كبر المجهر الأشياء آلاف المرات، والإلكتروني قفز بالرقم إلى مائة ألف مرة ويزيد فرأينا فيروس الإيدز والسارز وأنفلونزا الخنازير، ويطمع العلماء مع المجهر البروتوني أن يرفعوا رقم التكبير إلى 800 ألف مرة، وقد نقترب بذلك من رؤية عالم لم نحلم به من بعد كما في غواصة الكابتن نيمو، ونزل السيكلوترون إلى فهم تراكيب المادة، ولكن أعجب المجاهر تلك التي وصل لها ستيفان هيل من مؤسسة ماكس بلانك في جوتنجن ـ ألمانيا؛ في اختراع مجهر اطلق عليه لقب (ستيد STED) بإمكانه رؤية التراكيب الخلوية في حالة الحياة، وهو أمر لم نكن نفكر فيه من قبل، وهذا يعني إمكانية الدخول إلى الدماغ وقراءة ماذا يحدث في التفكير وجنون العواطف وتقلب المزاجات وأي المواد ترحل وأي التراكيب تتشكل فنفهم الإنسان والطير والحيوان، مع هذا فهناك أسئلة تدير الرأس...
ثلاث أسئلة يحتار فيها العقل؟
من أين بدأ الكون وكيف بدأ وكم عمر الكون؟ هل هو أزلي أبدي؟ أم له عمر مقدر؟
وفي القرآن إشارة إلى أن الكون له بداية وله نهاية؟
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا علينا إنا كنا فاعلين..
ولكن ماذا يقول العلم؟ ولا نريد أن نمضي مع ترهات أصحاب الإعجاز العلمي، بل حديث العلم..
والسؤال الثاني: أين نهاية الكون؟ وكيف سينتهي؟
والسؤال الثالث؟ مم يتكون هذا الكون الذي نحن منه؟
والأسئلة الثلاث تتناول عالم الميكرو والماكرو؟ أي العالم الكبير والصغير؟؟
فأما بداية الكون فقد أجابت عنه نظرية الانفجار العظيم، فقالت بأن الكون له بداية، وهي بداية محددة، وهي نقطة نارية انطلقت قبل 13.7 مليار سنة.
وقد يتغير الرقم مع الزمن مع دقة الفيزياء؛ فيصلوا بالرقم مثلا، مثل سعر العملات إلى 13.45782078098765 سنة، بل والساعة واليوم والدقيقة؟؟
وكلمة نارية تخفف المجهول، لأنها في الواقع كانت حرارة لانهائية، إذا قارناها مع حرارة الشمس التي يصل سطحها إلى 6000 درجة، وباطنها إلى عشرة ملايين، مقارنة مع انفجار السوبرنوفا الذي تصل فيها درجة الحرارة إلى 200 مليار درجة.
ومن أغرب الأمور في الفيزياء هي التناقض بين حافتي البرودة والحرارة، فالبرودة لها قاع، وهو قاع محدد، حدده الفيزيائي (كالفن) بما يعرف بالصفر المطلق وهو 273,15 درجة تحت الصفر المعروف، حين يتجمد الماء محولا طبيعته، من سائل إلى جسم صلب، ويكبر حجمه خلاف كل المعادن التي تنكمش بالبرودة؟
أما الحرارة فليس لها سقف، ويمكن أن تقفز درجة فوق درجة إلى اللانهاية، حتى يمكن الوصول إلى نقطة بداية الكون، حين كان الكون كله مضغوطا في نقطة رياضية (انتبه نقطة رياضية غير مادية)، حيث تتعطل في هذه المرحلة (المتفردة) كل قوانين الفيزياء المتعارف عليها في عالمنا الحالي، من الزمان والمكان والمادة والقوانين والطاقة (بأنواعها الخمس من الكهرباء والمغناطيس والجاذبية وقوى النواة القوية والضعيفة) التي تسيطر على الكون وهو لها خاضع.
