(إنني عرفتك جيداً وبإمكاني أن أدل البوليس عليك كي يرسموا صورتك ويتعقبوك ولن تنجو من العقاب قط ) هذا ماقالته (جانيس ويلي) البالغة من العمر 21 عاماَ والباحثة في مجلة (نيوزويك) وهي مقيدة الى كرسي بعد أن اقتحم شقتها لص المنازل المحنك (ريتشارد روبلز).
كان المجرم قد خرج لتوه من السجن ولأنه مدمن على المخدرات وبحاجة الى المال فقد حزم أمره في النهاية على إنهاء حياة التشرد والشقاء فقرر أن يقوم بمغامرته الأخيرة في السطو على منزل في الحي الراقي في شرق نيويورك. وكانت هذه المغامرة فعلاً الأخيرة ولكن على نحو درامي. فبعد أن انتهى من سرقته فأخذ ماخف حمله وغلى ثمنه وصمم على الخروج فوجيء بباب المنزل الرئيسي يفتح وكان الداخل (ايميلي هوفرت) البالغة من العمر 23 عاماً والتي تعمل في مدرسة ابتدائي قريبة جاءت على غير موعد. وأمام التطور المفاجيء هاجم اللص ايميلي وربطها بدورها الى مقعد تحت التهديد بالسكين. عندها هددته جانيس بأنها سوف تساعد البوليس في رسم صورته وإلقاء القبض عليه.
وخلال لحظات تغير الجو تماماً فقد هرع الى زجاجة صودا فحطمها على رؤوس الاثنتين وحرصاً على إخفاء جريمته قام بطعن الشابتين عدة طعنات بمدية حادة أودت بحياتهما.
وتعرف الجريمة في التاريخ الجنائي على أنها من أبشع ماارتكب حتى اليوم. وبعد مرور 25 عاماً على (روبلز) خلف القضبان مازال يتذكر الواقعة جيداً وهو نادم أشد الندم على مادنت يداه ويقول لا أدري ماالذي حصل لي لقد فقدت عقلي يومها بكل بساطة.
ويعقب (دانييل جولمان) صاحب كتاب (الذكاء العاطفي Emotional Intillegence) على الواقعة بقوله:
(ومازال أمام روبلز حتى كتابة هذه السطور متسع من الوقت ليظل يندم على تلك الدقائق القليلة من انفجار الغضب، فضلاً أن مازال أمامه أن يقضي عقوبة السجن لمدة ثلاثين عاماً أخرى على الجريمة التي صارت مشهورة باسم جرائم قتل العاملات)(1).
نحن لم نفهم الانسان حتى الآن بسبب جهلنا (بتشريح) الدماغ من جهة. وكثافة (التعقيد البيولوجي) ثانياً. وقصور (الوسائل) سواء التكنولوجية أو مناهج التفكير والبحث ثالثاً. وأخيراً طبيعة (حقل البحث) فالانسان يبحث في كل حقل على أنه خارج عنه.
أما في (بحث الانسان) فهي محاولتنا اختراق جغرافيا غريبة للغاية حيث نريد دخول قارة مجهولة لنعرف كيف نعرف ونفهم كيف نفهم ونتصرف؟ إن الانسان يبحث في الطبيعة فيحاول فهم قوانينها ولكنه الآن يعكف على نفسه وفي هذا قدر من الغرابة والتناقض حتى لو كان البحث من مجموعة من البشر على مجموعة من الأناسي فهل هذا ممكن؟
إن الذي يعطي الموضوع قدراً غير عادي من التحدي والصعوبة هو أن يرجع الدماغ لتأمل نفسه، ولكن كلمة يتأمل نفسه تعني أن يقحم كائناً غريباً في البحث. بكلمة ثانية إن الوعي يقف منتصباً ليتأمل محرابه.
ولكن هذا يعني وجود محراب ووجود كائن آخر منفصل يتأمله.
إن العقل يريد أن يعقل نفسه وأداة الكشف والسبر والاكتشاف واحدة. إن هذا جعل أبحاث الكثير من علماء (النفسية العصبية) يصابون بالإحباط في كل مرة يقفون فيها ليحاولوا كشف لغز الدماغ وقوانين عمله وكيف يحدث الإدراك. فهل يعتبر مثل هذا البحث في حكم المستحيل وأنه ضرب الطريق في صحراء قاتلة بدون بوصلة وزاد وراحلة؟
وفي الحادثة التي بين أيدينا عن جريمة قتل العاملات استطاع الطب أن يخترق مفاوز جديدة في (تشريح المخ) فيكتشف أبعاد جديدة لتكوين الانسان وهي (خريطة العواطف).
