quot;مَنْ استبد برأيه هلك ومَنْ شاور الناسَ شاركها في عقولهاquot;- الإمام علي بن أبي طالب

في كل الديموقراطيات في العالم، تجري الانتخابات في موعدها المحدد ومن ثم تكلف الكتلة الفائزة بتشكيل الحكومة الجديدة إلا إذا قال الدستور بخلاف ذلك. في حالة تشتت أصوات الناخبين تسعى الكتل الكبيرة لإقناع الكتل الصغيرة بوسائل عدة، من بينها إعطاؤها حصة في الحكومة وفي اتخاذ القرارات. وهذا ما حصل في انجلترا مؤخرا وقبلها بولندا واليابان وهولندا وسواها.
المشكلة العراقية عويصة نظرا لكون الدستور العراقي الوليد حافلا بالمطبات واللبس وحتى (سوء النية) لأنه صيغ في فترة غياب القرار العراقي، وسيادة عقلية quot;المحاصصةquot; وquot;التوافقيةquot; وquot;تقسيم الامتيازاتquot;، ثم التعويل من لدن البعض على quot;ضبابية الدستورquot; في حصد المكاسب لاحقا.
لايمكن أن تبنى العملية الديموقراطية في العراق بدون دستور واضح يضع في الحسبان مصالح الشعب العراقي ووحدة البلاد ومبدأ المواطنة في المقام الأول. وعلى كل قوة سياسية عراقية شريفة ألا تنسى هذا المبدأ المفصلي النبيل.
من خلال ما حصل قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة وما رافقها وما تلاها نلاحظ ما يلي: الاستماتة من قبل جميع المكونات السياسية العراقية للوصول إلى الحكم وكأنه الجنة بعينها. وهذا حق مشروع، ولكن، ولكنْ، ينبغي أن يجري السعي بالطرق القانونية الأصولية ووفقا للاستحقاقات الانتخابية. يعني، من غير المنطق والعرف، أن يشكل الحكومة حزب أو تنظيم قد حصل في الانتخابات على مقاعد أقل من سواه. ومن غير المعقول أن يفرض شروطا قاسية فيها بعض الإذلال والإجحاف بحق الفائزين. لأن دور القوى التي لم تتصدر النتائج هي إما المشاركة في حكومة ائتلافية تحت قيادة الأوفر حظا في الانتخابات أو البقاء في صفوف المعارضة. إن دورة الزمن والحياة البرلمانية في ظل تداول السلطة سلميا قد تثأر من ذوي الممارسات الابتزازية والاستعلائية وممن يتصيدون في الماء العكر أو ممن يستهينون بمصلحة الشعب.
الأمر الآخر، أن تجاوزا واضحا قد حصل من قبل هذا الطرف أو ذاك على حقوق وثقة الناخب العراقي الذي استمات في الوصول إلى صناديق الاقتراع المحفوفة بمخاطر الإرهاب للإدلاء بصوته ظنا منه أن مرشحه هو الأفضل والأنسب لتحقيق طموحاته من جهة ونكاية بمن خانوا الأمانة ولم ينفذوا وعودهم من جهة أخرى.
لقد سار التجاوز عبر الخطوط التالية: ممارسات شراء ذمم الناخبين بأبخس الأثمان. الالتفاف على نتائج الانتخابات من قبل هذا الطرف وذاك. ترهيب وتخويف شرائح من الناخبين بعواقب التصويت لهذا الطرف أو ذاك. توسّل البعض بلحى وشوارب الآخرين من غير العراقيين(بعضهم حليقو الذقون والشوارب) للظفر بالسلطة. تصريحات متشنجة ومتعجرفة من قبل ممثلي هذه الكتلة أو تلك بحق هذا السياسي أو ذاك. السعي لتشويه سمعة بعض الرموز السياسية أو تسقيطهم، بعد الانتخابات، أقصد من حظي منهم بثقة الناخبين وهذا أمر غريب ومعيب. محاولة تسفيه القانون والقضاء أو القفز عليه. تعطيل العملية السياسية من خلال تغليب المصالح الفئوية والحزبية والخارجية على الإنصاف والعدل والمنطق ومصالح الشعب العراقي. صدور تصريحات متناقضة وغير مدروسة على لسان أكثر من مسئول داخل القائمة الواحدة ساهم بعضها في خلق تشنج في الحياة السياسية وأجواء من عدم الثقة بين القوى السياسية الرئيسة حتى كدنا نتخوف من غياب الحكمة لدى الساسة العراقيين.
