لا أظن أن المتخصصين في ميدان علم الاجتماع السياسي، على اختلاف مدارسهم الفكرية، يجدون مكانا أفضل من العراق هذه الأيام، لتطبيق ما لديهم من نظريات، وفحص ما عندهم من أراء، أو إعادة فحص ما تعلموه في جامعاتهم، بفضل ما يشهده العراق من تحولات عاصفة، وما يرافقها من ظواهر، منذ عام 2003.
و إذا غضضنا الطرف عن وجهات النظر الأحادية التبسيطية الأرادوية التي ما تزال تحصر كل ما حدث ويحدث في العراق منذ عام 2003 وحتى الآن داخل ثنائية واحدة ووحيدة هي، إما صراع شيعي/ سني، أو احتلال/ مقاومة، فأننا سنجد أنفسنا أمام حراك واسع، عميق، مركب، متشابك. إنه حراك تتباطأ حركته هنا، وتتسارع هناك، وهو حراك يحدث على كل الأصعدة، مناطقيا وطائفيا وقوميا واجتماعيا. وهو حراك يلين مرة، ويشوبه العنف المسلح المدمر، ولي الأذرع، مرة أخرى، يتخطى القانون ويخرقه هنا، ويلتحف بعباءة القانون، هناك. وداخل هذا الصراع يتوجب النظر للقرار الذي وضعناه في عنوان المقال.

رافق قريبتك إلى مقر عملها واحصل على راتب شهري من الدولة !!
في 27/10/2009 اصدر مجلس محافظة واسط (وسط العراق) قرارا يقضي بتعيين محرم لكل واحدة من عضوات مجلس المحافظة، وبراتب شهري قدره 200 ألف دينار. وقال المجلس أنه اتخذ قراره هذا استنادا (لمقتضيات المصلحة العامة وبناء على طلب تقدمت به عضوات مجلس المحافظة، والمتضمن حاجتهن إلى مرافقين شخصيين من المحارم نظرا للظروف الاجتماعية والعرفية /السائدة في المحافظة/، ولكون الحماية المنتسبين ليسوا من أقاربهن.)
القرار، كما يلاحظ القراء، هو أغرب إجراء تتخذه سلطة رسمية عراقية منذ ظهور الوظائف الحكومية في العراق. و هذا القرار لا يختلف عن عمليات هدر المال العام المستمرة، ولكن بغطاء قانوني، هذه المرة: أب أو أخ أو خال، أو أي محرم، يرافق قريبته إلى دائرة عملها، فيحصل، جراء هذه النزهة العائلية، من خزينة الدولة على 200 ألف دينار شهريا، دون أن يقوم بأي جهد منتج تستفيد منه الدولة، ويستفيد منه المجتمع. إما الجانب السريالي الفتتازي في هذا القرار فيكمن في تعميمه (وبالمناسبة فأن احتمال تعميمه في أنحاء العراق أمر وارد) على جميع عضوات مجالس المحافظات، وجميع البرلمانيات، وجميع النساء العاملات في أجهزة الدولة.

لكم دستوركم ولنا دساتيرنا
هذا في ما يخص لامعقولية القرار. الآن، ماذا عن شرعية القرار، دستوريا، أي عن مدى تطابقه أو معارضته مع النصوص الدستورية، ومع روح الدستور؟ إنه قرار يتعارض مع نصوص الدستور المعمول به حاليا، ولا ينسجم مع ما ترمي لتحقيقه هذه النصوص على المدى الأبعد. فالفقرة ب من المادة الثانية في الدستور تقول: ( لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.) وتقول المادة (14): (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي.) وتقول المادة (20): (للمواطنين، رجالا ونساء حق المشاركة العامة، والتمتع بالحقوق الأساسية بما في ذلك حق التصويت والترشيح.) وتقول المادة (42): أولا، (للعراقي حرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه.) النصوص الدستورية التي أوردناها لا تميز بين الذكر والأنثى، بل تساوي بينهما، وتفترض عند المرأة كفاءة و قدرة على تحمل المسؤوليات العامة، بل أن النصوص المذكورة لا تلغي إمكانية أن (تقود) المرأة الرجل في الحياة العامة، في حال مارست المرأة (حقها) في الترشيح لأي انتخابات، ولأي مفصل من مفاصل الدولة، وحصلت على أصوات أكثر من منافسها الرجل.


