في مارس من عام 2003م انعقد مؤتمر القمة الإسلامي فقام أعضاء من الوفدين العراقي والكويتي بتوجيه اللوم للآخر بجارح من القول وبذيء العبارات. وتمنيت أن يقوم عزت الكيمياوي من الطرف العراقي عندما هاجمه الكويتي فيقول: إنني أعذر أخي الكويتي فقد سببنا لهم من الألم الشيء الكثير ويا إخوان كلنا مخطئون. وكلنا شارك في هذه المأساة بقدر. وليس لي إلا أن أقول ما قاله آدم من قبل: quot;ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونًن من الخاسرينquot;. ويا أصحابي كلنا مستهدفون. وهلموا إلى جلسة اعتراف ونقد ذاتي وتوبة.
لو قال هذا الطرف العراقي لصفقت له القاعة. ولسكت الجميع لأن الكل يعرف أن الكل مشارك في الجريمة بقدر. ولوضع الجميع أقدامهم في طريق الحل الصحيح.
واليوم طار صدام والدوري وعصابة البعث بأكملهم بين مشنوق ومذبوح ومنتوف، ومزقوا شر ممزق آية للمتوسمين وموعظة للغافلين.
وفي يوم كنت معتقلاً فلما أُفرج عني سألني أحد رجال المخابرات فقال يا أستاذ ما رأيك في مهنتنا؟ قلت: قد حكم الله فيكم. نظر إلي مرتاعاً وهتف: الله تكلم عن المخابرات؟ قلت له نعم. فقد جاء في سورة القصص أن quot;فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئينquot;
وعندما تحدث القرآن عن الصدع المخيف في المجتمع الإسلامي عند حادثة الإفك قال quot;لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم quot;. وعزى المشكلة إلى عدم وجود ما يكفي من حاسة النقد الذاتي لتعطيل أثر الاتهاماتquot;وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيمquot;.
وعندما كان النازيون يحاكمون في نورمبرغ عام 1945م كانوا يرددون جملة بلهاء جوفاء حمقاءquot; كانت الأوامر ولم يكن علينا سوى التنفيذquot; ولكن صدام لم يحرق الأكراد بالكيماوي بيده بل بإيعاز إلى عزت الكيمياوي. كما أن الأخير لم يرش الـ د. د. ت على الذباب البشري بيده بل قام بالمهمة شباب عراقيون مغفلون تلقوا الأوامر فنفذوها وأنهوا حياة الآلاف بأشنع ميتة ممكنة.
وصدام ليس المجرم الوحيد في غابة العرب التي تسرح فيها الضواري في مساحة هائلة من السفاري، فأمثاله لا يحصيهم عدد ولا يضمهم كتاب وجرائمهم أكثر من أن تحصى. وفي خزانة أمريكا من الوثائق لإدانة الكثير من حكام العالم العربي في ساعة الفصل. ويل يومئذ للمكذبين.
ولكن صدامأصبح في ذمة التاريخ فبصره اليوم عند ربه حديد وهو سائله عما جنت يديه ذلك يوم التغابن.
ونحن نكتب ليس لأننا جريئون. كما أن الصحافة تنشر ليس لأنها حرة. ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها. وعلى الكاتب أن ينير القاريء ولو بعد حين.
ويقال عن هيكل أنه يكتب عن الزعماء بعد موتهم، ولكني أطلع على مايكتب وأقول؛ نصفه إلى البحر، وربعه بلف ونفخ، وربعه مشكوك فيه عليه إشارة استفهام بحجم جبل قاف.
والعرب يصغون له وكأن على رؤوسهم الطير في موعظة الجبل في قناة خليجية، فالرجل في النهاية صنيعة العجل الناصري، وهو رئيس كهنة آمون للفرعون بيبي الثاني. .
كما في تعانق الجبت والطاغوت بمزيج جهنمي من اغتيال العقل بالأوهام والإرادة بالطغيان. .
والمهم فهذا المرض ليس عراقيا كما أنه ليس مرض صدام. ونخطيء كثيراً حينما نركض خلف البعوضة وننسى المستنقع. ونتذكر الاستعمار ولا نتفطن إلى القابلية للاستعمار.
وتحرير هذه المسألة على هذا النحو مريح وتجعلنا نتأمل المشكلة في جذورها فتخف حدة غضبنا وكراهيتنا لحكام المنطقة.
وحسب (الكواكبي) في كتابه (طبائع الاستبداد) أنه لا حاجة لإزالة الطاغية بل فرملته وتقليم أظفاره وتعليمه أن لا يتجاوز حدوده.
والتاريخ يعطينا نماذج لا نهائية لهذه الحماقة الإنسانية. فاليهود والنصارى اختلفوا وكل نعت الآخر أنه ليس على شيء quot;وهم يتلون الكتابquot; ويرجع القرآن المرض إلى تشابه الثقافة quot;تشابهت قلوبهمquot; كما هو الحال مع الفريق العراقي والكويتي. وآخر من شكله أزواج.