ولقد حاولت أبحاث الفسيولوجيا (علم الغريزة) أن تفك رموز الدماغ ونجحت في الوصول الى شواطيء من الاوقيانوس الذي نحمله فوق أكتافنا أي أدمغتنا التي لاتزيد في الوزن عن ثلاثة أرطال.
ونحن نعلم اليوم الكثير عن (جغرافية الدماغ) ويعود الفضل في هذا إما الى الاصابات العصبية التي تكشف عن المناطق المدمرة في الدماغ ونتائج فعلها. أو في الأبحاث العصبية المتطورة التي تنزل بالكترودات من أسلاك ناقلة للكهرباء في غاية النحافة الى قشرة المخ فتلمس أماكن بعينها لتعرف وظيفتها كما تفعل المسابر حين تدخل أمواج المحيط لدراسة تياراته(2). ولكن أعقد موضوع حتى الآن هو في أمرين ماهي (الإرادة) تحديدا وأين مكانها في جغرافيا الدماغ؟
ثم ماهو الوعي أيضاً على وجه التحديد؟
نحن نعلم اليوم أن الدماغ مكون من مادتين رمادية وبيضاء وسبب اللون أن الأولى محتشدة بالخلايا العصبية الرمادية وهي مركز الانسان ومكان سره وألغازه وتعقيداته والثانية هي اللب وهي كم مرعب من (الكابلات) العصبية الممتدة من الخلايا العصبية في شبكات لانهائية من الربط بين المراكز العصبية وتبادل الخبرات والفعل المتبادل.
الأولى الرمادية تشبه (الطاقية) التي تغلف رأسنا وسماكتها تتراوح بين اثنين وأربعة مليمترات تحتشد فيها الخلايا العصبية في ستة طبقات طبقاً عن طبق أشبه بالسموات السبع التي تسطع فيها النجوم. كل خلية هي نجم متوهج كأنه كوكب دري يوقد من شجرة مباركة. وأشعة هذه النجوم تترابط فيما بين بعضها البعض وتتبادل التأثير.
ويشبه الدماغ شكل لب الجوز من مادة هلامية في غاية النعومة والطراوة تسبح في ماء حلو بحيث تتحمل الصدمات وهي التي أوحت لرواد الفضاء في تركيب قمرتهم مايشبه الدماغ والسائل المحيط به.
وفي سماء هذه المادة الرمادية ذات الطبقات الست يشع مائة مليار نجم. بقدر نجوم المجرة وبقدر عدد المجرات.
ونحن نعلم اليوم أن مجرتنا فيها مائة مليار نظام شمسي يدور في مركز كل نظام شمس مختلفة الحجم والتوهج. كما أن الكون المعروف حتى الآن تسبح فيه مائة مليار مجرة صنع الله الذي أتقن كل شيء.
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه.
وتحت الطبقات الستة بسماكة المليمترات يأتي نسيج داعم مكون أيضاً من نوع جديد من الخلايا العصبية هي الخلايا الدبقية وعددها 300 مليار خلية وكان يظن سابقاً ان دورها هو الدعم والاستناد ولكن تبين مؤخراً أن لها وظيفتها العصبية الخاصة بها أيضاً.