ما هي، إذن، الدوافع الحقيقية وراء إصدار القرار
نظن أن التوقف عند الجانب المادي النفعي وحده في هذا القرار (منح رواتب مجانية لقاء وظائف وهمية)، إنما هو بمثابة تبسيط للأمور. وحتى الذريعة التي تذرع بها مجلس المحافظة ( الظروف الاجتماعية والعرفية) هي ذريعة واهية، لأن نساء هذه المحافظة، شأنهن شأن نساء المحافظات الأخرى، كن وما يزلن يذهبن لأماكن عملهن ودراستهن ويسافرن خارج المحافظة، دون وجود محرم، دون احتجاج من احد، ودون أن يعترضهن احد. إن هذا القرار يجب النظر إلى إليه باعتباره حلقة واحدة ليس إلا، من حلقات مسلسل الصراع الكبير الواسع والشامل الذي يشهده المجتمع العراقي منذ 2003. القرار هو محاولة (بغطاء قانوني) من محاولات كثيرة سابقة نفذتها (عن طريق العنف، وبدون غطاء قانوني) القوى المحافظة والأكثر عداء للتحول الديمقراطي، للوقوف بوجه العملية الديمقراطية، أو أفراغها من محتواها، أو الالتفاف عليها، بطرق مختلفة ( سنوضحها لاحقا).علينا أن نعرف أن القرار المذكور يأتي عشية الانتخابات التشريعية القادمة، وبعد مرور أشهر قليلة على إجراء الانتخابات المحلية. ولا نظن أن هذا التوقيت أملته الصدفة وحدها، إنما له دلالاته. فالمعروف أن الانتخابات المحلية سجلت تراجعا ملحوظا للقوى السياسية المحافظة، وللفئات التي تمثلها هذه القوى. إما الانتخابات التشريعية المنتظر إجرائها بعد شهرين من الآن فأن مقدماتها تشير، حتى الآن، إلى احتمال تقدم قوى سياسية أكثر انفتاحا وأشد دفاعا عن التحولات الديمقراطية، وتمسكا بالنهج الديمقراطي، وبالتالي تراجع أضافي للقوى المتشددة. علينا، أيضا، أن نتذكر الصرخات التحذيرية التي أطلقتها بعض القوى الإسلامية المتشددة، قبل سنوات قليلة، أي بعد عملية التغيير في 2003 ( ما تزال تعرض على شبكة الانترنيت)، بأنه يجب عدم التقليل من شأن القوى الديمقراطية (قالوا العلمانية) لأنها ما تزال قوية داخل المجتمع العراقي. ولا نظن أننا نتعسف كثيرا لو قلنا أن قرار محافظة واسط هو صرخة تحذير استباقي تطلقها هذه القوى المحافظة والمتشددة داخل المجتمع العراقي، تريد أن تقول عبرها لكل القوى المدافعة عن الخيار الديمقراطي: تحدثوا عن الديمقراطية كما شئتم، وضمنوها في الدستور مثلما رغبتم، لكننا سنستمر في معارضة الديمقراطية وتطبيقاتها وتجلياتها، وسنخلق دساتيرنا الخاصة، بالقوة المسلحة، مرة، وبالقوة اللفظية، مرة ثانية، وتحت عباءة القانون، مرة ثالثة، وبحيل أخرى نبتدعها، إذا أعيتنا هذه الحيل.