وينطبق هذا القانون على السياسة لأن من يصنع السياسة نفوس بشرية مركبة في الأصل على الاختلاف والتحيز. وكل منا متحيز ومتعصب بقدر. وقد يكون أقلنا تحيزا من ينتبه إلى هذا القانون ويفرض في نفسه أنه متحيز. ولو فعل هذا حكام العرب لمشوا في طريق الحل. ولكن لا أحد ينظر إلى المشكلة كما نظر آدم وحواء فقالوا quot;ربنا إننا ظلمنا أنفسناquot; بل يسلكون سبيل الشيطان وساء قرينا فيقولوا نحن لم نخطيء ولكن الطرف الآخر مخطيء ومتآمر وعميل. ولكن كل منا مخطيء ومتآمر وعميل بقدر وحسب زاوية الرؤية.
وأنا شخصياً أنظر إلى موضوع العمالة وفق تحليل خاص. ولعل أفضل ما قرأت لفؤاد زكريا في كتابه (العقل العربي) في فك أسطورة الحاكم والأتباع أنه لا يوجد حاكم عميل. وإذا كان عميلاً لأحد فهو عميل لكرسيه الذي يجلس عليه. وأن الحكام ليسوا مثل البيدق على لوحة الشطرنج أو العبد الذي يؤمر أن يحضر قدحاً من الشاي فيفعل حتى لو كان من نموذج نرويجا طاغية باناما الذي صنعه بوش الأب على عينه فهو يكرر قصة فرانكنشتاين الذي تمرد على من صنعوه.
وعندما يجتمع المختلفون ويحاولون توظيف الله والنصوص المقدسة كل لصالحه فهم لا يحصدون إلا العداوة المريرة. وتعطيل أي اجتماع لاحق. وهو الحاصل من اجتماعات العرب والمسلمين.
ولكن هذا ليس مرضاً خاصاً في المسلمين أو العرب بل هو مرض إنساني عام. وفي حرب الأرمادا 1588م أرادت إسبانيا تحويل بريطانيا بالقوة إلى الكثلكة فهلك الأسطول الذي لا يقهر وعندما وصلت الأنباء إلى الملك فيليب تعجب من الهزيمة مع أنه كان سينشر (العقيدة الصحيحة).
وفي مؤتمر الدرعية الذي عقد 1816 م ذبح إبراهيم باشا 500 من علماء الوهابية في صحن المسجد ودفنهم في مقبرة جماعية وهو يظن أنه طهر الأرض من المارقين.
وعندما اختلف تروتسكي مع ستالين انتهت حياته ببلطة فلقت رأسه نصفين.
وحزب البعث بجناحيه حصلت بينهما من العداوة ما لم يحصل بين العرب واليهود مع أن الاثنين توأمان من رحم واحدة.
وفي عام 1139 م اجتمع في روما ألف عالم مسيحي من كل أصقاع المملكة المسيحية لفك الاشتباك بين الكنيسة الشرقية والغربية وجمع شمل المسيحيين حول مسألة نظرية لا قيمة لها هي: quot;هل الروح القدس انبثق من الآب والأبن أم من الآب فقط؟ ولكن المؤتمر فشل وما يزالون مختلفين.
وعندما اختلف الإخوان المسلمون مع البعثيين في سوريا لجأوا للبعثيين العراقيين. كذلك فعل حزب الدعوة الإسلامي الذي قاتل البعثيين العراقيين وقفز إلى حضن البعثيين السوريين. ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
وعند الصراع يرى كل طرف أنه لو تعامل مع الشيطان فلا جناح عليه. ولكن مشكلة الشيطان أن حزبه من الشياطين. وهكذا فصراع السياسيين هو صراع الشياطين ونار تأكل بعضها البعض لو كانوا يعلمون.
واليوم في ظلمات العصر السياسي العربي يجب تأمل المسألة بعيدا عن الأخلاق وتعاليم الأنبياء لأن هذا يحتاج إلى طاقة صعود أخلاقية غير موجودة ويفتقدها السياسيون كما ينقص الأكسجين في الارتفاعات. ويجب أن يلجأوا لحكمة الجرذ والسنور من أحل البقاء.
وتقول الحكاية أن العداوة كانت مستفحلة بين الاثنين كما هي الآن بين العرب في غابة العربان وغيلانها من الديكتاتوريين.
وفي يوم خرج الجرذ يبحث عن طعامه وهو في غاية الحذر من جاره السنور الذي لا يأمن بوائقه فأبصر عدوين بدل واحد. بوم على شجرة يتأهب للانقضاض عليه. وابن آوى يتربص به ريب المنون. ولكنه فوجيء بالسنور عدوه قد سقط في حبال صياد. قال لعلك فرحت بحالتي؟ قال له: أنا وأنت في الهم سواء. فلنتعاون فننجو جميعاً. فاطرد عني ابن آوى والبوم وأنا أقرض لك الحبال فتنجو معا. ثم إن السنور أطلق أصواتا أفزع بها البوم فطار وهرب ابن آوى فاختفى. وكان الجرذ أثناء هذا منهمك في قرض الحبال فلم يبق سوى عقدتين فوقف. فالتفت إليه السنور فزعاً وقال أهي خيانة؟ قال لا ولكن تركتهما أماناً لنفسي فإن جاء الصياد قطعتها وانشغلت أنت عني بالصياد فنجونا جميعاً. وبعد قليل وصل الصياد فقطع الجرذ آخر الحبال وقفز السنور وانزوى الجرذ في جحره أمام دهشة الصياد.
والعرب اليوم عليهم أن يستفيدوا من هذه الحكمة أكثر من الأخلاق المزعومة والدين المشترك ولغة الضاد التي لا تجمعهم.