من المعروف في العلاقات الدولية والحزبية أنه لا مجال لدعمك بدون مقابل، يظل السياسي العراقي الذي هو أضعف حلقة في الظرف الراهن(لأسباب باتت معروفة) مقارنة بنظرائه من غير العراقيين، أقول، يبقى هذا السياسي رهين مساومات ومداهنات لا مسوغ لها تجعل البرامج والشعارات التي رفعها أثناء الانتخابات في مهب الريح وتترك انطباعات سيئة لا تمحى لدى الناخبين. ناهيك عن تأسيس سابقة خطيرة في االممارسة السياسية العراقية الوليدة التي ينبغي أن تحتفظ قدر الإمكان بغشاء يقيها شر وتربص الطامعين بالبلاد.
يكفي بنظري أن تشوب السياسي العراقي اليوم شائبة تجعله (ولو دون قصد أو لسوء في التقدير) يتجاوز حساسية ناخبه لتهدد مستقبله طالما أن الانتخابات عملية كرّ وفرّ، وليس ثمة قوة سياسية ثابتة إلى ما لا نهاية في السلطة في ظل النظم الديموقراطية. إذنْ، فلنقل، ولكي لا نظلم الآخرين: إن قسما لا بأس فيه من القوى السياسية العراقية الحالية قد وقعت في دائرة خطوط التجاوزات الآنفة الذكر قولا وفعلا. من البديهي أن بعض هذه التجاوزات ثقيلة العيار ومردودها على مرتكبيها سيأخذ طابعا عقابيا على صعيدين رئيسين هما: من قبل الناخبين قبل كل شيء ناهيك عن حكم التاريخ أولا. وثانيا، على صعيد خلق اصطفافات جديدة بين القوى السياسية، سواء قبل دخول البرلمان أو بعده بقليل.
علمتنا السياسة وتجربة النظم الديموقراطية بما فيها الحديثة العهد، أنه لا توجد معايير ثابتة ومقدسة في السياسة وخصوصا في التحالفات التي تكتسي أهمية كبيرة اليوم في تقرير مصير العراق لاحقا. لأن الانتخابات الأخيرة لم تفرز لنا فائزا متميزا. خاصة وأن الفرق في النتائج بين الفائز الأول والثاني ضئيلة تماما وبالتالي- مهما قيل بشأنها- فهي غير حاسمة.
ما تزال التحالفات في العراق هشة ونتيجة ضغوط وعلى العموم فهي ذات منطلقات عشائرية، طائفية، أثنية، وتستند في أغلبها إلى حلقات من الضغوطات والأجندات التي لا علاقة لها بجوهر مطالب الناخب العراقي ومقتضيات الدولة الحديثة. التحالفات المتينة هي التي تستند إلى برامج واضحة المعالم ذات أفق مستقبلي، بقدر دورة انتخابية على أقل تقدير.