وأما نهاية الكون فعلمها عند ربي، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
ويٍسألونك عن الساعة؟ قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماء والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها؟
وأما مكونات المادة فقد وصلت الرحلة إلى حافة سحيقة، دون الذرات، حيث تم التعرف على 24 نوعا من الجزيئات دون الذرية، والبحث جار حاليا عن الجزيء (دون الذري) رقم 25 الذي أخذ اسم (هيجز)، نسبة لاسم عالم سكوتلاندي، تنبأ به قبل 44 سنة، وكتب فيه صفحتان بثلاث (فورمولات) يحدد طبيعته، وأنه هو الذي يعطي الجزيئات كتلتها، مما جعل بعض العلماء يعتبرونه لعنة مضللة، والآخرون هبة من الله لأنه سوف يشرح طبيعة المادة.
ونفس العالم (هيجز) استدعي إلى وكالة سيرن للفيزياء، النووية القريبة من جينيف، ليكون الشاهد على أعظم تجربة سيقوم بها جهاز (أتلاس) و(أليس)، في تكسير المادة، في محاولة لاستخلاص الأصناف دون الذرية، وهل هناك شيء جديد لم يتعرفوا عليه؟ حيث تظهر بعض الأنواع من الجزيئات دون الذرية، مثل الكوارك، التي يشكل ثلاثة منها البروتون، ولكن مع الطاقة العليا تبدأ أنواع جديدة في الظهور.
واليوم نشأ علم جديد يجمع بين طرفي المعادلة أي الكوسمولوجيا والجزيئات دون الذرية..
والمهم فإن الفيزياء لم تعد نظرية، بل سبقت الفيزياء، بل أصبحت التجارب توحي بأفكار جديدة، وليس كما كان المعهود أن الفيزياء النظرية توحي بالتجربة لتؤكد مضامينها.
ومن أجل الوصول إلى مكونات الذرة الفعلية، فقد فكر العلماء في بناء مسرع لم يخطر على قلب بشر، ساهمت فيه معظم الدول الأوربية، وهو الأعظم في العالم ويسمى (صادم الهدرونات الأعظم أي الجزيئات دون الذرية Large Hadrons Collider=LHC).
وفكرته بسيطة ولكن نتائجه مهولة؟
فماذا يريد العلماء من هذا الصادم الأعظم؟
في الواقع إن هذا المشروع لو أردنا تبسيطه يقوم على محاولة دفع الجزيئات دون الذرية، أي البروتونات مثلا، في شعاع بسرعة تقترب من سرعة الضوء، وبحرارة تقفز إلى بلايين الدرجات، في جوف أنبوب مبرد إلى 271 تحت الصفر، مما يشكل جوا بدون فرامل، لاندفاع حزم البروتونات، ولإمكانية لجم الحرارة المخيفة؛ فليس من معدن وفخار، يمكن أن يصمد لهذه الحرارة دون أن يتبخر!!
ولنتصور الآن أن البروتونات، التي يقوم التصور على أنها كرات تترنح في الفضاء، تحمل في باطنها ثلاث كرات من الكوارك، تقترب من نظيرتها بسرعة مخيفة، الرأس للرأس، ثم تنطح كل واحدة الأخرى، بحيث يحدث من نتيجة هذا الصدم الساحق، تكسير بلورة البروتون، ليندلق منها الكواركات وسواها.
وفي درجة حرارة تقترب من حرارة النشأة الأولى للكون، حيث كان الكون في أقل من ميكرون من الثانية، بعد الخلق الإلهي، على شكل (مرقة) حساء مخيف السخونة، ولا يحوي سوى مزيج من الكوارك والجلونات.