وأبحاث الأعصاب مازالت في أول الطريق بسبب طبيعة التطور العلمي حتى الآن. فمنذ (غاليلو غاليلي) في عصر النهضة الأوربية ختم على مصير ومسار تطور العلوم أن تبحث خارج الانسان؛ فمشى العلم ليس في طريق معرفة (الانسان) بل معرفة (الطبيعة) وهكذا نمت علوم الفيزياء والكيمياء ولم تنم علوم النفس الا يسيرا مع أن (سعادة الانسان) في الدنيا والآخرة و(العدل الاجتماعي) هو من خلال فهم الانسان ومعرفة دوافعه ولماذا يتصرف هكذا وليس ذاك؟
وهو الذي دعا سكينر في كتابه (تكنولوجيا السلوك الانساني) أن يعبر على نحو مثير أن فلاسفة اليونان لو حضروا اليوم مناقشات البرلمانات أو مناقشات قضايا الأخلاق والفكر والقانون لخاضوها بسهوله ولكنهم أمام أبحاث الفيزياء الذرية سوف يصمتوا وينعقل لسانهم من الدهشة خرسا لأنها تطورت بشكل مذهل في الحين الذي لم تنم فيه العلوم الانسانية ولا بعشر معشار من حجم علوم الطبيعة ويعقب سكينر على ذلك بقوله:
(ليس للفيزياء والبيولوجيا اليونانية الآن سوى قيمة تاريخية فما نحسب أن عالماً معاصراً يتوجه الى أرسطو طالباً العون ولكن محاورات أفلاطون لاتزال مقررة على الطلاب ويستشهد بها كما لو أنها تلقي ضوءً على السلوك البشري. وما نحسب أن بمقدور أرسطو أن يفهم صفحة واحدة من الفيزياء الحديثة. ولكن سقراط وأصدقاءه لن يجدوا صعوبة في متابعة أحدث المناقشات الجارية في مجال الشئون الانسانية. وفيما يتعلق بالتكنولوجيا فقد قطعنا خطوات هائلة في السيطرة على عالمي الفيزياء والبيولوجيا ولكن ممارساتنا في الحكم والتربية لم تتحسن تحسناً ملحوظاً)(3)
وعندما يبحث عن السبب يرى أن بذور العلم اليوناني على فجاجته فقد وضع اللبنات الأولى التي تطورت إليها علوم الفيزياء الحديثة ولكن علوم السلوك الانساني لم تكن لتحتوي على بذور صالحة للنمو. يقول سكينر:
(إن الفيزياء والبيولوجيا الحديثة تعالج بنجاح موضوعات ليست بالتأكيد أبسط من نواح كثيرة من السلوك البشري. ولكن الفرق هو أن الأدوات والمناهج التي تستخدمها الفيزياء والبيولوجيا هي ذات تعقيد متكافيء مع تعقيد الموضوع. ولكن قولنا أن الأدوات والمناهج ذات القوة المتكافئة غير متوفرة في ميدان السلوك البشري لاتعتبر تفسيرا إنها فقط جزء من اللغز المحير. فهل وضع انسان على سطح القمر أسهل من تحسين التربية في مدارسنا)؟
ويبدو أن التراكمات الكمية من المعرفة هي التي حققت هذه القفزة النوعية من الانجاز وهو مالم يحدث حتى الآن في علوم فهم الانسان.
يقول سكينر:(كان الشيء المثير في الوصول الى القمر يكمن في كونه امراً قابلاً للتحقيق. فقد وصل العلم والتكنولوجيا الى النقطة التي يمكن عندها أن يتم تحقيق هذا الأمر بدفعة عظيمة واحدة. وليس هناك من إثارة مشابهة في المشكلات التي يطرحها السلوك البشري).
مع هذا فإن ضفيرة ثخينة من العلوم تتشابك لسبر غور الانسان. وفي عام 1996 م احتشدت تظاهرة ضخمة في مدينة (تكسون) في ولاية أريزونا في أمريكا تضم عشرين ألفاً من العلماء في عشرات الحقول المعرفية من (علم النفس) و(الفلسفة) و(فسيولوجيا الأعصاب) وأطباء (الجملة العصبية المركزية وجراحيها) وعلماء (الالسنيات) وخبراء (الكمبيوتر) بحيث شكلت مواضيع البحث أربعة مجلدات وكل هؤلاءاجتمعوا من اجل كلمة واحدة (من أكون انا؟) في حل لغز الوعي والشخصية والارادة. وفي القصة التي أرودناها في مطلع البحث كشفت الأبحاث العصبية الحديثة عن جانب من سر انفجارات الانفعال.
ويعتبر عالم الأعصاب( جوزيف لو دو Joseph Le Doux) بمركز علوم الأعصاب في جامعة نيويورك أول من كشف الدور الرئيسي للنتوء اللوزي في الدماغ المتوسط والمسؤول عن العواطف.
وهكذا وضعنا اليد على الأقل من الناحية التشريحية على مكان الانفعالات. ويبدو أن هذا المركز مخصص في التعلم والذاكرة ويمثل مع (قرن آمون) القريب منه وهو مركز عصبي آخر يعمل على الذاكرة ولكنه خاص بالذاكرة للوقائع العادية. أما (الاميجدالا) أو النتوء اللوزي فهو مستودع الشحن العاطفي.
بمعنى أن الأول يتذكر الشخص حينما نراه ولكن تحرك العاطفة بالكره أو الحب من اختصاص الاميجدالا.