السؤال الذي يدور وسط الناخبين حاليا: هل مثلا، التحالف بين الائتلاف الوطني العراقي وائتلاف دولة القانون يحمل الأفق المشار إليه؟ سيكون جواب ذوي العقل والاختصاص، قطعا، بلا. حسنا، هل quot;القائمة العراقيةquot; قائمة على اتساق بين مكوناتها؟ الجواب، سيكون، قطعا، بكلا. هل برنامج quot;دولة القانونquot;، على سبيل المثال، هو أقرب إلى برنامج الائتلاف الوطني الموحد منه إلى برنامج العراقية أو أنه أقرب إلى العراقية منه إلى الائتلاف الوطني الموحد؟ الجواب بلا رتوش ومجاملات كالآتي: إن برنامج ائتلاف دولة القانون في أفقه الآني والستراتيجي (إذا افترضنا وجود مثل هذا الأفق) هو أقرب إلى الانفتاح والمرونة والاعتدال والدولة الوطنية العصرية من سواه من برامج الأحزاب الأخرى ذات المرجعية الدينية. وفي هذا النهج المعتدل المنفتح على الآخر واستقلاليته إلى حد ما، يكمن سر نجاحه أولا، ويمكن إضافة شخصية المالكي المقبولة اجتماعيا عاملا ثانيا في هذا النجاح. من ناحية أخرى فإن برنامج القائمة العراقية (إن كان هناك ثمة برنامج ذو أفق ستراتيجي لديها) ذو أبعاد وآفاق عصرية، وهو خليط من الليبرالية والعلمانية والوطنية وبعض من ملامح الحس القومي مطعمة بغزل (ظاهريا مرة ومبطنا أخرى) للرموز الدينية أو بعض القوى السياسية ذات الخلفية الإسلامية.
لو أردنا تجميع المادة المعروضة، كما يحصل وسط الباحثين، بغرض تصنيفها ومن ثم توزيعها والتوصل إلى استنتاجات يمكن الحكم عليها بما لا يجانب الصواب، لقلنا بالحرف الواحد: إن أقرب برنامجين ينفعان الناخب العراقي وحاضر ومستقبل العراق، على الأقل، بما يغطي الدورة البرلمانية المقبلة (أربع سنوات) هما برنامجا دولة القانون والعراقية. أما لماذا فنجيب بما يلي:
أولا، سيضمن أي تفاهم بين الطرفين، ولو من خلال النظر إلى مصالحهما الجزئية وليس الكلية، أقول سيضمن ما يلي: أولا، ولادة حكومة قوية ذات أغلبية نيابية كبيرة تجلب الاستقرار للبلاد وتطمئن غالبية أبناء الشعب العراقي. ثانيا، إن هذا التقارب المفترض لا يلغي شخصية أي من القائمتين بينما يمكن أن يحصل العكس تماما لدولة القانون إن اندمجت بالقوى الأخرى. ثالثا، يسهل تنفيذ الوعود المقطوعة للناخبين من الأطراف المذكورة على أقل تقدير. رابعا، يقطع الطريق على المحاصصة الطائفية والأثنية وعلى الذين سلكوا أو سيسلكون طريق الابتزاز السياسي بهدف تحقيق ما لم يتمكنوا من تحقيقه عبر صناديق الاقتراع. خامسا، سيسمح بإمكانية تعديل أو تغيير ما هو ملتبس ومشكل وضبابي في الدستور العراقي الذي جرت صياغته على عجل في بعض مواده وفقراته. سادسا، سيوفر الفرصة وبوقت أقصر للعراق على صعيد التعجيل في استعادة دوره في المنطقة والعالم بوجه حضاري جديد، باعتباره ممثلا لديموقراطية ناشئة واعدة ومسالمة في منطقة تسودها ممارسة احتقار القانون وحقوق الإنسان.
على أن هذا الاجتهاد (لست الوحيد الذي يفضله في الوقت الراهن) لا يعني إقصاء الآخرين وتهميشهم، بل على العكس، فإن ولادة تفاهم بين القائمتين الأكبر من حيث الاستحقاق الانتخابي سيجعل أمر مشاركة الآخرين من بقية الفائزين أسهل بكثير من ذي قبل وستصبح إمكانية فرض الشروط من قبل الآخرين غير واردة بإلحاح.
