الصحيفة الفلانية، أو الكاتب العلاني. إنها مسألة تتعلق بالحرية.
يبقى أن نقول أن المثقفين العراقيين، الإسلاميين والديمقراطيين والعلمانيين واللبراليين، بكل طبقاتهم، و في داخل العراق وخارجه، سيرتكبون خطأ فادحا حقا، لو أنهم استنكفوا من الدخول في هذه المعممة، مسألة الدفاع عن الحريات، واعتبروها مسألة بعيدة عن نشاطهم.
يعرف سارتر المثقف كفرد ( يتدخل في أمور لا تعنيه Lrsquo;intellectuel est comme quelqursquo;un qui se mecirc;le de ce qui ne le regarde pas).
وإذا كانت قضية الحرية لا تثير اهتمام المثقف العراقي، ولا تستحق منه التدخل، فأي قضية أخرى تستحق أن يحشر أنفه فيها!