هناك أطروحة عزيزة على قلوب عدد كبير من المختصين في قضايا المجتمعات العربية والإسلامية في الغرب، بينهم أكاديميون ومدراء مراكز بحوث وساسة وكتاب في دوريات متخصصة مرموقة ، ويؤيد الأطروحة في العالمين العربي والإسلامي، وبحماسة كبيرة، باحثون ومشتغلون بالشأن السياسي وزعماء حركات سياسية دينية ورجال دين وقادة دول، وجماهير غفيرة. الأطروحة تؤكد على أن الديمقراطية، من جهة، والعرب والمسلمين، من جهة أخرى، برزخان لا يلتقيان، و أن العرب والمسلمين لا يصلحون للديمقراطية، والديمقراطية دواء غربي لا يصلح لهم، مهما قدمت الديمقراطية، كفلسفة للحياة وطريقة في الحكم، من إغراءات وتنازلات وتعديلات، ومهما أبدى العرب والمسلمون من استعداد للانفتاح على التجارب السياسية في العالم، ومن رغبة في التغيير وإصرار على التعلم من تجارب الآخرين. هذه النظرية، أو هذه الآراء كادت أن تتحول إلى قناعة راسخة تصل حد التقديس، بعد نجاح الثورة الإيرانية التي ساهمت فيها جميع القوى السياسية المعارضة لنظام الشاه (أغتصبها الإسلاميون لاحقا، وسموها الثورة الإسلامية)، وبعد حدوث هجمات أيلول في أميركا، وما أعقبها من ازدهار للحركات الإسلامية المتطرفة.
الحجج، أو الأسباب عند أصحاب هذا الرأي توجد في التركيبة البنيوية ذاتها لهذه المجتمعات: الدين الإسلامي، أولا، والعقلية العشائرية، ثانيا، والنمط الاقتصادي السائد، ثالثا، وأخيرا التخلف الحضاري التاريخي، كأنتشار الأمية والتشبث بالعادات والتقاليد القديمة. أصحاب هذه النظرية ينطلقون، في ترويجهم لها، من منطلقات ودوافع مختلفة. الأكاديميون منهم يعتمدون على معطيات تاريخية وسيسيولوجية وجيوبوليتيكية، ودراسات مقارنة، أي هم، بهذا القدر أو ذاك، منزهون عن الأحكام الجاهزة، وعن الأغراض الخاصة. القسم الآخر، وهم الحكام وقادة الدول في العالمين العربي والإسلامي، يدافعون عن هذه النظرية لأنها تتماشى مع فلسفتهم وطريقتهم في الحكم، التي ترفض التداول السلمي، وتحتكر الحكم إلى حد الموت. أما القسم الثالث، وهم قادة ومنظرو الحركات الإسلامية المتطرفة، كتنظيم القاعدة ومن يشايعه، ومعهم رجال دين من مذاهب مختلفة، ومؤسسات دينية، يدعمون هذه النظرية انطلاقا من رفضهم المبدأي للديمقراطية، جملة وتفصيلا، باعتبارها بدعة غربية كافرة تتعارض تماما مع مبدأ الحاكمية لله، وليس للبشر، أي الشعوب.
ومثلما يرى القراء، فأن مناقشة هذه الآراء بحاجة إلى دراسات معمقة ينجزها باحثون متخصصون، ومن السفه أن نقول إن هذه السطور قادرة على انجازها ، بأي حال من الأحوال. لكن، هذا كله لا يمنعنا أن نقول بأنه، ما دامت الحجج التي قلنا إن أصحاب نظرية عدم صلاحية الديمقراطية للعرب وللمسلمين يعتمدون عليها ، ليست خصائص بيولوجية يرثها الأبناء من الآباء مع الجينات، كلون البشرة، ولون العينين وطول أو قصر القامة، فإنها، في نهاية المطاف، قضايا متحولة، شئنا أو أبينا، طال الزمن أو قصر. والأمر الآخر هو، أن نظرية استحالة تطبيق الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي، هي مجرد افتراضات أو وجهات نظر، لا تعتمد على استنتاجات رياضية، أو تحاليل مختبرية، وبالتالي فأنها عرضة للتفنيد، بما في ذلك ما يقوله قادة الحركات الإسلامية السلفية والمتشددة، لأن ما يقولونه في هذا الشأن هو مجرد (اجتهاد) يجد معارضة، حتى من لدن إسلاميين آخرين. والأمر الثالث الذي يسمح في مناقشة هذه النظرية هو، أن الديمقراطية لم يتم، حتى الآن، تطبيقها بشكلها الحقيقي في أي بلد من البلدان العربية والإسلامية، حتى نعرف أن كانت هذه الشعوب ترفضها أو تقبلها، بما في ذلك لبنان وتركيا. فالعلمانية التركية فرضها أتاتورك بصورة أرادوية، وظل الجيش التركي، حتى وقتنا هذا، مكلفا بحراستها. البلد الوحيد الذي بدأ باعتماد الديمقراطية هو العراق.