وهو ما يراهن عليه العلماء، أن يرصدوه، في وقت يشبه لمح البصر أو هو أقرب، أي ذلك الزمن الذي يحتاجه مرور الضوء لعبور مساقة قطر ذرة من الهيدروجين؟
والسؤال أي فاحص وكاشف يستطيع التقاط تلك الحرارة المهولة؟ التي تصل إلى بضع آلاف من مليارات درجة حرارية؟ وأي كاشف يستطيع أن يقول أن المادة مكونة من كذا وكذا؟؟ وأي كاشف وعداد يستطيع التكهن بوجود عوالم غير ما نعرف في هذه اللحظة المتفردة، كما يتصور علماء الأوتار الفائقة؟؟
إن الكون حين تشكل لم يتطلب أكثر من عشرة ميكرونات من الثانية (الميكرون واحد من مليون)، حين كان في وضع حساء (مرقة الجلونات والكوارك)، واحتاج 3 دقائق حتى تبدأ الكواركات في الالتحام مع بعض، لتشكيل البروتونات والنيترونات الأولى، وكانت حرارة الكون حينها 2 بليون درجة (ألفي مليار)، ولكنه احتاج إلى 380 ألف سنة، حين كانت حرارة الكون مليار درجة ليكون نويات الذرات الأولى مثل الهليوم، ولكنه احتاج 200 مليون سنة أخرى حتى أصبحت درجة الحرارة في الكون 2700 ليطبخ الكون على نار هادئة، ولتتشكل الذرات المعتدلة الأولى في الكون من الحديد والنحاس والذهب والخارصين، التي سيتشكل منها الخلق الإلهي..
ومنها خلقنا.. ولكن ليس قبل رص الذرات في كائنات عضوية اسمها الخلايا، والتي ينرص منها سبعين مليون مليون عبوة حتى تصبح إنسانا سويا؟
ولكن الرحلة مازالت طويلة للخلق العضوي، فضلا عن خلق الإنسان، فالحياة بعد المادة احتاجت 800 مليون سنة حتى تشكلت الخلية الأولى بدون نواة، تماما كما تم خلق الذرة أولا بنواة، قبل أن تظهر الذرة المعتدلة بنواة من البروتونات وسحابة من الإلكترونات.
واحتاج الكون ملياري سنة (قبل 3.6 مليار سنة إلى 1,6 مليار ما احتاجته عملية طبخ الخلية الوحيدة وإنضاجها) حتى يخرج الخلية الأولى المعتدلة بنواة وسيتوبلاسما وجدار عازل.
ولم تظهر عديدات الخلايا إلا قبل 570 مليون سنة، أما الإنسان فلم يظهر إلا قبل بضع ملايين من السنين، ولم يكن آدم المستقر، ولم يظهر الإنسان العاقل إلا منذ 200 ألف سنة، وهو الذي علمه الرب الكلمات، ثم قال للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين..
ومع النطق وفتح الباب للغة الترميزية، أصبح الإنسان في قدرة الإنسان تسمية كل شيء بكلمات تجريدية، دون أن توجد..
ولخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لايعلمون؟
ونعود إلى تجربة الصدم العظيم، فأين سيكون هذا السباق لهذا الصدم المريع؟ وما ذا يتوقع العلماء أن يحدث في مربعات الصراع هذه؟
إن الأنبوب الذي سيمشي فيه شعاع البروتونات، سينطلق من نقطة صفر، في نفق مظلم تحت الأرض، في الصخر الصلد على عمق 50 إلى 160 متر تحت الأرض، بنته وكالة سيرن (CERN) بنفقات زادت عن ثلاث مليارات يورو، بجهد سنوات، وبطول 27 كم، في عمق جبال (اليورا) الممتدة بين سويسرا وفرنسا، فلم يعد حدود بين البشر مع العلم..
وبذا وحد العلم البشر بقدر ما فرقتهم الجغرافيا السياسية.
ومع انطلاق شعاع البروتونات مثل منظر سباق الخيل أو الكلاب، سيتم تدويرها في النفق، ومع كل دورة ستحفز أكثر، وتشحن أعظم، مع الانتباه أن لا يحدث ما لا يحمد عقباه فتنفلت الطاقة في اتجاه غير المخطط لها، وهنا التحدي، لأن عدادات السرعة البالغ عددها 150 ألفا ستقوم بهذا الرصد..