وكما يقول دانييل جولمان صاحب كتاب (الذكاء العاطفي) فإنه:
(في أول جزء من الف جزء من الثانية من فهمنا لشيء ما لانكون واعين لهذا الفهم فقط بل نقرر إذا منا نحبه أم لا).
كذلك عرف عن الأقنية العصبية التي تصل بين النتوء اللوزي وفصوص الدماغ الأمامية أنها أقصر وتقاس عادة بالألف من الثانية.
وقد عرف أن الزمن بين النتوء اللوزي ومقدمة الدماغ قد يأخذ 12 بالألف من الثانية ولكنه يأخذ ضعف الزمن حتى يتم تحليله في قشرة الدماغ التي تمثل مركز التحليل المنطقي البارد لاتخاذ القرارات الخطيرة.
وهذا يلقي الضوء على شيء خطير هو أنه بقدر ماكان دماغنا مؤهب للتصرف السريع وإطلاق أجراس الأنذار في المواجهات الخطيرة بقدر خطورة انفلات الأعصاب والدخول في حالة أشبه بالجنون وعدم التبصر بالعواقب كما حدثت في الجريمة التي رويناها عندما استولى الغضب والخوف على اللص. كما كشفت الأبحاث الحديثة ثلاثة أمور مثيرة: أن شبكات الاتصال محكمة بين النتوء اللوزي وفصوص الدماغ الأمامية حيث تمثل مراكز الحكمة واتخاذ القرارات وعندما تستؤصل يموت الانسان عاطفياً وتتبخر كل ألوان الحكمة من تصرفاته وقد يقع في مرض (الكسيثيمياAlexthimia) أي مرض فقد التعبير عن العواطف.
والأمر الثاني أن فصوص الدماغ الأمامية تتوزع فيها الوظائف فالمزعجات موجودة في اليمين ومفتاح تعديلها في الفص الأمامي الأيسر. بمعنى أن جراحة استئصال الفص الدماغي الأيمن الأمامي تجعل صاحبها سعيدا بدون منغصات.
وأما الأمر الثالث فقد تبين أن الطفل يولد وعنده الاميجدالا نامية بما فيها الكفاية وهذا يعني أن النمو العاطفي يتشكل بدون كلمة.
أي ان الخبرات الانفعالية تنمو بدون ضوابط الثقافة والكلمات وهنا يلتقي هذا الاكتشاف مع مدرسة علم النفس التحليلي التي ترى أن أزمات الطفولة تترك بصماتها الى بقية العمر مختبئة في اللاشعور.
وكما يقول دانيل جولمان:
(هذه الدروس غير الناضجة تظل قوالب صامتة من دون كلمات فقد خزنت هذه الذكريات العاطفية المبكرة في الاميجدالا وقت أن كان الأطفال بلا كلمات تعبر عن خبراتهم في تلك المرحلة من العمر. فعندما تثار تلك الذكريات في حياتهم تغيب الأفكار المنسجمة المترابطة حول الاستجابة وفي معظم الأحيان يكون شعورنا مغمورا بالحيرة والارتباط حين ننفجر انفعالياً).
هل عرفنا الانسان حقاً؟ إننا في الواقع نشق الطريق في القارة المجهولة متأخرين وكما يقول (الكسيس كاريل في كتابه (الانسان ذلك المجهول):
(لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان فإننا استطعنا ان نفهم جوانب معينة فقط من انفسنا.. إننا لانفهم الانسان ككل.. إننا نعرفه على انه مكون من اجزاء مختلفة وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا..فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة)(4).
ـــــــــــــــــــــــ
مراجع وهوامش:
(1) الذكاء العاطفي ـ دانييل جولمان ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 262 ترجمة ليلى الجبالي ص 31 (2) يراجع في هذا تجارب وايلدر بنفيلد في رسم جغرافيا كاملة للدماغ على راس ألف من المرضى في حالة الوعي الكاملة خلال جهد استمر خمسية سنة وختمه بكتابه عن لغز العقل ـ كتاب العلم في منظوره الجديد تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو ترجمة كمال خلايلي ـ سلسة عالم المعرفة رقم 134 بحث العقل (3) تكنولوجيا السلوك الانساني ـ تأليف ب. ف. سكينر ـ ترجمة عبد القادر يوسف ـ سلسة عالم المعرفة رقم 32 ص 7 (4) الانسان ذلك المجهول ـ تأليف الكسيس كاريل ـ ترجمة شفيق أسعد فريد ـ مكتبة المعارف ص 17