الديمقراطية ليست عمارة سكنية نبنيها فينتهي الأمر
سنردد أوهاما لو قلنا أن الديمقراطية انتصرت في العراق، وأن هذا البلد أصبح واحة ديمقراطية. فالنظام الديمقراطي ليس طريقا نشقه ونعبده وينتهي الأمر، ولا هي عمارة سكنية نرسم خارطتها، ثم نبدأ ببنائها، وبعد ذلك تنتهي ونسلم مفاتيح شققها للساكنين. و الديمقراطية لا تقام بمجرد حدوث انتخابات عامة، مهما كانت نزيهة وشفافة، أو بمجرد وجود حرية صحافة. الديمقراطية نظام متكامل. ولهذا، فأن العراق ما يزال بعيدا جدا عن النظام الديمقراطي، ولهذا، أيضا، نحن نتحدث، هنا، عن آلية ديمقراطية تم اعتمادها منذ عام 2003 وأثمرت، حتى الآن، نتائج ديمقراطية، أو شيدت مجموعة من الأسس لا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يقوم بدونها: دستور تم تبنيه والاستفتاء عليه من قبل الشعب، انتخابات عامة، حرية الصحافة، الفصل بين السلطات الثلاث، حق المرأة في المشاركة في الحياة العامة بما في ذلك حق ترشيحها في الانتخابات، نص الدستور على عدم تشريع قوانين تتعارض مع مبادئ الديمقراطية، مساواة جميع العراقيين في الحقوق والواجبات ... الخ.
هذه النتائج، حتى بشكلها الهش المطبق حاليا داخل العراق، لا تفضي إلى إقامة دولة ثيوقراطية، وإنما تقود، بالضرورة، وخصوصا في حال تجذرها وتطورها لاحقا، إلى دولة مدنية ديمقراطية، على غرار الديمقراطيات الغربية. وهذه الانجازات الديمقراطية التي حدثت في العراق تحمل، رغم هشاشتها التي أشرنا إليها، دلالات رمزية مثيرة وخطيرة جدا، بالضبط لأنها تحدث في العراق. لماذا ؟ لأن العراق، وفقا للمعايير التي يعتمد عليها أصحاب نظرية استحالة تطبيق الديمقراطية، يعتبر، تاريخيا وحاضرا، البيئة المثالية الحاملة لفيروسات مضادة للديمقراطية.
فالمعروف أن العراق، إسلاميا، ليس من الأطراف، وإنما هو المركز، أو مركز المركز. فقد احتفظت عاصمته بغداد بكرسي الخلافة الإسلامية لعدة قرون، وليس عدة عقود. وفي العراق، وليس في بلد إسلامي آخر، تأسست غالبية المذاهب الإسلامية التي يعتمدها المسلمون حتى يومنا هذا. وفي العراق توجد أهم مراقد لأئمة الشيعة في العالم، وتوجد فيه مرجعيتهم العليا، وفي العراق تكاد لا تجد شبرا واحدا إلا وتحته رفات أحد الأولياء و أحد الصالحين. وفيما يخص لغة القرآن، العربية، فأن بصرة العراق وكوفته وبعد ذلك عاصمته بغداد ظهرت فيها مدارس النحو.