أعتقد، من ناحية أخرى، أن ضم quot;كتلة الأحرارquot; إلى هذا التفاهم سيعزز أكثر من الاستقرار في البلاد وسيضمن (بعد وضع ضوابط وأسس لمثل هذا التقارب) لائتلاف دولة القانون على وجه الخصوص، لعب دور أكبر في مسيرة العملية السياسية في البلاد، وسيتيح لكتلة quot;الأحرارquot; أن تصبح قوة سياسية يمكن الوثوق فيها أكثر من ذي قبل. علينا ألا ننسى حقيقة مفادها أن شرائح سياسية واجتماعية عراقية ليست قليلة ما زالت تتخوف من هذه الكتلة. لكن، الممارسة العملية إما أن تمحو مثل هذا التوجس وإما أن ترسخه. وهذا ما ستفصل فيه المقبلات من الأيام.
كان الفيلسوف الإغريقي سقراط يقول: quot;حياةٌ بلا رَويّةٍ لا تستحقّ الحياةquot;. نحن، العراقيين، خصوصا السياسيين منا، أحوج ما نكون اليوم إلى تطبيق هذه المقولة. لذا تراني بحكم كوني إنسانا مستقلا تماما وأحد المتضررين من النظام السابق وبنفس الوقت كوني متابعا(على مدى أربعين عاما) لتفاصيل ومجريات الأمور العراقية سياسيا واجتماعيا وثقافيا، أوجه ندائي الخالص قبل كل شيء، إلى القائمتين الفائزتين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وبالتالي فهما القوتان الرئيستان بحكم ما أفرزته نتائج تلك الانتخابات، بأن تحتكما من خلال العقلاء والشرفاء فيهما إلى منطق العقل والمواطنة والحرص على مصير العراق والشعب العراقي، وأن تتوقفا عند ما هو مشترك بينهما، عبر تكثيف اللقاءات وتقديم التنازلات المتبادلة، بغرض التوصل إلى تفاهم مشترك ضمن الوقت المتبقي قبل انعقاد الاجتماع المقبل للبرلمان، لطمأنة أغلبية الناخبين وإعادة الأمل إلى الشعب العراقي المضحي والمنهك نفسيا وحياتيا وجسديا، وإلى كل الحريصين على حاضر ومستقبل العراق.
لدي احساس الفنان والباحث والمستفيد من تجارب الشعوب، بأن تحالف دولة القانون والائتلاف الوطني الموحد حتى هذه اللحظة هش ولا يستند إلى مزاج الناخبين وما أفرزته الانتخابات.
بناء على ذلك، وسواء استمر quot;الائتلاف الوطني العراقيquot; الجديد المنبثق من دولة القانون والائتلاف الوطني الموحد أو فشل، فإن القائمتين اللتين حصدتا أكثر الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ستكونان- في حالة عدم تفاهمهما - أكثر الخاسرين حاضرا وفي المستقبل المنظور، لأنه ما الفائدة من المشاركة في حكومة quot;شعيط ومعيط وجرّار الخيطquot; (وآسف على هذا التوصيف الصريح) بدون أن تكون بإمكان القوى الأكثر ثقلا في الساحة من اتخاذ القرارات المناسبة ولدى الضرورة. وعليه فالبقاء في صفوف المعارضة لهو أشرف وأكثر تأثيرا واحتراما من قبل الناخب من المشاركة المعوقة في حكومة متناقضة الأهواء والمشارب.
سأختتم ندائي بمقولة ثانية لسقراط وهي: quot;الجوعُ أفضل طباخquot;. فهل سيكون ضغط الرأي العام العراقي وضيق الوقت لسان حال هذا النداء؟ وبالتالي، فهل سيطبخ ضيق الوقت الطبخة العراقية الوطنية الأصيلة المعبرة عن إرادة الناخب قبل سواه؟