وحين تشتد فوعة القذف والسرعة، سيتم تغيير المسار، كما هو في قضبان سكة الحديد، حيث سيتم حشر الشعاع البروتوني في مكان محدد، ثم يؤتى بحزمة مضادة من الاتجاه المضاد، وفي فناء ذلك المكان، ستحدث معركة ليست مثلها معركة، تحت أرضية، لم تخطر على قلب بشر، لأن مئات الآلاف من الحزمات ستتصادم بمثيلاتها، ولن يمكن رصد كل مكان في المعركة، وهي تشبه ملايين الجنود المتقاتلين، ويجب رصد المعركة بين اثنين، وعدد محدد من هذه المعارك الفردية، ويقول العلماء إن تفاصيل هذه المعركة الفردية لوحدها، قد تعجز كل كمبيوترات العالم من رصد محتوياتها وتفصيلاتها؟
وهنا التحدي لأنه سيتم الكشف عن أشياء جديدة، سواء جزيئات دون ذرية لم يعرفوها من قبل، أو حتى طبيعة المادة..
وبانفصال عن النفق الرئيسي لوكالة سيرن، سيتم إجراء هذه التجارب في أربع أمكنة، أعطوها أسماء مختلفة، أهمها أليس (ALICE) وأتلاس (ATLAS).
فأما في (اليس) فسوف يتم التعرف على (الشوربة) الكونية من الجلونات والكوارك، فيرجعوا إلى الزمن صفر، كيف خلق عالمنا؟
وأما القسم بي من صادم الهدرونات الأعظم (LHCb) فسوف يتم التعرف على مضاد المادة، وهي نفس الذرة مقلوبة السحنة، مثل من ينظر في وجهه في المرآة، فيرى كل شيء مقلوبا، ذلك أن كوننا مركب من مادة ـ ومضاد مادةـ ومادة معتمة، تمسك المكون أن يتفلت.
مذكرا بالآية الكريمة إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما أحد من بعده؟؟
فكما كان للكون تمدد، فهناك فرامل تمسك به أن يتفلت في الفراغ السحيق اللانهائي؟
وأما في (أتلاس) فسوف يتم الكشف عن الجزيء المفقود (هيجز) وأنواع أخرى أعطوها أسم فائقة التناظر؟
بل وحتى الثقوب السوداء، مما أدخل الرعب في قلوب البعض، أنه قد ينشأ ثقب أسود، ليس في الحسبان، فيشفط الكرة الأرضية أمنا الحنون إلى أمعائه، وهو أمر دفع العالم (والتر فاجنر) إلى مقاضاة وكالة سيرن عليه، وهو أمر جد وليس بالهزل كما نرى، فهي تجربة كونية فائدتها للجنس البشري، وضررها إن حصل سيكون طامة عامة للجنس البشري؟
ولكن السيد (شوكرافت) من مجموعة علماء أليس يبتسم لهذه التصورات، ويقول إنه ليس له مبرر، بسبب قصر الزمن الذي سوف تنشأ فيه ثقوب سوداء..
وبالمقابل يراهن علماء آخرون على الاستفادة من الثقوب السوداء في كيفية الاستفادة من الطاقة، لأن حواف الثقوب السوداء وحش كوني ضار يلتهم كل ما يدفع لجوفه؟؟ وهي ستكون على كل حال ثقوب سوداء صغيرة (Mini Black Whole)...
إن المجهر مكننا من رؤية الخلايا مكبرة آلاف المرات، أما المجهر الإلكتروني فأتاح لنا رؤية الفيروسات مكبرة عشرات الآلاف من المرات، أما تلسكوبات المادة مثل اليس وأطلس فسوف تتيح لنا للمرة الأولى رؤية الذرات ومكوناتها..
وفوق كل ذي علم عليم.. وعلم الإنسان ما لم يعلم.. وكان فضل الله عليك عظيما.. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.. وسع كرسيه السموات والأرض..
- آخر تحديث :
التعليقات