أما على الصعيد العشائري، فالعراق يضم أهم وأكبر العشائر العربية، ولعل من العبث أن تبحث عن عراقي لا يردف أسمه الأولي بلقبه العشائري. لكن العشائر العراقية لم تناهض، على امتداد السنوات التي أعقبت عملية التغيير وانتهاء النظام الشمولي، العملية الديمقراطية، بل ساندتها، وشارك بعض قادتها وأعداد غفيرة من أفرادها في جميع الانتخابات الديمقراطية، وبعض من هولاء الرؤساء رشحوا أنفسهم للانتخابات، خصوصا الانتخابات الأخيرة. والأمر الذي يتوجب على المختصين في الانثروبولوجيا السياسية، والباحثين في قضايا العشائر أن يتوقفوا عنده كثيرا هو، هذا التحول الغريب نوع ما، أو الغريب تماما، الذي بدأت العشيرة العراقية تشهده خلال السنوات الست الماضيات. فالعشائر العراقية تحولت أو تكاد أن تتحول إلى أحزاب سياسية، تعقد كل واحدة منها مؤتمرا خاصا بها، تماما على غرار ما تفعله الأحزاب السياسية، وبلغة تستمد مفرداتها، ليس من القاموس العشائري، وإنما من قاموس السياسة. فبدلا من استخدام مفردات، مثل (السنينة والفريضة والعطوة والكوامة، وكسر العصا ... الخ)، بدأت العشائر تعقد مؤتمراتها تحت شعار(كلنا للعراق) أو (بيارق العراق) أو (أبناء العراق). أي، أن (عدوى) الديمقراطية السياسية، وليست الديمقراطية العفوية، أصابت مؤسسة العشيرة نفسها. وهذه المؤتمرات لا تعقد داخل المضائف العشائرية في الريف، حيث (المقر الرسمي) للعشيرة، وإنما داخل المدن، حيث المقر الرسمي للدولة. والملاحظ، هو حرص العشائر العراقية على أن يكون رأس السلطة السياسية، أي رئيس الوزراء، حاضرا وراعيا لهذه المؤتمرات. هذا يعني بدء ظهور لسياسة (تخادم) بين العشيرة والدولة العراقية، وهذا أمر ما كان موجودا في عشرينيات القرن الماضي عندما اشتكى الملك فيصل الأولى من بنادق العشائر
التي كانت أكثر من سلاح الدولة، وما كان موجودا خلال حقبة حكم صدام حسين، عندما تحول شيخ العشيرة إلى (مهوال) يردد (هوسات) لمدح صدام. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن رئيس الوزراء الذي افتتح، تقريبا، جميع هذه المؤتمرات العشائرية هو، حامل شعار (دولة القانون)، فأن ذلك يعني (اقتراب) العشيرة من الدولة ومؤسساتها وقوانينها.
أما على المستوى الاقتصادي، فأن العراق ما يزال يعيش على اقتصاد ريعي، و يفتقر إلى اقتصاد متعدد، ويعاني من مشاكل التضخم والبطالة والكساد وتفاوت الدخول، وما زال بعيدا عن اقتصاد السوق المحرك للنشاط الاقتصادي. والدولة العراقية الحالية ليست سوى أب يعيل ثلاثين مليون من المعاقين، هم عدد نفوس العراق. فالدولة تستخرج النفط وتقوم ببيعه لتسدد ثمن البطاقة التموينية، ولتدفع رواتب العاملين في الدولة، دون وجود لإستراتيجية تنموية، ولسياسة إصلاح اقتصادي، ولا لأي نشاط اقتصادي منتج، مثلما يحدث في دول الديمقراطيات الغربية. وفي ظل أوضاع كهذه غاب أي نشاط نقابي أو مهني، وأصيبت الطبقات الوسطى بفقر الدم، وتضائل دورها التنويري التي عرفت به، وانعدمت الصناعة السياحية الحرة، سواء الوافدة إلى العراق، أو الخارجة منه.
الدلالة الرمزية الأخرى هي، أن الديمقراطية الناشئة في العراق إنما ولدت، وتستمر في النمو حتى الآن، بمشاركة وبدعم وتشجيع (أعداءها) المفترضين، أي المرجعيات الدينية الشيعية والسنية، وأحزاب الإسلام السياسي بشقيه، والعشائر. بمعنى آخر، أن نبتة الديمقراطية زرعت في بيئة غريبة، وتتم تغذيتها، أقله حتى هذه اللحظة، من قبل أعدائها المفترضين، مع ذلك فأنها تتقدم بشكل معقول.
بدون شك، أن الديمقراطية الناشئة في العراق ولدت أثر احتلال أجنبي. لكن، هذا الاحتلال ما كان في قدرته، حتى لو فعل المستحيل، أن يرغم العراقيين على تقبل الديمقراطية، لو أنهم وقفوا ضدها. فأفغانستان تعرضت، هي أيضا، إلى احتلال أميركي، لكنها لم تشهد ولادة تجربة ديمقراطية، كهذه الجارية في العراق. الاحتلال الأميركي للعراق كان بمثابة صفعة مهينة، أو دعنا نقول صدمة قاسية للعراقيين، لكنها حملت، في الوقت نفسه، قدرا كبيرا من التحدي، قبله العراقيون وعالجوه وتعاملوا معه بطرقهم الخاصة، تماما مثلما فعلوا مع الاحتلال البريطاني لبلدهم بعد الحرب العالمية الثانية. ذاك الاحتلال البريطاني تصدى له العراقيون في البداية بقوة السلاح، ثم قبلوه كأمر واقع لا مفر منه، ثم بدأوا بفرض شروطهم، ثم شرعوا في بناء دولتهم الحديثة، اعتمادا على الخبرات التي حصلوا عليها من البريطانيين، ونجحوا كثيرا في مسعاهم. فالعراق الذي خرج من نظام الخلافة العثمانية الإسلامية، دون وجود لمدرسة ثانوية واحدة، أصبحت مدنه، حتى النائية منها، تضم أكثر من مدرسة ابتدائية واحدة للبنين وأخرى للبنات، في الأربعينيات من القرن الماضي، أي بعد مرور أقل من عشرين سنة، على الاحتلال البريطاني. وما كان عبد الرحمن النقيب خائنا، ولا نوري السعيد ولا حكمت سليمان ولا فاضل الجمالي ولا عبد الوهاب مرجان ولا عبد المحسن السعدون، ولا محمد الصدر ولا صالح جبر ولا مزاحم الباججي، وهم يترأسون حكوماتهم بالتشاور مع المحتلين، ويوقعون على معاهدات عسكرية ويقيمون أحلافا عسكرية مع الانكليز. لكنها سياسة (الريل بولتيك) التي لا تقفز على الواقع، وإنما تحاول تطويع الواقع للمصالح الوطنية العليا. ولا نظن أن عاقلا واحدا يقول أن العراق الملكي الدستوري، والعراق الجمهوري، بعده كانا أسوأ من العراق العثماني.