بالأمس تحريم الموسيقى واليوم تعيين محرم، فماذا سيحدث غدا؟
يتذكر العراقيون الهجمات المسلحة التي شنتها ( في الواقع، ما تزال تشنها) بعض القوى الإسلامية الأكثر تطرفا، ضد بؤر اجتماعية محددة. و عندما نقول (بؤر) فأننا نقصد أن القوى المعادية للديمقراطية، الممثلة ب(بعض) النواتات الصلبة داخل القوى السياسية الإسلامية المتشددة، لا تشن هجومها على كل الجبهات وإنما تختار الجهات الرخوة و الأكثر هشاشة داخل المجتمع. ولتوضيح أكثر، نقول إن هذه القوى المعادية للتوجه الديمقراطي لا توجه هجومها ضد الدستور، مثلا، أي المطالبة بإلغاء النصوص ذات المحتوى والتوجه الديمقراطي، ولا تطالب بإلغاء حرية الإعلام، كممارسة ديمقراطية، ولا إلغاء منظمات المجتمع المدني، لأن هذه القوى تدرك استحالة تحقيق هذه الأهداف في الوقت الحاضر، ولأنها تعرف، ثانيا، أنها ستحظى بردود أفعال مناهضة واسعة جدا، ولأنها هي نفسها تستفيد من هذه الإنجازات. وبدلا من ذلك، فأن هذه القوى المناهضة للديمقراطية ركزت وتركز هجومها ضد الفئات غير المحصنة جماهيريا داخل المجتمع، أي تلك الفئات التي تبدو كجزر صغيرة متباعدة وغير محمية، ولا يسبب الهجوم عليها رفضا جماعيا، إن لم يكن يحظى بالقبول، أحيانا. ونحن نقصد هنا الجبهة الثقافية/ الاجتماعية. فقد تابعنا كيف تم حرق محلات الموسيقى، والإغارة على خيام الغجر، وإعاقة افتتاح صالات السينما والمسرح، وحرق محلات بيع الخمور، ومطاردة النساء اللواتي لا يرتدين الزي الإسلامي، مع فرض ارتداء هذا الزي على الفتيات القاصرات، فتح بنوك خاصة بالنساء، منع التعليم المختلط للصغار، الشكاوى التحريضية التعبوية المبالغ فيها من أن العراق أصبح هذه الأيام يعج بدور الدعارة والملاهي وأماكن إباحة المنكرات. القوى المناهضة للديمقراطية تعرف أن هذه جبهات غير محصنة، وتدرك أن ما من أحد يصد هجومها هنا، لأنه سيشعر بالحرج.بالطبع، أن هذه القوى الرافضة للتحولات الديمقراطية تؤكد أنها تنفذ هجماتها صونا للأخلاق وترسيخا للفضيلة، ودفاعا عن الدين. وهذا أمر لا نظنه يقنع كثيرين. وإلا، فهل يصدق عاقل أن ملهى ليلي، أو خمارة، أو مطرب بإمكانه أن يهدم عرى الدين، خصوصا في ظل هذا المد الديني الفوار الذي يشهده العراق؟ إن الأهداف الحقيقية الإستراتيجية الكبرى التي تسعى هذه القوى لتحقيقها هي، إجهاض التحول الديمقراطي، عن طريق قتل أي بادرة (انفتاحية) حتى لو كانت دكان حلاق، أو سفرة جامعية مختلطة، أو حفلة موسيقية. بالتأكيد، أن هذه القوى المهاجمة نفسها تدرك جيدا أن الإسلام أكبر من أن تهدمه قصة شعر مراهق، أو امرأة سافرة، أو محل لبيع الأدوات الموسيقية، لكنها مع ذلك تنفذ هجماتها المسلحة. لماذا؟ لأن هذه القوى تريد لهجماتها هذه أن تحقق عدة أهداف: إثبات وجودها المسلح، ترويع المجتمع المدني وقتل روح المبادرة عند المواطنين، تحدي الدولة المركزية ولي ذراعها، استباق ما ستأتي به التحولات الديمقراطية من تغيرات في بنية المجتمع، التجاوز على الدستور والاستهانة بنصوصه، تنفيذ قانون شريعة الغاب الذي يمنح الحق للأقوى، بعيدا عن شريعة القوانين المطبقة التي يتساوى أمامها كل الناس. وهذه الأمور كلها لا تقود إلا لقتل روح التسامح، وكبح عملية الانفتاح، وإجهاض التحولات الديمقراطية، والتمهيد لخلق مجتمع ديكتاتوري تحت هذا المسمى أو ذاك، وهي في الوقت نفسه بالونات اختبار (خارجة عن القانون) يراد منها قياس ردود الأفعال عند المجتمع المدني وعند الطبقة السياسية. وداخل هذا السياق تتوجب قراءة القرار (السلمي، والمؤطر بقانون) الذي أصدره مجلس محافظة واسط. فإذا مر هذا القرار بسلام وبدون احتجاجات ضده، فستطبقه محافظات أخرى. وإذا لم تصدر احتجاجات ضد المحافظات، فسيصار إلى إصدار قرارات أشد تزمتا، حتى تصل الأمور إلى إصدار قرارات تمنع نشاط هذا الحزب أو ذاك، أو منع دخول هذه الصحيفة أو تلك، أو منع نشاط منظمات المجتمع المدني، أو تحريم الانتخابات نفسها باعتبارها بدعة غربية مستوردة، وهكذا.إذن، ما العمل؟

من أجل خلق ذهنية سياسية جديدة تناسب الواقع العراقي
إن العمل يكمن، في رأينا، بتقارب كل القوى المؤيدة للعملية الديمقراطية، على اختلاف مواقعها داخل المجتمع، وعلى اختلاف المدارس الفكرية والسياسية التي تنتمي إليها، دون استثناءات ودون عقد، ودون أحكام جاهزة، وبذهنية سياسية جديدة تأخذ بالحسبان التغيرات المذهلة التي طرأت على الواقع العراقي، وتبتعد تماما عن الكليشهيات.إن وضع الأحزاب والقوى الدينية السياسية العراقية داخل خانة واحدة وإطلاق تسمية 'القوى الظلاميةquot; عليها، أو القوى الرجعية أو المتخلفة، ليست سوى أحكام معدة مسبقا (جاهزة)، متعالية، وبعيدة عن واقع الحياة العراقية. فقد كشفت تجربة السنوات الست الماضيات قدرة الكثير من هذه الأحزاب على تغيير أفكارها ومواقفها وشعاراتها، وكشفت عن قدراتها على التأقلم مع ما يفرزه الواقع من مستجدات. و أي متابعة لمصادر ردود الأفعال على قرار مجلس محافظة واسط تبين أن هناك العديد من النساء داخل الأحزاب الدينية السياسية رفضن القرار وطالبن بإلغائه. ومن المفيد جدا هنا أن نتوقف عند الملاحظات التالية وهي، إن صدور قرار محافظة واسط يأتي في نفس الوقت الذي تم فيه تأسيس كلية التربية المختلطة في الكوفة، معقل القوى الإسلامية السياسية، ويأتي القرار في الوقت نفسه الذي تطالب فيه ناشطات في الأحزاب الدينية السياسية بضرورة أن تكون المرأة العراقية رئيسة للجمهورية في المستقبل. والقرار يصدر بعد أن نقلت وسائل الإعلام صورا يظهر فيها زعماء أحزاب دينية سياسية يروجون لقوائمهم الانتخابية، ووسطهم تقف نساء علمانيات بوجوه سافرة. وهذا القرار تزامن مع سابقة تاريخية لم يعرفها المجتمع العراقي طوال تاريخه، ونحن نشير إلى إقدام سيدة برلمانية (تنتمي لأحد الأحزاب الدينية السياسية) على استجواب أحد الوزراء، هكذا علانية وأمام وسائل الإعلام، ومطالبتها إياه أن يصمت وأن لا يتحدث إلا عندما توجه له سؤالها !! إنها تناقضات؟ نعم، ولكنها تناقضات مفهومة ومتوقعة، وسيحدث المزيد منها، على كل الأصعدة، وهي تناقضات تدل على نضج سياسي، وليس العكس، وهي نتيجة لهذا الصراع الدائر في العراق والذي بدأ ولن ينتهي، بل أن فصوله الكبرى لم تبدأ، أصلا.