وهذا، بالضبط، ما يحدث في عراق اليوم: من مجلس حكم يديره موظف أميركي بسيط، أسمه بريمر، إلى حكومة مؤقتة، إلى انتخابات عامة وحكومة منتخبة، إلى اتفاقية عراقية- أميركية، إلى توقيع عقود وطنية لاستثمار النفط، ستحول العراق إلى اكبر مصدر للنفط. والأهم من هذا كله، من نظام حكم مغرق في طبيعته الشمولية وظلمه الرهيب، يديره أفراد بعدد أصابع اليد من أسرة واحدة، إلى نظام لا تتم المصادقة فيه على القرارات الكبرى إلا بعد أن تمر بأكثر من (فلتر) واحد لتصفيتها، والتأكد من عدالتها وسلامتها القانونية، ولا يتم فيه تشكيل الحكومة إلا بعد مفاوضات شاقة، حتى لو استغرق الأمر عدة شهور.

والحركات الإسلامية التي طالبت بإقامة الخلافة الإسلامية ؟
هذه تعامل العراقيون معها بحذر، في أول الأمر، ثم بتأييد براغماتيكي، لكنه محسوب، بعد أن أشعلت هذه القوى نيران الحرب الطائفية، ثم عاد العراقيون فرفعوا أياديهم عنها، لأنهم اقتنعوا أن كرسي الخلافة الإسلامية التي أصرت تلك الحركات أن تقيمه في العراق، سيجلس عليه، بالضرورة، (سياف) لا مثيل لقسوته ولديكتاتوريته ولتفرده في الرأي ولاحتكاره للحقيقة، ففضلوا عليه قبة البرلمان الذي وجدوا أن ما يدور داخلها يشبه ما كان يحدث في مضائفهم العشائرية، من حوارات وتبادل للآراء.
واضح، أننا نشير، هنا، إلى تنظيم القاعدة، بكل ما يمثله من أفكار وممارسات و رؤى. فهذا التنظيم الذي لم تنجح حتى الولايات المتحدة وحلفائها في هزيمته، بجميع ما عندها من إمكانيات عسكرية، هزمه العراقيون، ليس بسلاحهم، لأن سلاح القاعدة في العراق كان أكثر ألف مرة من سلاح الذين هزموه، ولكن بأفكارهم، أي لتفضليهم للنظام الديمقراطي الذي شرعوا يشاركون في صنعه، بحماس واضح. وهزيمة تنظيم القاعدة خلفت وراءها تداعيات كثيرة، بالإمكان تلخيصها بجملة واحدة هي، هزيمة التطرف الإسلامي بشقيه السني والشيعي، إما بتهميشه، أو فراره خارج العراق، أو بقبوله شروط اللعبة الديمقراطية، والمشاركة فيها.
ومرة أخرى نؤكد أن لا أوهام عندنا. فليس بمجرد حدوث انتخابات نزيهة يتحول العراق إلى بلد يضاهي البلدان الاسكندينافية، كما يقول مراسل صحيفة لوفيغارو الفرنسية. ولكننا نقول، كما يقول المراسل نفسه، أن الشيء الأكثر أهمية الذي حققته هذه الانتخابات هو، أنها خطوة باتجاه تكذيب مقولة أن الديمقراطية لا تصلح للعالم العربي- الإسلامي. بل نحن نذهب أبعد من ذلك، فنقول أن التجربة الديمقراطية الجارية في العراق ستحفر قبر الفكر الإسلامي المتطرف، وستجعل الكثيرين يعيدون حساباتهم.